قِصَّةُ سَلْمَانَ الفَارِسِيِّ (ع) ـ ب ـ
 
(1/464)
قَالُوا: أَنْتَ ضَعِيْفٌ، غَرِيْبٌ، ابْنُ سَبِيْلٍ، وَهُوَ نَازِلٌ عَلَيْنَا، فَلاَ نَقْطَعُ عَلَيْهِ صَلاَتَهُ مَخَافَةَ أَنْ يَرَى أَنَّا نَسْتَثْقِلُهُ.
فَعَرَضْتُ لَهُ، فَارْتَعَدَ، ثُمَّ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:
مَا لَكَ يَا بُنَيَّ! جَائِعٌ أَنْتَ؟ عَطْشَانُ أَنْتَ؟ مَقْرُوْرٌ أَنْتَ؟ اشْتَقْتَ إِلَى أَهْلِكَ؟
قُلْتُ: بَلْ أَطَعْتُ هَؤُلاَءِ العُلَمَاءَ.
قَالَ: أَتَدْرِي مَا يَقُوْلُ الإِنْجِيْلُ؟
قُلْتُ: لاَ.
قَالَ: يَقُوْلُ: مَنْ أَطَاعَ العُلَمَاءَ فَاسِداً كَانَ أَوْ مُصْلِحاً، فَمَاتَ، فَهُوَ صِدِّيْقٌ، وَقَدْ بَدَا لِي أَنْ أَتَوَجَّهَ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ.
فَجَاءَ العُلَمَاءُ، فَقَالُوا: يَا سَيِّدنَا! امْكُثْ يَوْمَكَ تُحِدِّثْنَا وَتُكَلِّمْنَا. (1/518)
قَالَ: إِنَّ الإِنْجِيْلَ حَدَّثَنِي أَنَّهُ مَنْ هَمَّ بِخَيْرٍ فَلاَ يُؤَخِّرْهُ.
فَقَامَ، فَجَعَلَ العُلَمَاءُ يُقَبِّلُوْنَ كَفَّيْهِ وَثِيَابَهُ، كُلُّ ذَلِكَ يَقُوْلُ:
أُوْصِيْكُمْ أَلاَ تَحْتَقِرُوا مَعْصِيَةَ اللهِ، وَلاَ تَعْجَبُوا بِحَسَنَةٍ تَعْمَلُوْنَهَا.
فَمَشَى مَا بَيْنَ نَصِيْبِيْنَ وَالأَرْضِ المُقَدَّسَةِ شَهْراً، يَمْشِي نَهَارَهُ، وَيَقُوْم لَيْلَهُ، حَتَّى دَخَلَ بَيْتَ المَقْدِسِ، فَقَامَ شَهْراً يُصَلِّي اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ عُلَمَاءُ بَيْتِ المَقْدِسِ، فَطَلَبُوا إِلَيَّ أَنْ أَتَعَرَّضَ لَهُ، فَفَعَلْتُ، فَانْصَرَفَ إِلَيَّ، فَقَالَ لِي كَمَا قَالَ فِي المَرَّةِ الأُوْلَى.
فَلَمَّا تَكَلَّمَ، اجْتَمَعَ حَوْلَهُ عُلَمَاءُ بَيْتِ المَقْدِسِ، فَحَالُوا بَيْنِي وَبَيْنَهُ يَوْمَهُم وَلَيْلَتَهُم حَتَّى أَصْبَحُوا، فَمَلُّوا، وَتَفَرَّقُوا، فَقَالَ لِي:
(1/465)
أَيْ بُنَيَّ! إِنِّي أُرِيْدُ أَنْ أَضَعَ رَأْسِي قَلِيْلاً، فَإِذَا بَلَغَتِ الشَّمْسُ قَدَمَيَّ فَأَيْقِظْنِي.
قَالَ: وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّمْسِ ذِرَاعَانِ، فَبَلَغَتْهُ الشَّمْسُ، فَرَحِمْتُهُ لِطُوْلِ عَنَائِهِ وَتَعَبِهِ فِي العِبَادَةِ، فَلَمَّا بَلَغَتِ الشَّمْسُ سُرَّتَهُ اسْتَيْقَظَ بِحَرِّهَا.
فَقَالَ: مَا لَكَ لَمْ تُوْقِظْنِي؟
قُلْتُ: رَحِمْتُكَ لِطُوْلِ عَنَائِكَ.
قَالَ: إِنِّي لاَ أُحِبُّ أَنْ تَأْتِيَ عَلَيَّ سَاعَةٌ لاَ أَذْكُرُ اللهَ فِيْهَا، وَلاَ أَعْبُدُهُ، أَفَلاَ رَحِمْتَنِي مِنْ طُوْلِ المَوْقِفِ، أَيْ بُنَيَّ! إِنِّي أُرِيْدُ الشُّخُوْصَ إِلَى جَبَلٍ فِيْهِ خَمْسُوْنَ وَمَائَةُ رَجُلٍ، أَشَرُّهُمْ خَيْرٌ مِنِّي، أَتَصْحَبُنِي؟
قُلْتُ: نَعَمْ.
فَقَامَ، فَتَعَلَّقَ بِهِ أَعْمَى عَلَى البَابِ، فَقَالَ:
يَا أَبَا الفَضْلِ! تَخْرُجُ وَلَمْ أُصِبْ مِنْكَ خَيْراً؟
فَمَسَحَ يَدَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَصَارَ بَصِيْراً.
فَوَثَبَ مُقْعَدٌ إِلَى جَنْبِ الأَعْمَى، فَتَعَلَّقَ بِهِ، فَقَالَ:
مُنَّ عَلَيَّ مَنَّ اللهُ عَلَيْكَ بِالجَنَّةِ.
فَمَسَحَ يَدَهُ عَلَيْهِ، فَقَامَ، فَمَضَى - يَعْنِي الرَّاهِبَ -.
فَقُمْتُ أَنْظُرُ يَمِيْناً وَشِمَالاً لاَ أَرَى أَحَداً، فَدَخَلْتُ بَيْتَ المَقْدِسِ، فَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ فِي زَاوِيَةٍ، عَلَيْهِ المُسُوْحُ، فَجَلَسْتُ حَتَّى انْصَرَفَ.
فَقُلْتُ: يَا عَبْدَ اللهِ! مَا اسْمُكَ؟
قَالَ: فَذَكَرَ اسْمَهُ. (1/519)
فَقُلْتُ: أَتَعْرِفُ أَبَا الفَضْلِ؟
(1/466)
قَالَ: نَعَمْ، وَوَدِدْتُ أَنِّي لاَ أَمُوْتُ حَتَّى أَرَاهُ، أَمَا إِنَّهُ هُوَ الَّذِي مَنَّ عَلَيَّ بِهَذَا الدِّيْنِ، فَأَنَا أَنْتَظِرُ نَبِيَّ الرَّحْمَةِ الَّذِي وَصَفَهُ لِي، يَخْرُجُ مِنْ جِبَالِ تِهَامَةَ، يُقَالُ لَهُ: مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ، يَرْكَبُ الجَمَلَ وَالحِمَارَ وَالفَرَسَ وَالبَغْلَةَ، وَيَكُوْنُ الحُرُّ وَالمَمْلُوْكُ عِنْدَهُ سَوَاءً، وَتكُوْنُ الرَّحْمَةُ فِي قَلْبِهِ وَجَوَارِحِهِ، لَوْ قُسِّمَتْ بَيْنَ الدُّنْيَا كُلِّهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَكَانٌ، بَيْنَ كَتِفَيْهِ كَبَيْضَةِ الحَمَامَةِ عَلَيْهَا مَكْتُوْبٌ، بَاطِنُهَا: اللهُ وَحْدَهُ، لاَ شَرِيْكَ لَهُ، مُحَمَّدٌ رَسُوْلُ اللهِ، وَظَاهِرُهَا: تَوَجَّهْ حَيْثُ شِئْتَ فَإِنَّكَ المَنْصُوْرُ، يَأْكُلُ الهَدِيَّةَ، وَلاَ يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، لَيْسَ بِحَقُوْدٍ وَلاَ حَسُوْدٍ، وَلاَ يَظْلِمُ مُعَاهِداً، وَلاَ مُسْلِماً.
فَقُمْتُ مِنْ عِنْدِهِ، فَقُلْتُ: لَعَلِّي أَقْدِرُ عَلَى صَاحِبِي.
فَمَشَيْتُ غَيْر بَعِيْدٍ، فَالْتَفَتُّ يَمِيْناً وَشِمَالاً لاَ أَرَى شَيْئاً.
فَمَرَّ بِي أَعْرَابٌ مِنْ كَلْبٍ، فَاحْتَمَلُوْنِي حَتَّى أَتَوْا بِي يَثْرِبَ، وَسَمَّوْنِي مَيْسَرَةَ، فَجَعَلْتُ أُنَاشِدُهُم، فَلاَ يَفْقَهُوْنَ كَلاَمِي، فَاشْتَرَتْنِي امْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا خُلَيْسَةُ بِثَلاَثِ مَائَةِ دِرْهَمٍ، فَقَالَتْ: مَا تُحْسِنُ؟
قُلْتُ: أُصَلِّي لِرَبِّي، وَأَعْبُدُهُ، وَأَسُفُّ الخُوْصَ.
قَالَتْ: وَمَنْ رَبُّكَ؟
قُلْتُ: رَبُّ مُحَمَّدٍ.
قَالَتْ: وَيْحَكَ، ذَاكَ بِمَكَّةَ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِهَذِهِ النَّخْلَةِ، وَصَلِّ لِرَبِّكَ لاَ أَمْنَعُكَ، وَسُفَّ الخُوْصَ، وَاسْعَ عَلَى بَنَاتِي، فَإِنَّ رَبَّكَ يَعْنِي إِنْ تُنَاصِحْهُ فِي العِبَادَةِ يُعْطِكَ سُؤْلَكَ.
(1/467)
فَمَكَثْتُ عِنْدَهَا سِتَّةَ عَشَرَ شَهْراً حَتَّى قَدِمَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المَدِيْنَةَ، فَبَلَغَنِي ذَلِكَ وَأَنَا فِي أَقْصَى المَدِيْنَةِ، فِي زَمَنِ الخِلاَلِ، فَانْتَقَيْتُ شَيْئاً مِنَ الخِلاَلِ، فَجَعَلْتُهُ فِي ثَوْبِي، وَأَقْبَلْتُ أَسْأَلُ عَنْهُ، حَتَّى دَخَلْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَنْزِلِ أَبِي أَيُّوْبَ، وَقَدْ وَقَعَ حُبٌّ لَهُم فَانْكَسَرَ، وَانْصَبَّ المَاءُ، فَقَامَ أَبُو أَيُّوْبَ وَامْرَأَتُهُ يَلْتَقِطَانِ المَاءَ بِقَطِيْفَةٍ لَهُمَا لاَ يَكِفُ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. (1/520)
فَخَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: (مَا تَصْنَعُ يَا أَبَا أَيُّوْبَ؟).
فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: (لَكَ وَلِزَوْجَتِكَ الجَنَّةُ).
فَقُلْتُ: هَذَا -وَاللهِ- مُحَمَّدٌ رَسُوْلُ الرَّحْمَةِ.
فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَخَذْتُ الخِلاَلَ، فَوَضَعْتُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ.
فَقَالَ: (مَا هَذَا يَا بُنَيَّ؟).
قُلْتُ: صَدَقَةٌ.
قَالَ: (إِنَّا لاَ نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ).
فَأَخَذْتُهُ، وَتَنَاوَلْتُ إِزَارِي، وَفِيْهِ شَيْءٌ آخَرُ، فَقُلْتُ: هَذِهِ هَدِيَّةٌ.
فَأَكَلَ، وَأَطَعْمَ مَنْ حَوْلَهُ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَيَّ، فَقَالَ: (أَحُرٌّ أَنْتَ أَمْ مَمْلُوْكٌ؟).
قُلْتُ: مَمْلُوْكٌ.
قَالَ: (وَلِمَ وَصَلْتَنِي بِهَذِهِ الهَدِيَّةِ؟).
قُلْتُ: كَانَ لِي صَاحِبٌ مِنْ أَمْرِهِ كَذَا، وَصَاحِبٌ مِنْ أَمْرِهِ كَذَا، فَأَخْبَرْتُهُ بِأَمْرِهِمَا.
قَالَ: (أَمَا إِنَّ صَاحِبَيْكَ مِنَ الَّذِيْنَ قَالَ اللهُ: {الَّذِيْنَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُوْنَ، وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِم...} الآيَة، مَا رَأَيْتَ فِيَّ مَا خَبَّرَكَ؟
قُلْتُ: نَعَمْ، إِلاَّ شَيْئاً بَيْنَ كَتِفَيْكَ.
(1/468)
فَأَلْقَى ثَوْبَهُ، فَإِذَا الخَاتَمُ، فَقَبَّلْتُهُ، وَقُلْتُ:
أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهَ، وَأَنَّكَ رَسُوْلُ اللهِ.
فَقَالَ: (يَا بُنَيَّ! أَنْتَ سَلْمَانُ).
وَدَعَا عَلِيّاً، فَقَالَ: (اذْهَبْ إِلَى خُلَيْسَةَ، فَقُلْ لَهَا:
يَقُوْلُ لَكِ مُحَمَّدٌ: إِمَّا أَنْ تُعْتِقِي هَذَا، وَإِمَّا أَنْ أُعْتِقَهُ، فَإِنَّ الحِكْمَةَ تُحَرِّمُ عَلَيْكِ خِدْمَتَهُ).
قُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ! أَشْهَدُ أَنَّهَا لَمْ تُسْلِمْ.
قَالَ: (يَا سَلْمَانُ! أَوَلاَ تَدْرِي مَا حَدَثَ بَعْدَكَ؟ دَخَلَ عَلَيْهَا ابْنُ عَمِّهَا، فَعَرَضَ عَلَيْهَا الإِسْلاَمَ، فَأَسْلَمَتْ).
فَانْطَلَقَ عَلِيٌّ، وَإِذَا هِيَ تَذْكُرُ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرَهَا عَلِيٌّ.
فَقَالَتْ: انْطَلِقْ إِلَى أَخِي - تَعنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْ لَهُ:
إِنَّ شِئْتَ فَأُعْتِقَهُ، وَإِنْ شِئْتَ فَهُوَ لَكَ.
قَالَ: فَكُنْتُ أَغْدُو وَأَرُوْحُ إِلَى رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتُعْوِلُنِي خُلَيْسَةُ.
فَقَالَ لِي النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَاتَ يَوْمٍ: (انْطَلِقْ بِنَا نُكَافِئْ خُلَيْسَةً).
فَكُنْتُ مَعَهُ خَمْسَةَ عَشْرَةَ يَوْماً فِي حَائِطِهَا يُعَلُّمُنِي وَأُعِيْنُهُ، حَتَّى غَرَسْنَا لَهَا ثَلاَثَ مَائَةِ فَسِيْلَةٍ.
فَكَانَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ حَرُّ الشَّمْسِ، وَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ مِظَلَّةً لِي مِنْ صُوْفٍ، فَعَرِقَ فِيْهَا مِرَاراً، فَمَا وَضَعْتُهَا بَعْدُ عَلَى رَأْسِي إِعْظَاماً لَهُ، وَإِبْقَاءً عَلَى رِيْحِهِ، وَمَا زِلْتُ أَخْبَؤُهَا وَيَنْجَابُ مِنْهَا، حَتَّى بَقِيَ مِنْهَا أَرْبَعُ أَصَابِعَ، فَغَزْوْتُ مَرَّةً، فَسَقَطَتْ مِنِّي.
(1/469)
هَذَا الحَدِيْثُ شِبْهُ مَوْضُوْعٍ.
وَأَبُو مُعَاذٍ: مَجْهُوْلٌ، وَمُوْسَى. (1/521)
إِسْمَاعِيْلُ بنُ عِيْسَى العَطَّارُ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدِ اللهِ التَّيْمِيُّ، عَنِ ابْنِ لَهِيْعَةَ، عَنْ أَبِي قَبِيْلٍ، قَالَ:
قِيْلَ لِسَلْمَانَ: أَخْبِرْنَا عَنْ إِسْلاَمِكَ.
قَالَ: كُنْتُ مَجُوْسِيّاً، فَرَأَيْتُ كَأَنَّ القِيَامَةَ قَدْ قَامَتْ، وَحُشِرَ النَّاسُ عَلَى صُوَرِهِم، وَحُشِرَ المَجُوْسُ عَلَى صُوَرِ الكِلاَبِ، فَفَزِعْتُ.
فَرَأَيْتُ مِنَ القَابِلَةِ أَيْضاً أَنَّ النَّاسَ حُشِرُوا عَلَى صُوَرِهِم، وَأَنَّ المَجُوْسَ حُشِرُوا عَلَى صُوَرِ الخَنَازِيْرِ، فَتَرَكْتُ دِيْنِي، وَهَرَبْتُ، وَأَتَيْتُ الشَّامَ.
فَوَجَدْتُ يَهُوْداً، فَدَخَلْتُ فِي دِيْنِهِم، وَقَرَأْتُ كُتُبَهُم، وَرَضِيْتُ بِدِيْنِهِم، وَكُنْتُ عِنْدَهُم حِجَجاً.
فَرَأَيْتُ فِيْمَا يَرَى النَّائِمُ أَنَّ النَّاسَ حُشِرُوا، وَأَنَّ اليَهُوْدَ أُتِيَ بِهِم، فَسُلِخُوا، ثُمَّ أُلْقُوا فِي النَّارِ، فَشُوُوْا، ثُمَّ أُخْرِجُوا، فَبُدِّلَتْ جُلُوْدُهُم، ثُمَّ أُعِيْدُوا فِي النَّارِ.
فَانْتَبَهْتُ، وَهَرَبْتُ مِنَ اليَهودِيَّةِ، فَأَتَيْتُ قَوْماً نَصَارَى، فَدَخَلْتُ فِي دِيْنِهِم، وَكُنْتُ مَعَهُم فِي شِرْكِهِم، فَكُنْتُ عِنْدَهُم حِجَجاً، فَرَأَيْتُ كَأَنَّ مَلَكاً أَخَذَنِي، فَجَاءَ بِي عَلَى الصِّرَاطِ عَلَى النَّارِ، فَقَالَ: اعْبُرْ هَذَا.
فَقَالَ صَاحِبُ الصِّرَاطِ: انْظُرُوا، فَإِنْ كَانَ دِيْنُهُ النَّصْرَانِيَّةَ فَأَلْقُوْهُ فِي النَّارِ.
فَانْتَبَهْتُ، وَفَزِعْتُ.
ثُمَّ اسْتَعْبَرْتُ رَاهِباً كَانَ صَدِيْقاً لِي، فَقَالَ:
(1/470)
إِنَّ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ دِيْنُ المَلِكِ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِاليَعْقُوْبِيَّةِ، فَرَفَضْتُ ذَلِكَ، وَلَحِقْتُ بِالجَزِيْرَةِ، فَلَزِمْتُ رَاهِباً بِنَصِيْبِيْنَ يَرَى رَأْيَ اليَعْقُوْبِيَّةِ، فَكُنْتُ عِنْدَهُمْ حِجَجاً.
فَرَأَيْتُ فِيْمَا يَرَى النَّائِمُ أَنَّ إِبْرَاهِيْمَ خَلِيْلَ الرَّحْمَنِ قَائِمٌ عِنْدَ العَرْشِ، يَمِيْزُ مَنْ كَانَ عَلَى مِلَّتِهِ، فَيُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، وَمَنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ مِلَّتِهِ، ذَهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ، فَهَرَبْتُ مِنْ ذَلِكَ الرَّاهِبِ، وَأَتَيْتُ رَاهِباً لَهُ خَمْسُوْنَ وَمَائَةُ سَنَةٍ، وَأَخْبَرْتُهُ بِقِصَّتِي، فَقَالَ:
إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُهُ لَيْسَ هُوَ اليَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ، ذَاكَ دِيْنُ الحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ دِيْنُ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَقَدِ اقْتَرَبَ، وَأَظَلَّكَ زَمَانُهُ، نَبِيُّ يَثْرِبَ يَدْعُو إِلَى هَذَا الدِّيْنِ.
قُلْتُ: مَا اسْمُ هَذَا الرَّجُلِ؟
قَالَ: لَهُ خَمْسَةُ أَسْمَاءَ، مَكْتُوْبٌ فِي العَرْشِ: مُحَمَّدٌ، وَفِي الإِنْجِيْلِ: أَحْمَدُ، وَيَوْمَ القِيَامَةِ: مَحْمُوْدٌ، وَعَلَى الصِّرَاطِ: حَمَّادٌ، وَعَلَى بَابِ الجَنَّةِ: حَامِدٌ، وَهُوَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيْلَ، وَهُوَ قُرَشِيٌّ.
فَسَرَدَ كَثِيْراً مِنْ صِفَتِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
قَالَ: فَسِرْتُ فِي البَرِّيَّةِ، فَسَبَتْنِي العَرَبُ، وَاسْتَخْدَمَتْنِي سِنِيْنَ، فَهَرَبْتُ مِنْهُم، إِلَى أَنْ قَالَ:
فَلَمَّا أَسْلَمْتُ قَبَّلَ عَلِيٌّ رَأْسِي، وَكَسَانِي أَبُو بَكْرٍ مَا كَانَ عَلَيْهِ...، إِلَى أَنْ قَالَ: (يَا سَلْمَانُ! أَنْتَ مَوْلَى اللهِ وَرَسُوْلِهِ).
وَهُوَ مُنْكَرٌ.
فِي إِسْنَادِهِ كَذَّابٌ، وَهُوَ إِسْحَاقُ، مَعَ إِرْسَالِهِ، وَوَهْنِ ابْنِ لَهِيْعَةَ، وَالتَّيْمِيِّ. (1/522)
(1/471)
سَمَّوَيْه: حَدَّثَنَا عَمْرُو بنُ حَمَّادٍ القَنَّادُ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بنُ نَصْرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِيْنَ آمَنُوا وَالَّذِيْنَ هَادُوا...} الآيَة، فِي أَصْحَابِ سَلْمَانَ نَزَلَتْ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ جُنْدِ سَابُوْرَ، وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِهِم، وَكَانَ ابْنُ المَلِكِ صَدِيْقاً لَهُ وَمُوَاخِياً، وَكَانَا يَرْكَبَانِ إِلَى الصَّيْدِ.
فَبَيْنَمَا هُمَا فِي الصَّيْدِ، إِذْ رُفِعَ لَهُمَا بَيْتٌ مِنْ عَبَاءٍ، فَأَتَيَاهُ، فَإِذَا هُمَا بِرَجُلٍ بَيْنَ يَدَيْهِ مُصْحَفٌ، يَقْرَأُ فِيْهِ، وَيَبْكِي. (1/523)
فَسَأَلاَهُ: مَا هَذَا؟
قَالَ: الَّذِي يُرِيْدُ أَنْ يَعْلَمَ هَذَا لاَ يَقِفُ مَوْقِفَكُمَا، فَانْزِلاَ.
فَنَزَلاَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: هَذَا كِتَابٌ جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللهِ، أَمَرَ فِيْهِ بِطَاعَتِهِ، وَنَهَى عَنْ مَعْصِيَتِهِ، فِيْهِ أَنْ لاَ تَزْنِيَ، وَلاَ تَسْرِقَ، وَلاَ تَأَخُذَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالبَاطِلِ، فَقَصَّ عَلَيْهِمَا مَا فِيْهِ، وَهُوَ الإِنْجِيْلُ، فَتَابَعَاهُ، فَأَسْلَمَا.
وَقَالَ: إِنَّ ذَبِيْحَةَ قَوْمِكُمَا عَلَيْكُمَا حَرَامٌ، وَلَمْ يَزَلْ مَعَهُمَا يَتَعَلَّمَانِ مِنْهُ حَتَّى كَانَ عِيْدٌ لِلْمَلِكِ، فَجَعَلَ طَعَاماً، ثُمَّ جَمَعَ النَّاسَ وَالأَشْرَافَ، وَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ المَلِكِ، فَدَعَاهُ لِيَأْكُلَ، فَأَبَى، وَقَالَ: إِنِّي عَنْكَ مَشْغُولٌ.
فَلَمَّا أَكْثَرَ عَلَيْهِ، أَخْبَرَ أَنَّهُ لاَ يَأْكُلُ مِنْ طَعَامِهِم.
فَقَالَ لَهُ المَلِكُ: مَنْ أَخْبَرَكَ بِهَذَا؟
فَذَكَرَ لَهُ الرَّاهِبَ، فَطَلَبَ الرَّاهِبَ، وَسَأَلَهُ، فَقَالَ:
(1/472)
صَدَقَ ابْنُكَ.
فَقَالَ: لَوْلاَ أَنَّ الدَّمَ عَظِيْمٌ لَقَتَلْتُكَ، اخْرُجْ مِنْ أَرْضِنَا.
فَأَجَّلَهُ أَجَلاً، فَقُمْنَا نَبْكِي عَلَيْهِ، فَقَالَ:
إِنْ كُنْتُمَا صَادِقَيْنِ، فَأَنَا فِي بَيْعَةٍ فِي المَوْصِلِ مَعَ سِتِّيْنَ رَجُلاً نَعْبُدُ اللهِ، فَائْتُوْنَا.
فَخَرَجَ، وَبَقِيَ سَلْمَانُ وَابْنُ المَلِكِ، فَجَعَلَ سَلْمَانُ يَقُوْلُ لابْنِ المَلِكِ: انْطَلِقْ بِنَا.
وَابْنُ المَلِكِ يَقُوْلُ: نَعَمْ.
فَجَعَل يَبِيْعُ مَتَاعَهُ يُرِيْدُ الجَهَازَ، وَأَبْطَأَ، فَخَرَجَ سَلْمَانُ حَتَّى أَتَاهُمْ، فَنَزَلَ عَلَى صَاحِبِهِ، وَهُوَ رَبُّ البَيْعَةِ.
فَكَانَ سَلْمَان مَعَهُ يَجْتَهِدُ فِي العِبَادَةِ، فَقَالَ لَهُ الشَيْخُ:
إِنَّكَ غُلاَمٌ حَدَثٌ، وَأَنَا خَائِفٌ أَنْ تَفْتُرَ، فَارْفُقْ بِنَفْسِكَ.
قَالَ: خَلِّ عَنِّي.
ثُمَّ إِنَّ صَاحِبَ البَيْعَةِ دَعَاهُ، فَقَالَ:
تَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ البَيْعَةَ لِي، وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أُخْرِجَ هَؤُلاَءِ لَفَعَلْتُ، وَلَكِنِّي رَجُلٌ أَضْعُفُ عَنْ عِبَادَةِ هَؤُلاَءِ، وَأَنَا أُرِيْدُ أَنْ أَتَحَوَّلَ إِلَى بَيْعَةٍ أَهْلُهَا أَهْوَنُ عِبَادَةً، فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تُقِيْمَ هَا هُنَا، فَأَقِمْ. (1/524)
فَأَقَامَ بِهَا يَتَعَبَّدُ مَعَهُم.
ثُمَّ إِنَّ شَيْخَهُ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ بَيْتَ المَقْدِسِ، فَدَعَا سَلْمَانَ، وَأَعْلَمَهُ، فَانْطَلَقَ مَعَهُ، فَمَرُّوا بِمُقْعَدٍ عَلَى الطَّرِيْقِ، فَنَادَى:
يَا سَيِّدَ الرُّهْبَانِ! ارْحَمْنِي.
فَلَمْ يُكَلِّمْهُ حَتَّى أَتَى بَيْتَ المَقْدِسِ، فَقَالَ لِسَلْمَانَ:
اخْرُجْ، فَاطْلُبِ العِلْمَ، فَإِنَّهُ يَحْضُرُ المَسْجِدَ عُلَمَاءُ أَهْلِ الأَرْضِ.
فَخَرَجَ سَلْمَانُ يَسْمَعُ مِنْهُم.
فَخَرَجَ يَوْماً حَزِيْناً، فَقَالَ لَهُ الشَيْخُ: مَا لَكَ؟
(1/473)
قَالَ: أَرَى الخَيْرَ كُلَّهُ قَدْ ذَهَبَ بِهِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِم.
قَالَ: أَجَلْ، لاَ تَحْزَنْ، فَإِنَّهُ قَدْ بَقِي نَبِيٌّ لَيْسَ مِنْ نَبِيٍّ بِأَفَضْلَ تَبَعاً مِنْهُ، وَهَذَا زَمَانُهُ، وَلاَ أَرَانِي أُدْرِكُهُ، وَلَعَلَّكَ تُدْرِكُهُ، وَهُوَ يَخْرُجُ فِي أَرْضِ العَرَبِ، فَإِنْ أَدْرَكْتَهُ فَآمِنْ بِهِ.
قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ عَلاَمَتِهِ.
قَالَ: مَخْتُوْمٌ فِي ظَهْرِهِ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ، يَأْكُلُ الهَدِيَّةَ، وَلاَ يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ.
ثُمَّ رَجَعَا، حَتَّى بَلَغَا مَكَانَ المُقْعَدِ، فَنَادَاهُمَا:
يَا سَيِّدَ الرُّهْبَانِ! ارْحَمْنِي يَرْحَمْكَ اللهُ.
فَعَطَفَ إِلَيْهِ حِمَارَهُ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ، ثُمَّ رَفَعَهُ، فَضَرَبَ بِهِ الأَرْضَ، وَدَعَا لَهُ، فَقَالَ: قُمْ بِإِذْنِ اللهِ.
فَقَامَ صَحِيْحاً يَشْتَدُّ، وَسَارَ الرَّاهِبُ، فَتَغَيَّبَ عَنْ سَلْمَانَ، وَتَطَلَّبَهُ سَلْمَانُ.
فَلَقِيَهُ رَجُلاَنِ مِنْ كَلْبٍ، فَقَالَ: هَلْ رَأَيْتُمَا الرَّاهِبَ؟
فَأَنَاخَ أَحَدُهُمَا رَاحِلَتَهُ، وَقَالَ: نَعَمْ، رَاعِي الصِّرْمَةِ هَذَا.
فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى المَدِيْنَةِ. (1/525)
قَالَ سَلْمَانُ: فَأَصَابَنِي مِنَ الحُزْنِ شَيْءٌ لَمْ يُصِبْنِي قَطُّ.
فَاشْتَرَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَكَانَ يَرْعَى عَلَيْهَا هُوَ وَغُلاَمٌ لَهَا، يَتَرَاوَحَانِ الغَنَمَ، وَكَانَ سَلْمَانُ يَجْمَعُ الدَّرَاهِمَ، يَنْتَظِرُ خُرُوْجَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
فبَيْنَمَا هُوَ يَرْعَى، إِذْ أَتَاهُ صَاحِبُهُ، فَقَالَ: أَشَعَرْتَ أَنَّهُ قَدِمَ المَدِيْنَةَ رَجُلٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ.
فَقَالَ: أَقِمْ فِي الغَنَمِ حَتَّى آتِيَ.
(1/474)
فَهَبَطَ إِلَى المَدِيْنَةِ، فَنَظَرَ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَرَأَى خَاتَمَ النُّبُوَّةِ، ثُمَّ انْطَلَقَ، فَاشْتَرَى بِدِيْنَارٍ بِنِصْفِهِ شَاةً، فَشَوَاهَا، وَبِنِصْفِهِ خُبْزاً، وَأَتَى بِهِ.
فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَا هَذَا؟).
قَالَ: صَدَقَةٌ.