البَرْمَكِيُّ أَبُو الفَضْلِ جَعْفَرٌ الوَزِيْرُ المَلِكُ |
ابْنُ الوزِيْرِ الكَبِيْرِ أَبِي عَلِيٍّ يَحْيَى ابْنِ الوَزِيْرِ خَالِدِ بنِ بَرْمَكٍ الفَارِسِيُّ.
كَانَ خَالِدٌ مِنْ رِجَالِ العَالَمِ، تَوَصَّلَ إِلَى أَعْلَى المَرَاتِبِ فِي دَوْلَةِ أَبِي جَعْفَرٍ، ثُمَّ كَانَ ابْنُهُ يَحْيَى كَامِلَ السُّؤْدُدِ، جَلِيْلَ المِقْدَارِ، بِحَيْثُ إِنَّ المَهْدِيَّ ضَمَّ إِلَيْهِ وَلَدَهُ الرَّشِيْدَ، فَأَحْسَنَ تَرْبِيَتَهُ، وَأَدَّبَهُ، فَلَمَّا أَفْضَتِ الخِلاَفَةُ إِلَى الرَّشِيْدِ، رَدَّ إِلَى يَحْيَى مَقَالِيْدَ الأُمُوْرِ، وَرَفَعَ مَحَلَّهُ، وَكَانَ يُخَاطِبُهُ: يَا أَبِي، فَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ الوُزَرَاءِ، وَنَشَأَ لَهُ أَوْلاَدٌ صَارُوا مُلوَكاً، وَلاَ سِيَّمَا جَعْفَرٌ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا جَعْفَرٌ؟ لَهُ نَبَأٌ عَجِيْبٌ، وَشَأْنٌ غَرِيْبٌ، بَقِيَ فِي الارتِقَاءِ فِي رُتْبَةٍ، شَرَكَ الخَلِيْفَةَ فِي أَمْوَالِهِ، وَلَذَّاتِهِ، وَتَصَرُّفِهِ فِي المَمَالِكِ، ثُمَّ انْقَلْبَ الدَّسْتُ فِي يَوْمٍ، فَقُتِلَ، وَسُجِنَ أَبُوْهُ وَإِخوَتُهُ إِلَى المَمَاتِ، فَمَا أَجهَلَ مَنْ يَغتَرُّ بِالدُّنْيَا! وَقَالَ الأَصْمَعِيُّ: سَمِعْتُ يَحْيَى بنَ خَالِدٍ يَقُوْلُ: الدُّنْيَا دُوَلٌ، وَالمَالُ عَارِيَّةٌ، وَلَنَا بِمَنْ قَبْلَنَا أُسْوَةٌ، وَفِيْنَا لِمَنْ بَعْدَنَا عِبْرَةٌ. (17/57) قَالَ إِسْحَاقُ المَوْصِلِيُّ: كَانَتْ صِلَةُ يَحْيَى إِذَا رَكِبَ لِمَنْ سَأَلَهُ مائَتَيْ دِرْهَمٍ، أَتَيْتُهُ وَقَدْ شَكَوْتُ إِلَيْهِ ضِيْقاً، فَقَالَ: مَا أَصْنَعُ بِكَ؟ مَا عِنْدِي شَيْءٌ، وَلَكِنِّي قَدْ جَاءنِي خَلِيْفَةُ صَاحِبِ مِصْرَ، يَسْأَلُ أَنْ أَسْتَهْدِي صَاحِبَهُ شَيْئاً، فَأَبَيْتُ، فَأَلَحَّ، وَبَلَغَنِي أَنَّ لَكَ جَارِيَةً بِثَلاَثَةِ آلاَفِ دِيْنَارٍ، فَهُوَذَا أَسْتَهدِيهِ إِيَّاهَا، فَلاَ تَنْقُصْهَا مِنْ ثَلاَثِيْنَ أَلْفَ دِيْنَارٍ شَيْئاً. قَالَ: فَمَا شَعَرتُ إِلاَّ وَالرَّجُلُ قَدْ أَتَى، فَسَاوَمَنِي بِالجَارِيَةِ، فَبَذَلَ عِشْرِيْنَ أَلْفاً، فَلِنْتُ، فَبِعتُهَا، فَلَمَّا أَتَيْتُ يَحْيَى، عَنَّفَنِي، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا خَلِيْفَةُ صَاحِبِ فَارِسَ، قَدْ جَاءنِي فِي نَحْوِ هَذَا، فَخُذْ جَارِيَتَكَ مِنِّي، فَإِذَا سَاوَمَكَ، لاَ تَنقُصْهَا مِنْ خَمْسِيْنَ أَلْفَ دِيْنَارٍ. قَالَ: فَأَتَانِي، فَبِعتُهَا بِثَلاَثِيْنَ أَلْفاً، فَلَمَّا صِرْتُ إِلَى يَحْيَى، قَالَ: أَلَمْ نُؤَدِّبْكَ؟ خُذْ جَارِيَتَكَ. قُلْتُ: قَدْ أَفَدتُ بِهَا خَمْسِيْنَ أَلْفَ دِيْنَارٍ، ثُمَّ تَعُوْدُ إِلَيَّ، هِيَ حُرَّةٌ، وَإِنِّيْ قَدْ تَزَوَّجْتُهَا. قِيْلَ: إِنَّ وَلداً لِيَحْيَى، قَالَ لَهُ وَهُمْ فِي القُيُوْدِ: يَا أَبَةِ، بَعْدَ الأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالأَمْوَالِ صِرْنَا إِلَى هَذَا؟! قَالَ: يَا بُنَيَّ! دَعْوَةُ مَظْلُوْمٍ غَفِلْنَا عَنْهَا، لَمْ يَغْفُلِ اللهُ عَنْهَا. (9/61) مَاتَ يَحْيَى: مَسجوناً، بِالرَّقَّةِ، سَنَةَ تِسْعِيْنَ وَمائَةٍ، عَنْ سَبْعِيْنَ سَنَةً. (17/58) فَأَمَّا جَعْفَرٌ، فَكَانَ مِنْ مِلاَحِ زَمَانِهِ، كَانَ وَسِيْماً، أَبْيَضَ، جَمِيْلاً، فَصِيْحاً، مُفَوَّهاً، أَدِيْباً، عَذْبَ العِبَارَةِ، حَاتِمِيَّ السَّخَاءِ، وَكَانَ لَعَّاباً، غَارِقاً فِي لَذَّاتِ دُنْيَاهُ، وَلِيَ نِيَابَةَ دِمَشْقَ، فَقَدِمَهَا فِي سَنَةِ ثَمَانِيْنَ وَمائَةٍ، فَكَانَ يَسْتَخلِفُ عَلَيْهَا، وَيُلاَزِمُ هَارُوْنَ، وَكَانَ يَقُوْلُ: إِذَا أَقْبَلَتِ الدُّنْيَا عَلَيْكَ، فَأَعْطِ، فَإِنَّهَا لاَ تَفْنَى، وَإِذَا أَدبَرَتْ، فَأَعْطِ، فَإِنَّهَا لاَ تَبقَى. قَالَ ابْنُ جَرِيْرٍ: هَاجَتِ العَصَبِيَّةُ بِالشَّامِ، وَتَفَاقَمَ الأَمْرُ، فَاغْتَمَّ الرَّشِيْدُ، فَعَقَدَ لِجَعْفَرٍ، وَقَالَ: إِمَّا أَنْ تَخْرُجَ أَوْ أَخْرَجَ. فَسَارَ، فَقَتَلَ فِيْهِم، وَهَذَّبَهُم، وَلَمْ يَدَعْ لَهُم رُمْحاً، وَلاَ قَوْساً، فَهَجَمَ الأَمْرُ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى دِمَشْقَ عِيْسَى بنَ المُعَلَّى، وَردَّ. قَالَ الخَطِيْبُ: كَانَ جَعْفَرٌ عِنْدَ الرَّشِيْدِ بِحَالَةٍ لَمْ يُشَارِكْهُ فِيْهَا أَحَدٌ، وَجُوْدُهُ أَشهَرُ مِنْ أَنْ يُذكَرَ، وَكَانَ مِنْ ذَوِي اللَّسَنِ وَالبَلاَغَةِ. يُقَالَ: إِنَّهُ وَقَّعَ لَيْلَةً بِحَضرَةِ الرَّشِيْدِ زِيَادَةً عَلَى أَلْفِ تَوقِيْعٍ، وَنَظَرَ فِي جَمِيْعِهَا، فَلَمْ يُخْرِجْ شَيْئاً مِنْهَا عَنْ مُوْجِبِ الفِقْهِ، كَانَ أَبُوْهُ قَدْ ضَمَّهُ إِلَى القَاضِي أَبِي يُوْسُفَ حَتَّى فَقُهَ. (9/62) وَعَنْ ثُمَامَةَ بنِ أَشْرَسَ، قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَبْلَغَ مِنْ جَعْفَرٍ البَرْمَكِيِّ، وَالمَأْمُوْنِ. قِيْلَ: اعْتَذَرَ إِلَى جَعْفَرٍ رَجُلٌ، فَقَالَ: قَدْ أَغنَاكَ اللهُ بِالعُذْرِ مِنَّا عَنِ الاَعتِذَارِ إِلَيْنَا، وَأَغنَانَا بِالمَوَدَّةِ لَكَ عَنْ سُوءِ الظَّنِّ بِكَ. (17/59) قَالَ جَحْظَةُ: حَدَّثَنَا مَيْمُوْنُ بنُ مِهْرَانَ، حَدَّثَنِي الرَّشِيْدِيُّ، حَدَّثَنِي مُهَذَّبٌ حَاجِبُ العَبَّاسِ بنِ مُحَمَّدٍ -يَعْنِي: أَخَا المَنْصُوْرِ-: أَنَّ العَبَّاسَ نَالَتْهُ إِضَاقَةٌ، فَأَخْرَجَ سَفَطاً فِيْهِ جَوْهَرٌ بِأَلْفِ أَلْفٍ، فَحَمَلَهُ إِلَى جَعْفَرٍ، وَقَالَ: أُرِيْدُ عَلَيْهِ خَمْسَ مائَةِ أَلْفٍ. قَالَ: نَعَمْ، وَأَخَذَ السَّفَطَ. فَلَمَّا رَجَعَ العَبَّاسُ إِلَى دَارِهِ، وَجَدَ السَّفَطَ قَدْ سَبَقَهُ، وَمَعَهُ أَلفُ أَلفٍ، وَدَخَلَ جَعْفَرٌ عَلَى الرَّشِيْدِ، فَخَاطَبَهُ فِي العَبَّاسِ، فَأَمَرَ لَهُ بِثَلاَثِ مائَةِ أَلْفِ دِيْنَارٍ. وَعَنْ إِبْرَاهِيْمَ المَوْصِلِيِّ، قَالَ: حَجَّ الرَّشِيْدُ وَجَعْفَرٌ وَأَنَا مَعَهُم، فَقَالَ لِي جَعْفَرٌ: انْظُرْ لِي جَارِيَةً لاَ مِثْلَ لَهَا فِي الغِنَاءِ وَالظَّرَفِ. قَالَ: فَأُرْشِدْتُ إِلَى جَارِيَةٍ لَمْ أَرَ مِثْلَهَا، وَغَنَّتْ، فَأَجَادَتْ، فَقَالَ مَوْلاَهَا: لاَ أَبِيْعُهَا بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِيْنَ أَلْفَ دِيْنَارٍ. قُلْتُ: قَدْ أَخَذْتُهَا. فَأُعْجِبَ بِهَا جَعْفَرٌ، فَقَالَتِ الجَارِيَةُ: يَا مَوْلاَيَ، فِي أَيِّ شَيْءٍ أَنْتَ؟ قَالَ: قَدْ عَرَفْتِ مَا كُنَّا فِيْهِ مِنَ النِّعْمَةِ، فَأَرَدْتُ أَنْ تَصِيْرِي إِلَى هَذَا المَلِكِ، فَتَسْعَدِي. قَالَتْ: لَوْ مَلَكْتُ مِنْكَ مَا مَلَكْتَ مِنِّي، مَا بِعتُكَ بِالدُّنْيَا، فَاذْكُرِ العَهْدَ - وَقَدْ كَانَ حَلَفَ أَنْ لاَ يَأْكلَ لَهَا ثمناً - فَتَغَرْغَرَتْ عَيْنَاهُ، وَقَالَ لِجَعْفَرٍ: اشَهَدُوا أَنَّهَا حُرَّةٌ، وَأَنِّي قَدْ تَزَوَّجْتُهَا، وَأَمْهَرْتُهَا دَارِي. فَقَالَ جَعْفَرٌ: انْهضْ بِنَا. (17/60) فَدَعَوْتُ الحَمَّالِيْنَ لنقلِ الذَّهبِ، فَقَالَ جَعْفَرٌ: وَاللهِ لاَ صَحِبْنَا مِنْهُ دِرْهَمٌ، وَقَالَ لمَوْلاَهَا: أَنْفِقْهُ عَلَيْكُمَا. (9/63) قِيْلَ: كَانَ فِي خَزَائِنِ جَعْفَرٍ دَنَانِيْرَ، زِنَةُ الوَاحِدِ مائَةُ مِثْقَالٍ، كَانَ يَرمِي بِهَا إِلَى أَصطحَةِ النَّاسِ سِكَّتَهُ. وَأَصْفَرَ مِنْ ضَرْبِ دَارِ المُلُوْكِ * يَلُوحُ عَلَى وَجْهِهِ جَعْفَرُ يَزِيْدُ عَلَى مائَةٍ وَاحِداً * مَتَى يُعْطَه مُعْسِرٌ يُوْسِرُ وَقِيْلَ: بَلِ الشِّعْر لأَبِي العتَاهِيَةِ، وَكَانَ عَلَى الدِّيْنَارِ صُوْرَةُ جَعْفَرٍ. قَالَ صَاحِبُ الأَغَانِي: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ الرَّبِيْعِ، حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ جَعْفَرٍ قَالَ: شَهِدتُ أَبِي يُحَدِّثُ جَدِّي وَأَنَا صَغِيْر، قَالَ: أَخذَ بِيَدِي أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ، فَأَقْبَلَ يَخترقُ الحُجَرَ، حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى حُجْرَةٍ، فَفَتَحَهَا، وَدَخَلْنَا، فَأَغْلَقَهَا، وَقَعَدْنَا عَلَى بَابٍ وَنَقَرَهُ، فَسَمِعْتُ صَوْتَ عُوْدٍ، فَغَنَّتِ امْرَأَةٌ، فَأَجَادَت، فَطربتُ وَاللهِ، ثُمَّ غَنَّتْ، فَرَقَصْنَا مَعاً، وَخرجنَا، فَقَالَ لِي: أَتعرِفُ هَذِهِ؟ قُلْتُ: لاَ. قَالَ: عُلَيَّةُ أُخْتِي، وَاللهِ لَئِنْ لفَظْتَ بِهِ لأَقتلَنَّكَ. فَقَالَ لَهُ جَدِّي: فَقَدْ لفظْتَ بِهِ، وَاللهِ لَيَقتُلَنَّكَ. وَقِيْلَ: إِنَّ امْرَأَةً كِلاَبِيَّةً أَنشدَتْ جَعْفَراً: إِنِّيْ مَرَرْتُ عَلَى العقِيْقِ وَأَهْلُهُ * يَشكُوْنَ مِنْ مَطَرِ الرَّبِيْعِ نُزُورَا مَا ضَرَّهُم إِذْ مَرَّ فِيْهِم جَعْفَرٌ * أَنْ لاَ يَكُوْنَ رَبِيْعَهُم مَمْطُورَا (9/64) قَدِ اخْتُلِفَ فِي سَبَبِ مَصْرَعِ جَعْفَرٍ عَلَى أَقْوَالٍ: (17/61) فَقِيْلَ: إِنَّ جِبْرِيْلَ بنَ بختيَشوعَ الطَّبِيْبَ قَالَ: إِنِّيْ لَقَاعِدٌ عِنْدَ الرَّشِيْدِ، فَدَخَلَ يَحْيَى بنُ خَالِدٍ، وَكَانَ يَدْخُلُ بِلاَ إِذنٍ، فَسَلَّمَ، فَردَّ الرَّشِيْدُ ردّاً ضَعِيْفاً، فَوَجَمَ يَحْيَى. فَقَالَ هَارُوْنُ: يَا جِبْرِيْلَ! يَدْخُلُ عَلَيْكَ أَحَدٌ بِلاَ إِذنٍ؟ قُلْتُ: لاَ. قَالَ: فَمَا بَالُنَا؟ فَوَثَبَ يَحْيَى، وَقَالَ: قَدَّمَنِي اللهُ يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ قِبَلَكَ، وَاللهِ مَا هُوَ إِلاَّ شَيْءٌ خَصَصْتَنِي بِهِ، وَالآنَ فَتُبْتُ، فَاسْتَحْيَى الرَّشِيْدُ، وَقَالَ: مَا أَرَدْتُ مَا تَكرَهُ، وَلَكِنَّ النَّاسَ يَقُوْلُوْنَ. وَقِيْلَ: إِنَّ ثُمَامَةَ قَالَ: أَوَّلُ مَا أَنْكَرَ يَحْيَى بنُ خَالِدٍ مِنْ أَمرِهِ، أَنَّ مُحَمَّدَ بنَ اللَّيْثِ رَفَعَ رِسَالَةً إِلَى الرَّشِيْدِ، يَعِظُهُ، وَفِيْهَا: إِنَّ يَحْيَى لاَ يُغنِي عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً، فَأَوْقَفَ الرَّشِيْدُ يَحْيَى عَلَى الرِّسَالَةِ، وَقَالَ: أَتعرفُ مُحَمَّدَ بنَ اللَّيْثِ؟ قَالَ: نَعَمْ، هُوَ مُتَّهَمٌ عَلَى الإِسْلاَمِ. فَسَجَنَهُ، فَلَمَّا نُكِبَتِ البَرَامِكَةُ، أَحضرَهُ، وَقَالَ: أَتُحِبُّنِي؟ قَالَ: لاَ وَاللهِ. قَالَ: أَتَقُوْلُ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَضَعتَ فِي رِجلَيَّ القَيدَ، وَحُلْتَ بَيْنِي وَبَيْنَ عِيَالِي بِلاَ ذَنْبٍ، سِوَى قَوْلِ حَاسدٍ يَكِيدُ الإِسْلاَمَ وَأَهْلَهُ، وَيُحبُّ الإِلْحَادَ وَأَهْلَهُ. فَأَطلَقَهُ، وَقَالَ: أَتُحِبُّنِي؟ قَالَ: لاَ، وَلاَ أُبْغِضُكَ. فَأَمَرَ لَهُ بِمائَةِ أَلفٍ، وَقَالَ: أَتُحِبُّنِي؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: انْتقمَ اللهُ مِمَّنْ ظلمَكَ. فَقَالَ النَّاسُ فِي البَرَامِكَةِ وَكَثَّرُوا. (9/65) وَقِيْلَ: إِنَّ يَحْيَى دَخَلَ بَعْدُ عَلَى الرَّشِيْدِ، فَقَالَ لِلْغِلْمَانِ: لاَ تَقُوْمُوا لَهُ، فَارْبَدَّ لَوْنُ يَحْيَى. (17/62) وَقِيْلَ: بَلْ سَبَبُ قتلِ جَعْفَرٍ، أَنَّ الرَّشِيْدَ سَلَّمَ لَهُ يَحْيَى بنَ عَبْدِ اللهِ بنِ حَسَنٍ العلوِيَّ، فَرَقَّ لَهُ، وَأَطلقَهُ سِرّاً، فَجَاءَ رَجُلٌ يَنْعتُهُ إِلَى الرَّشِيْدِ، وَأَنَّهُ رَآهُ بِحُلوَانَ، فَأَعْطَى الرَّجُلَ مَالاً. وَقِيْلَ: بَلْ أَنشَأَ جَعْفَرٌ دَاراً، أَنْفَقَ عَلَيْهَا عِشْرِيْنَ أَلْفَ أَلفِ دِرْهَمٍ، فَأَسرفَ. وَقِيْلَ: اعْتمرَ يَحْيَى بنُ خَالِدٍ، فَتَعَلَّقَ بِالأَسْتَارِ، وَقَالَ: رَبِّ ذُنُوبِي عَظِيْمَةٌ، فَإِنْ كُنْتَ مُعَاقِبِي، فَاجْعلْ عقُوبَتِي فِي الدُّنْيَا، وَإِنْ أَحَاطَ ذَلِكَ بِسَمْعِي، وَبَصْرِي، وَمَالِي، وَوَلدِي، حَتَّى أَبلغَ رضَاكَ، فَقدحَ الأَمِيْرُ ابْنُ مَاهَانَ عِنْدَ الرَّشِيْدِ فِي مُوْسَى بنِ يَحْيَى بنِ خَالِدٍ، وَأَعْلَمَهُ طَاعَةَ أَهْلِ خُرَاسَانَ لَهُ، وَأَنَّهُ يُكَاتِبُهُم، فَاسْتوحشَ الرَّشِيْدُ مِنْهُ، وَركِبَهُ دَيْنٌ، فَاخْتفَى مِنَ الغُرَمَاءِ، فَتَوَهَّمَ الرَّشِيْدُ أَنَّهُ سَارَ إِلَى خُرَاسَانَ، ثُمَّ ظهرَ، فَسَجَنَهُ، فَهَذَا أَوَّلُ نَكْبَتِهِم، فَأَتَتْ أُمُّهُ تُلاَطفُ الرَّشِيْدَ، فَقَالَ: يَضمنُهُ أَبُوْهُ، فَضمِنَهُ. وَغَضِبَ الرَّشِيْدُ أَيْضاً عَلَى الفَضْلِ بنِ يَحْيَى، لِتَرْكِهِ الشُّربَ مَعَهُ، وَكَانَ الفَضْلُ يَقُوْلُ: لَوْ عَلِمتُ أَنَّ شُرْبَ المَاءِ يَنْقُصُ مُروءتِي، لِتركتُهُ، وَكَانَ مَشْغُوَفاً بِالسَّمَاعِ، وَكَانَ جَعْفَرٌ يُنَادِمُ الرَّشِيْدَ، وَيَأْمرُهُ أَبُوْهُ بِالإِقلاَلِ مِنْ ذَلِكَ، فَلاَ يَسْمَعُ. وَقَالَ يَحْيَى: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ! أَنَا أَكرهُ مدَاخِلَ جَعْفَرٍ مَعَكَ، فَلَو اقْتصرْتَ بِهِ عَلَى الإِمْرَةِ دُوْنَ العُشْرَةِ. قَالَ: يَا أَبتِ لَيْسَ ذَا بِكَ، بَلْ تُرِيْدُ أَنْ تُقَدِّمَ الفَضْلَ عَلَيْهِ. (9/66) (17/63) ابْنُ جَرِيْرٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بنُ زُهَيْرٍ، أَظُنُّه عَنْ عَمِّهِ زَاهِرِ بنِ حَرْبٍ، أَنَّ سَبَبَ هَلاَكِ البَرَامِكَةِ، أَنَّ الرَّشِيْدَ كَانَ لاَ يَصبرُ عَنْ جَعْفَرٍ وَأُخْتِه عَبَّاسَةَ، وَكَانَ يُحْضِرُهُمَا مَجْلِسَ الشَّرَابِ، فَيَقومُ هُوَ، فَقَالَ: أُزَوِّجُكَهَا عَلَى أَنْ لاَ تَمَسَّهَا. قَالَ: فَكَانَا يَثملاَنِ، وَيَذْهَبُ الرَّشِيْدُ، وَيثبُ جَعْفَرٌ عَلَيْهَا، فَوَلَدَتْ مِنْهُ غُلاَماً، فَوَجَّهَتْهُ إِلَى مَكَّةَ، فَاخْتفَى الأَمْرُ، ثُمَّ ضَرَبَتْ جَارِيَةً لَهَا، فَوَشَتْ بِهَا، فَلَمَّا حَجَّ الرَّشِيْدُ، هَمَّ بِقتلِ الطِّفلِ، ثُمَّ تَأْثَّم مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا وَصلَ إِلَى الحِيْرَةِ، بَعَثَ إِلَى مَسْرُوْرٍ الخَادِمِ، وَمَعَهُ أَبُو عِصْمَةَ، وَأَجْنَادٌ، فَأَحَاطُوا بِجَعْفَرٍ لِيْلاً، فَدَخَلَ عَلَيْهِ مَسْرُوْرٌ وَهُوَ فِي مَجْلِسِ لَهْوٍ، فَأَخْرَجَهُ بِعُنْفٍ، وَقَيَّدَهُ بقِيدِ حِمَارٍ، وَأَتَى بِهِ، فَأَمرَ الرَّشِيْدُ بِقَتْلِهِ. وَعَنْ مَسْرُوْرٍ قَالَ: وَقَعَ عَلَى رِجْلِي يُقَبِّلُهَا، وَقَالَ: دَعْنِي أَدخلُ فَأُوصِي. قُلْتُ: لاَ سَبِيْلَ إِلَى ذَا، فَأَوصِ بِمَا شِئْتَ. فَأَوْصَى، وَأَعتقَ مَمَالِيْكَهُ، ثُمَّ ذَبَحْتُهُ بَعْدَ أَنْ رَاجعتُ فِيْهِ الرَّشِيْدَ، وَجِئْتُهُ بِرَأَسِهِ. وَوجَّهَ الرَّشِيْدُ جُنْداً إِلَى أَبِيْهِ، فَأَحَاطُوا بِهِ وَبأَوْلاَدِهِ وَمَوَالِيْه، وَأُخِذَتْ أَمْوَالُهُم وَأَملاَكُهُم، وَبُعِثَتْ جُثَّةُ جَعْفَرٍ إِلَى بَغْدَادَ، فَصُلِبَ، وَنُودِي: أَلاَ لاَ أَمَانَ لِمَنْ آوَى بَرْمَكِيّاً، وَصَلَبَ الرَّشِيْدُ أَنَسَ بنَ أَبِي شَيْخٍ عَلَى الزَّنْدَقَةِ، وَكَانَ مُخْتَصّاً بِالبَرَامِكَةِ. (9/67) (17/64) عَنْ إِبْرَاهِيْمَ بنِ المَهْدِيِّ قَالَ: خَلاَ جَعْفَرٌ يَوْماً بِنُدَمَائِهِ وَأَنَا فِيْهِم، وَتضَمَّخَ بِالطِّيبِ، فَجَاءهُ عَبْدُ المَلِكِ بنُ صَالِحٍ، فَدَخَلَ، فَاربَدَّ وَجْهُ جَعْفَرٍ، فَدَعَا عَبْدُ المَلِكِ غُلاَمَهُ، فَنَزَعَ سوَادَهُ، وَقَلنسُوتَهُ، وَأَتَى مَجْلِسَنَا، فَأَلبسُوهُ حَرِيْراً، وَأَطعمَ وَشَربَ. فَقَالَ: وَاللهِ مَا شَرِبتُهُ قَبْلَ اليَوْمِ، فَأَخفِ علِيَّ، وَنَادَمَ أَحْسَنَ مُنَادِمَةٍ، وَسُرِّيَ عَنْ جَعْفَرٍ، وَقَالَ: اذكُرْ حَوَائِجَكَ، فَإِنِّي لاَ أَسْتَطِيْعُ مُقَابَلَةَ مَا كَانَ مِنْكَ. قَالَ: فِي قَلْبِ أَمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ عَلَيَّ مَوْجِدَةٌ، فَتُخْرِجُهَا. قَالَ: قَدْ رَضِيَ عَنْكَ أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ. قَالَ: وَعَلَيَّ أَرْبَعَةُ آلاَفِ أَلفٍ. قَالَ: قُضِيَ دَينُكَ. قَالَ: وَابْنِي إِبْرَاهِيْمُ، أُحِبُّ أَنْ أُزَوِّجَهُ. قَالَ: قَدْ زَوَّجَهُ أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ بِالعَالِيَةِ بِنْتِهِ. قَالَ: وَأُوثرُ أَنْ يُولَّى بَلَداً. قَالَ: قَدْ وَلاَّهُ أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ مِصْرَ، فَخَرَجَ وَنَحْنُ مُتَعَجِّبُوْنَ مِنْ إِقدَامِ جَعْفَرٍ عَلَى هَذِهِ الأُمُوْرِ العَظِيْمَةِ، مِنْ غَيْرِ اسْتِئِذَانٍ، وَرَكِبَ إِلَى الرَّشِيْدِ، فَأَمْضَى لَهُ الجَمِيْعَ. (9/68) قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: بَلَغَ مِنْ أَمْرِ جَعْفَرٍ أَنَّ الرَّشِيْدَ اتَّخَذَ لَهُ ثَوْباً لَهُ زِيقَانَ يَلبَسُهُ هُوَ وَهُوَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَنْهُ صَبْرٌ، وَكَانَتْ عَبَّاسَةُ أُخْتُ الرَّشِيْدِ أَعزَّ امْرَأَةٍ عَلَيْهِ، فَكَانَ مَتَى غَابَت أَوْ غَابَ جَعْفَرٌ تَنغَّصَ، وَقَالَ لِجَعْفَرٍ: سَأُزَوِّجُكَهَا لِمُجَرَّدِ النَّظَرِ، فَاحْذَرْ أَنْ تَخْلُوَ بِهَا، فَزَوَّجَهُ. (17/65) فَقِيْلَ: إِنَّهَا أَحَبَّتْهُ، وَرَاوَدَتْهُ، فَأَبَى، وَأَعْيَتْهَا الحِيْلَةُ، فَبَعَثَتْ إِلَى وَالِدَةِ جَعْفَرٍ: أَنِ ابْعثِينِي إِلَى ابْنِكِ كَأَنَّنِي جَارِيَةٌ لَكِ، تُتْحِفِيْنَهُ بِهَا، فَأَبَتْ. فَقَالَتْ: لَئِنْ لَمْ تَفْعلِي، لأَقُوْلَنَّ عَنْكِ: إِنَّكِ دَعَوتِيْنِي إِلَى هَذَا، وَلَئِنْ وَلَدتُ مِنِ ابْنِكِ، لِيكُوْننَّ لَكُمُ الشَّرَفُ، فَأَجَابَتْهَا. قَالَ: فَاقتَضَّهَا، فَقَالَتْ: كَيْفَ رَأَيْتَ خدِيعَةَ بَنَاتِ الخُلَفَاءِ، فَأَنَا مَوْلاَتُكَ، فَطَارَ السُّكرُ مِنْ رَأْسِهِ، وَقَامَ، وَقَالَ لأُمِّهِ: بِعتِيْنِي -وَاللهِ- رَخِيْصاً، وَحَبِلَتْ مِنْهُ. فَلَمَّا وَلدَتْ، وَكَّلَتْ بِالوَلَدِ خَادِماً وَمُرْضِعاً، وَبَعَثتْهُم إِلَى مَكَّةَ، ثُمَّ وَشَتْ بِهَا زُبَيْدَةُ، فَحَجَّ، وَتَحَقَّقَ الأَمْرَ، فَأَضْمَرَ السُّوْءَ لِلبَرَامِكَةِ، وَأَشَارَ أَبُو نُوَاسٍ إِلَى ذَلِكَ، فَقَالَ: أَلاَ قُل لأَمِيْنِ اللـ * ـهِ وَابْنِ القَادَةِ السَّاسَه إِذَا مَا نَاكِثٌ سَرَّ * كَ أَنْ تُعْدِمَهُ رَأْسَه فَلاَ تَقْتُلْهُ بِالسَّيْفِ * وَزَوِّجْهُ بِعَبَّاسَه وَسُئِلَ سَعِيْدُ بنُ سَالِمٍ عَنْ ذَنْبِ البَرَامِكَةِ، فَقَالَ: مَا كَانَ مِنْهُم بَعْضُ مَا يُوجِبُ مَا فَعلَ الرَّشِيْدُ، لَكِن طَالَتْ أَيَّامُهُم، وَكُلُّ طَوِيْلٍ يُمَلُّ. وَقِيْلَ: رُفعَتْ قِصَّةٌ إِلَى الرَّشِيْدِ فِيْهَا: قُلْ لأَمِيْنِ الله فِي أَرْضِهِ * وَمَنْ إِلَيْهِ الحَلُّ وَالعَقْدُ هَذَا ابْنُ يَحْيَى قَدْ غَدَا مَالِكاً * مِثْلَكَ مَا بَيْنَكُمَا حَدُّ أَمْرُكَ مَرْدُوْدٌ إِلَى أَمْرِهِ * وَأَمْرُهُ مَا إِنْ لَهُ رَدُّ وَقَدْ بَنَى الدَّارَ الَّتِي مَا بَنَى الـ * ـفُرْسُ لَهَا مِثْلاً وَلاَ الهِنْدُ الدُّرُّ وَاليَاقُوْتُ حَصْبَاؤُهَا * وَتُرْبُهَا العَنْبَرُ وَالنَّدُّ (17/66) وَنَحْنُ نَخْشَى أَنَّهُ وَارِثٌ * مُلْكَكَ إِنْ غَيَّبَكَ اللَّحْدُ فَقَرَأَهَا، وَأَثَّرَتْ فِيْهِ. (9/69) وَقِيْلَ: إِنَّ أُخْتَه قَالَتْ لَهُ: مَا رَأَيْتُ لَكَ سُرُوْراً مُنْذُ قتلتَ جَعْفَراً، فَلِمَ قَتَلْتَهُ؟ قَالَ: لَوْ عَلِمتُ أَنَّ قمِيْصِي يَعلَمُ السَّبَبَ لَمَزَّقْتُهُ. عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الهَاشِمِيِّ خَطِيْبِ الكُوْفَةِ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أُمِّي يَوْمَ الأَضْحَى، وَعِنْدَهَا عَجُوْزٌ فِي أَثْوَابٍ رَثَّةٍ، فَقَالَتْ: تَعرِفُ هَذِهِ؟ قُلْتُ: لاَ. قَالَتْ: هَذِهِ وَالِدَةُ جَعْفَرٍ البَرْمَكِيِّ، فَسلَّمْتُ عَلَيْهَا، وَرحَّبْتُ بِهَا، وَقُلْتُ: حدِّثِينَا بِبَعْضِ أَمرِكُم. قَالَتْ: لَقَدْ هجمَ عَلَيَّ مِثْلُ هَذَا العِيْدِ، وَعَلَى رَأْسِي أَرْبَعُ مائَةِ جَارِيَةٍ، وَأَنَا أَزعمُ أَنَّ ابْنِي عَاقٌّ لِي، وَقَدْ أَتَيْتُكُم يُقنِعُنِي جلدُ شَاتَيْنِ، أَجْعَلُ أَحَدَهُمَا فِرَاشاً لِي. قَالَ: فَأَعْطِيْتُهَا خَمْسَ مائَةِ دِرْهَمٍ، فَكَادَتْ تَموَتُ فَرَحاً. لَمْ يَزَلْ يَحْيَى، وَآلُهُ مَحْبُوْسِينَ، وَحَالُهُم حَسَنَةٌ، إِلَى أَنْ سخطَ الرَّشِيْدُ عَلَى ابْنِ عَمِّهِ عَبْدِ المَلِكِ بنِ صَالِحٍ، فَعَمَّهُم بِسُخْطِهِ، وَجَدَّدَ لَهُم التُّهمَةَ، وَضَيَّقَ عَلَيْهِم. وَدَامتْ جُثَّةُ جَعْفَرٍ مُعَلَّقَةً مُدَّةً، وَعُلِّقتْ أَطْرَافُهُ بِأَمَاكِنَ، ثُمَّ أُحْرِقَتْ. وَقِيْلَ: لَمْ يُحبسْ مُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى. (9/70) وَفِي (تَارِيْخِ ابْنِ خَلِّكَانَ): أَنَّ الرَّشِيْدَ دَعَا يَاسِراً غُلاَمَهُ، فَقَالَ: قَدِ انْتَخَبْتُكَ لأَمرٍ لَمْ أَرَ لَهُ الأَمِيْنَ وَلاَ المَأْمُوْنَ، فَحَقِّقْ ظَنِّي. قَالَ: لَوْ أَمَرْتَنِي بِقتلِ نَفْسِي لَفَعَلْتُ. قَالَ: ائِتِنِي بِرَأَسِ جَعْفَرٍ، فَوَجَمَ لَهَا. قَالَ: وَيْلَكَ، مَا لَكَ؟ (17/67) قَالَ: الأَمْرُ عَظِيْمٌ، لِيتَنِي متُّ قَبْلَ هَذَا. قَالَ: امضِ وَيْلَكَ. فَمَضَى، فَأَتَى جَعْفَراً، فَقَالَ: يَا يَاسِرُ! سَرَرْتَنِي بِإِقبالِكَ، لَكِنْ سُؤْتَنِي بِدُخُوْلِكَ بِلاَ إِذنٍ. قَالَ: الأَمْرُ وَرَاءَ ذَلِكَ يَا جَعْفَرٌ، قَدْ أُمِرْتُ بِكَذَا. قَالَ المِسْكِيْنُ - وَأَقْبَلَ يُقَبِّلُ قَدَمَهُ - وَقَالَ: دَعْنِي أَدخلُ وَأُوصِي. قَالَ: لاَ سَبِيْلَ إِلَى ذَلِكَ، فَأَوصِ. فَقَالَ لِي: عَلَيْكَ حَقٌّ، فَارْجِعْ إِلَى أَمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ، وَقُلْ: قَتَلْتُهُ، فَإِنْ نَدِمَ كَانَتْ حَيَاتِي عَلَى يَدِكَ. قَالَ: لاَ أَقْدِرُ. قَالَ: فَآتِي مَعَكَ إِلَى مُخَيَّمِهِ، وَأَسْمَعُ كَلاَمَهُ، وَقَوْلَكَ لَهُ. قَالَ: أَمَّا هَذَا فَنَعَمْ، وَذَهَبَ بِهِ، فَلَمَّا دَخَلَ يَاسِرٌ، قَالَ: مَا وَرَاءكَ؟ فَذَكَرَ لَهُ قَوْلَ جَعْفَرٍ، فَشَتَمَهُ، وَقَالَ: لَئِنْ رَاجَعْتَنِي، لأُقَدِّمَنَّكَ قَبْلَهُ، فَخَرَجَ وَضَرَبَ عُنُقَهُ، وَأَتَاهُ بِرَأْسِهِ. فَقَالَ: يَا يَاسِرُ! جِئنِي بِفُلاَنٍ وَفُلاَنٍ. فَلَمَّا أَتَاهُ بِهِمَا، قَالَ: اضرِبَا عُنُقَهُ، فَإِنِّي لاَ أَقدرُ أَرَى قَاتَلَ جَعْفَرٍ. وَقَالَ أَبُو العَتَاهِيَةِ: قُوْلاَ لِمَنْ يَرْتَجِي الحَيَاةَ: أَمَا * فِي جَعْفَرٍ عِبْرَةٌ وَيَحْيَاهُ؟ كَانَا وَزِيْرَيْ خَلِيْفَةِ اللهِ هَا * رُوْنَ، هُمَا مَا هُمَا وَزِيْرَاهُ فَذَالِكُم جَعْفَرٌ بِرُمَّتِهِ * فِي حَالِقٍ رَأْسُهُ وَنِصْفَاهُ وَالشَّيْخُ يَحْيَى الوَزِيْرُ أَصْبَحَ قَدْ * نَحَّاهُ عَنْ نَفْسِهِ وَأَقصَاهُ شُتِّتَ بَعْدَ الجَمِيْعِ شَمْلُهُمُ * فَأَصْبَحُوا فِي البِلاَدِ قَدْ تَاهُوا كَذَاكَ مَنْ يُسْخِطُ الإِلَهَ بِمَا * يُرْضِي بِهِ العَبْدَ يَجْزِهِ اللهُ سُبْحَانَ مَنْ دَانَتِ المُلُوْكُ لَهُ * نَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوْ (17/68) طُوْبَى لِمَنْ تَابَ قَبْلَ عَثْرَتِهِ * فَتَابَ قَبْلَ المَمَاتِ طُوْبَاهُ قَالَ المُحَدِّثُ عَبْدُ اللهِ بنُ رَوْحٍ المَدَائِنِيُّ: وُلِدْتُ يَوْم قُتِلَ جَعْفَرُ بنُ يَحْيَى، وَهُوَ أَوَّلُ صَفَرٍ، سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِيْنَ وَمائَةٍ، عَاشَ سَبْعاً وَثَلاَثِيْنَ سَنَةً، وَمَاتَ أَخُوْهُ الفَضْلُ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِيْنَ وَمائَةٍ، وَكَانَ أَخاً لِلرَّشِيْدِ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَأُمُّهُ بَرْبَرِيَّةٌ، وَكَانَ قَدْ وَلِيَ إِمْرَةَ خُرَاسَانَ، وَكَانَ مِنْ نُبَلاَءِ الرِّجَالِ، وَكَانَ أَكرَمَ وَأَجْوَدَ مِنْ جَعْفَرٍ، لَكِنَّهُ كَانَ ذَا تِيْهٍ وَكِبْرٍ عَظِيْمٍ، وَصَلَ مَرَّةً عَمْرَو بنَ جَمِيْلٍ التَّمِيْمِيَّ بِأَلفِ أَلفِ دِرْهَمٍ، وَعَاشَ خَمْساً وَأَرْبَعِيْنَ سَنَةً، وَلَهُ عِدَّةُ إِخْوَةٍ. (9/71) (17/69) |