شَبِيْبُ بنُ يَزِيْدَ بنِ أَبِي نُعَيْمٍ الشَّيْبَانِيُّ
 
رَأْسُ الخَوَارِجِ بِالجَزِيْرَةِ، وَفَارِسُ زَمَانِهِ.
بَعَثَ لِحَرْبِهِ الحَجَّاجُ خَمْسَةَ قُوَّادٍ، فَقَتَلَهُمْ وَاحِداً بَعْدَ وَاحِدٍ، ثُمَّ سَارَ إِلَى الكُوْفَةِ، وَحَاصَرَ الحَجَّاجَ، وَكَانَتْ زَوْجَتُهُ غَزَالَةُ عَدِيْمَةَ النَّظِيْرِ فِي الشَّجَاعَةِ، فَعَيَّرَ الحَجَّاجَ شَاعِرٌ، فَقَالَ:
أَسَدٌ عَلَيَّ، وَفِي الحُرُوْبِ نَعَامَةٌ * فَتَخَاءُ تَنْفِرُ مِنْ صَفِيْرِ الصَّافِرِ؟!
هَلاَّ بَرَزْتَ إِلَى غَزَالَةَ فِي الوَغَى * بَلْ كَانَ قَلْبُكَ فِي جَنَاحَيْ طَائِرِ
وَكَانَتْ أُمُّ شَبِيْبٍ جَهِيْزَةُ تَشْهَدُ الحَرْبَ.
قَالَ رَجُلٌ: رَأَيْتُ شَبِيْباً دَخَلَ المَسْجِدَ، فَبَقِي المَسْجِدُ يَرْتَجُّ لَهُ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ طَيَالِسَةٌ.
وَهُوَ طَوِيْلٌ، أَشْمَطُ، جَعْدٌ، آدَمُ.
غَرِقَ شَبِيْبٌ فِي القِتَالِ بِدُجَيْلٍ، سَنَةَ سَبْعٍ وَسَبْعِيْنَ، وَلَهُ إِحْدَى وَخَمْسُوْنَ سَنَةً.
قِيْلَ: حَضَرَ عِتْبَانُ الحَرُوْرِيُّ عِنْدَ عَبْدِ المَلِكِ بنِ مَرْوَانَ، فَقَالَ: أَنْتَ القَائِلُ:
فَإِنْ يَكُ مِنْكُم كَانَ مَرْوَانُ وَابْنُهُ * وَعَمْرٌو وَمِنْكُمْ هَاشِمٌ وَحَبِيْبُ
فَمِنَّا حُصَيْنٌ وَالبَطِيْنُ وَقَعْنَبٌ * وَمِنَّا أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ شَبِيْبُ؟
فَقَالَ: إِنَّمَا قُلْتُ: (وَمِنَّا أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ شَبِيْبُ) عَلَى النِّدَاءِ، فَأَعْجَبَهُ، وَأَطْلَقَهُ. (4/148)
(7/160)

وَلَمَّا غَرِقَ، قِيْلَ لأُمِّهِ، فَقَالَتْ: لَمَّا وَلَدْتُهُ، رَأَيْتُ كَأَنَّهُ خَرَجَ مِنِّي شِهَابُ نَارٍ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ لاَ يُطْفِئُهُ إِلاَ المَاءُ.
وَكَانَ قَدْ خَرَجَ صَالِحُ بنُ مُسَرِّحٌ العَابِدُ التَّمِيْمِيُّ بِدَارَا، وَلَهُ أَصْحَابٌ يُفَقِّهُهُم، وَيَقُصُّ عَلَيْهِم، وَيَذُمُّ عُثْمَانَ وَعَلِيّاً، كَدَأْبِ الخَوَارِجِ، وَيَقُوْلُ:
تَأَهَّبُوا لِجِهَادِ الظَّلَمَةِ، وَلاَ تَجْزَعُوا مِنَ القَتْلِ فِي اللهِ، فَالقَتْلُ أَسَهْلُ مِنَ المَوْتِ، وَالمَوْتُ لاَ بُدَّ مِنْهُ.
فَأَتَاهُ كِتَابُ شَبِيْبٍ يَقُوْلُ: إِنَّكَ شَيْخُ المُسْلِمِيْنَ، وَلَنْ نَعْدِلَ بِكَ أَحَداً، وَقَدِ اسْتَجَبْتُ لَكَ، وَالآجَالُ غَادِيَةٌ وَرَائِحَةٌ، وَلاَ آمَنُ أَنْ تَخْتَرِمَنِي المَنِيَّةُ، وَلَمْ أُجَاهِدِ الظَّالِمِيْنَ، فَيَا لَهُ غَبْناً، وَيَا لَهُ فَضْلاً مَتْرُوْكاً، جَعَلَنَا اللهُ مِمَّنْ يُرِيْدُ اللهَ بِعَمَلِهِ.
ثُمَّ أَقْبَلَ هُوَ وَأَخُوْهُ مُصَادٌ، وَالمُحَلِّلُ بنُ وَائِلٍ، وَإِبْرَاهِيْمُ بنُ حَجَرٍ، وَالفَضْلُ بنُ عَامِرٍ الذُّهْلِيُّ، إِلَى صَالِحٍ، فَصَارُوْا مائَةً وَعَشْرَةَ أَنْفُسٍ، ثُمَّ شَدُّوا عَلَى خَيْلٍ لِمُحَمَّدِ بنِ مَرْوَانَ، فَأَخَذُوْهَا، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُم.
فَسَارَ لِحَرْبِهِمْ عَدِيُّ بنُ عَدِيِّ بنِ عُمَيْرَةَ الكِنْدِيُّ، فَالْتَقَوْا، فَانْهَزَمَ عَدِيٌّ، وَبَعْدَ مُدِيْدَةٍ تُوُفِّيَ صَالِحٌ مِنْ جِرَاحَاتٍ، سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِيْنَ.
وَعُهِدَ إِلَى شَبِيْبٍ، فَهَزَمَ العَسَاكِرَ، وَعَظُمَ الخَطْبُ، وَهَجَمَ عَلَى الكُوْفَةِ، وَقَتَلَ جَمَاعَةَ أَعْيَانٍ.
(7/161)

فَنَدَبَ الحَجَّاجُ لِحَرْبِهِ زَائِدَةَ بنَ قُدَامَةَ الثَّقَفِيَّ، فَالْتَقَوْا، فَقُتِلَ زَائِدَةُ، وَدَخَلَتْ غَزَالَةُ جَامِعَ الكُوْفَةِ، وَصَلَّتْ وِرْدَهَا، وَصَعِدَتِ المِنْبَرَ، وَوَفَتْ نَذْرَهَا.
وَهَزَمَ شَبِيْبٌ جُيُوْشَ الحَجَّاجِ مَرَّاتٍ، وَقَتَلَ عِدَّةً مِنَ الأَشْرَافِ، وَتَزَلْزَلَ لَهُ عَبْدُ المَلِكِ، وَتَحَيَّرَ الحَجَّاجُ فِي أَمْرِهِ، وَقَالَ: أَعْيَانِي هَذَا.
وَجَمَعَ لَهُ جَيْشاً كَثِيْفاً نَحْوَ خَمْسِيْنَ أَلْفاً. (4/149)
وَعَرَضَ شَبِيْبٌ جُنْدَهُ، فَكَانُوا أَلْفاً، وَقَالَ: يَا قَوْمُ، إِنَّ اللهَ نَصَرَكُم وَأَنْتُم مائَةٌ، فَأَنْتُمُ اليَوْمَ مِئُوْنَ.
ثُمَّ ثَبَتَ مَعَهُ سِتُّ مائَةٍ، فَحَمَلَ فِي مَائتَيْنِ عَلَى المَيْسَرَةِ هَزَمَهَا، ثُمَّ قَتَلَ مُقَدَّمَ العَسَاكِرِ عَتَّابَ بنَ وَرْقَاءَ التَّمِيْمِيَّ.
فَلَمَّا رَآهُ شَبِيْبٌ صَرِيْعاً، تَوَجَّعَ لَهُ، فَقَالَ خَارِجِيٌّ لَهُ: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ، تَتَوَجَّعُ لِكَافِرٍ؟!
ثُمَّ نَادَى شَبِيْبٌ بِرَفْعِ السَّيْفِ، وَدَعَا إِلَى طَاعَتِهِ، فَبَايَعُوْهُ، ثُمَّ هَرَبُوا فِي اللَّيْلِ، ثُمَّ جَاءَ المَدَدُ مِنَ الشَّامِ، فَالْتَقَاهُ الحَجَّاجُ بِنَفْسِهِ، فَجَرَى مَصَافٌّ لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ، وَثَبَتَ الفَرِيْقَانِ، وَقُتِلَ مُصَادٌ أَخُو شَبِيْبٍ، وَزَوْجَتُهُ غَزَالَةُ، وَدَخَلَ اللَّيْلُ، وَتَقَهْقَرَ شَبِيْبٌ وَهُوَ يَخْفُقُ رَأْسُهُ، وَالطَّلَبُ فِي أَثَرِهِ.
(7/162)

ثُمَّ فَتَرَ الطَّلَبُ عَنْهُم، وَسَارُوا إِلَى الأَهْوَازِ، فَبَرَزَ مُتَوَلِّيْهَا مُحَمَّدُ بنُ مُوْسَى بنِ طَلْحَةَ، فَبَارَزَ شَبِيْباً، فَقَتَلَهُ شَبِيْبٌ، وَمَضَى إِلَى كَرْمَانَ، فَأَقَامَ شَهْرَيْنِ، وَرَجَعَ، فَالْتَقَاهُ سُفْيَانُ بنُ أَبْرَدَ الكَلْبِيُّ، وَحَبِيْبٌ الحَكَمِيُّ عَلَى جِسْرِ دُجَيْلٍ، فَاقْتَتَلُوا حَتَّى دَخَلَ اللَّيْلُ.
فَعَبَرَ شَبِيْبٌ عَلَى الجِسْرِ، فَقُطِع بِهِ، فَغَرِقَ.
وَقِيْلَ: بَلْ نَفَرَ بِهِ فَرَسُهُ، فَأَلْقَاهُ فِي المَاءِ، سَنَةَ سَبْعٍ وَسَبْعِيْنَ، وَعَلَيْهِ الحَدِيْدُ، فَقَالَ: {ذَلِكَ تَقْدِيْرُ العَزِيْزِ العَلِيْمِ} [يس: 38]، وَأَلْقَاهُ دُجَيْلٌ إِلَى السَّاحِلِ مَيْتاً، وَحُمِلَ إِلَى الحَجَّاجِ، فَشَقَّ جَوْفَهُ، وَأَخْرَجَ قَلْبَهُ، فَإِذَا دَاخِلُهُ قَلْبٌ آخَرَ. (4/150)
(7/163)