أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ أَبُو عَبْدِ اللهِ (ع) خ
 
الحِجَازِ، وَلاَ قَالَ: مِصْرِيّاً، فَإِنَّ غَيْرَهُمَا كَانَ أَقعَدَ بِحَدِيْثِ مِصْرَ مِنْهُمَا. (11/214)
الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُوْسَى بنُ هَارُوْنَ: سَمِعْتُ ابْنَ رَاهْوَيْه يَقُوْلُ:
لَمَّا خَرَجَ أَحْمَدُ إِلَى عَبْدِ الرَّزَّاقِ، انقطَعتْ بِهِ النَّفقَةُ، فَأَكرَى نَفْسَه مِنْ بَعْضِ الجَمَّالِيْنَ إِلَى أَنْ وَافَى صَنْعَاءَ، وَعَرَضَ عَلَيْهِ أَصْحَابُه المُوَاسَاةَ، فَلَمْ يَأْخُذْ.
(21/254)

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيْلُ بنُ أَبِي الحَارِثِ، قَالَ:
مَرَّ بِنَا أَحْمَدُ، فَقُلْنَا لإِنْسَانٍ: اتبَعْه، وَانظُرْ أَيْنَ يَذْهَبُ.
فَقَالَ: جَاءَ إِلَى حَنَّكٍ المَرْوَزِيِّ، فَمَا كَانَ إِلاَّ سَاعَةً حَتَّى خَرَجَ.
فَقُلْتُ لِحَنَّكٍ بَعْدُ: جَاءك أَبُو عَبْدِ اللهِ؟
قَالَ: هُوَ صَدِيْقٌ لِي، وَاسْتَقرَضَ مِنِّي مائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَجَاءنِي بِهَا، فَقُلْتُ: مَا نَوَيْتُ أَخْذَهَا.
فَقَالَ: وَأَنَا مَا نَويتُ إِلاَّ أَنْ أَرُدَّهَا إِلَيْكَ.
أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا الطَّبَرَانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ مُوْسَى البَرْبرِيُّ، قَالَ:
حُمِلَ إِلَى الحَسَنِ الجَرَوِيِّ مِيرَاثُهُ مِنْ مِصْرَ مائَةَ أَلْفِ دِيْنَارٍ، فَأَتَى أَحْمَدَ بِثَلاَثَةِ آلاَفِ دِيْنَارٍ، فَمَا قَبِلهَا.
أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا الحُسَيْنُ بنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا شَاكِرُ بنُ جَعْفَرٍ، سَمِعْتُ أَحْمَدَ بنَ مُحَمَّدٍ التُّسْتَرِيَّ يَقُوْلُ:
ذَكَرُوا أَنَّ أَحْمَدَ بنَ حَنْبَلٍ أَتَى عَلَيْهِ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ مَا طَعِمَ فِيْهَا، فَبَعَثَ إِلَى صَدِيْقٍ لَهُ، فَاقتَرضَ مِنْهُ دَقِيْقاً، فَجَهَّزوهُ بِسُرعَةٍ، فَقَالَ: كَيْفَ ذَا؟
قَالُوا: تَنُّورُ صَالِحٍ مُسْجَرٌ، فَخَبَرْنَا فِيْهِ.
فَقَالَ: ارفَعُوا.
وَأَمَرَ بِسَدِّ بَابٍ بَينَهُ وَبَيْنَ صَالِحٍ.
قُلْتُ: لِكَوْنِهِ أَخَذَ جَائِزَةَ المُتَوَكِّلِ.
قَالَ يَحْيَى بنُ مَعِيْنٍ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ أَحْمَدَ، صَحِبنَاهُ خَمْسِيْنَ سَنَةً، مَا افتَخَرَ عَلَيْنَا بِشَيْءٍ مِمَّا كَانَ فِيْهِ مِنَ الخَيْرِ.
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ: كَانَ أَبِي يَقْرَأُ كُلَّ يَوْمٍ سُبْعاً، وَكَانَ يَنَامُ نَومَةً خَفِيْفَةً بَعْدَ العِشَاءِ، ثُمَّ يَقومُ إِلَى الصَّباحِ يُصَلِّي وَيَدعُو. (11/215)
(21/255)

وَقَالَ صَالِحٌ: كَانَ أَبِي إِذَا دَعَا لَهُ رَجُلٌ، قَالَ:
لَيْسَ يُحرزُ الرَّجُلُ المُؤْمِنُ إِلاَّ حُفرَتَه، الأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا.
وَقَالَ أَبِي فِي مَرَضِه: أَخرِجْ كِتَابَ عَبْدِ اللهِ بنِ إِدْرِيْسَ، فَقَالَ: اقرَأْ عَليَّ حَدِيْثَ لَيْثٍ: أَنَّ طَاوُوْساً كَانَ يَكْرَهُ الأَنِيْنَ فِي المَرَضِ.
فَمَا سَمِعْتُ لأَبِي أَنِيناً حَتَّى مَاتَ.
وَسَمِعَهُ ابْنُه؛ عَبْدُ اللهِ يَقُوْلُ: تَمنَّيتُ المَوْتَ، وَهَذَا أَمرٌ أَشَدُّ عَلَيَّ مِنْ ذَلِكَ، ذَاكَ فِتْنَةُ الضَّرْبِ وَالحَبْسِ كُنْت أَحْمِلُه، وَهَذِهِ فِتْنَةُ الدُّنْيَا.
قَالَ أَحْمَدُ الدَّوْرَقِيُّ: لَمَّا قَدِمَ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ مِنْ عِنْدِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، رَأَيْتُ بِهِ شُحُوباً بِمَكَّةَ، وَقَدْ تَبَيَّنَ عَلَيْهِ النَّصَبُ وَالتَّعَبُ، فَكَلَّمْتُه، فَقَالَ: هَيِّنٌ فِيْمَا اسْتَفَدنَا مِنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ.
قَالَ عَبْدُ اللهِ: قَالَ أَبِي: مَا كَتَبنَا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ مِنْ حِفْظِهِ إِلاَّ المَجْلِسَ الأَوّلَ، وَذَلِكَ أَنَّا دَخَلنَا بِاللَّيْلِ، فَأَملَى عَلَيْنَا سَبْعِيْنَ حَدِيْثاً، وَقَدْ جَالَسَ مَعْمَراً تِسْعَ سِنِيْنَ، وَكَانَ يَكْتُبُ عَنْهُ كُلَّ مَا يَقُوْلُ.
قَالَ عَبْدُ اللهِ: مَنْ سَمِعَ مِنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بَعْدَ المائَتَيْنِ، فَسمَاعُه ضَعِيْفٌ.
قَالَ مُوْسَى بنُ هَارُوْنَ: سُئِلَ أَحْمَدُ: أَيْنَ نَطلُبُ البُدلاَءَ؟
فَسَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَصْحَابِ الحَدِيْثِ، فَلاَ أَدرِي.
قَالَ المَرُّوْذِيُّ: كَانَ أَبُو عَبْدِ اللهِ إِذَا ذَكَرَ المَوْتَ، خَنَقَتْه العَبرَةُ.
(21/256)

وَكَانَ يَقُوْلُ: الخَوْفُ يَمْنَعُنِي أَكْلَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَإِذَا ذَكَرْتُ المَوْتَ، هَانَ عَلَيَّ كُلُّ أَمرِ الدُّنْيَا، إِنَّمَا هُوَ طَعَامٌ دُوْنَ طَعَامٍ، وَلِباسٌ دُوْنَ لِباسٍ، وَإِنَّهَا أَيَّامٌ قَلاَئِلُ، مَا أَعدِلُ بِالفَقْرِ شَيْئاً، وَلَوْ وَجَدتُ السَّبيلَ، لَخَرجتُ حَتَّى لاَ يَكُوْنَ لِي ذِكْرٌ. (11/216)
وَقَالَ: أُرِيْدُ أَنْ أَكُوْنَ فِي شِعْبٍ بِمَكَّةَ حَتَّى لاَ أُعرَفَ، قَدْ بُليتُ بِالشُّهرَةِ، إِنِّي أَتَمنَّى المَوْتَ صَبَاحاً وَمسَاءً.
قَالَ المَرُّوْذِيُّ: وَذُكِرَ لأَحْمَدَ أَنَّ رَجُلاً يُرِيْدُ لِقَاءهُ، فَقَالَ: أَلَيْسَ قَدْ كَرِهَ بَعْضُهُمُ اللِّقَاءَ يَتَزَيَّنُ لِي وَأَتزيَّنُ لَهُ.
قَالَ: لَقَدِ اسْتَرَحتُ، مَا جَاءنِي الفَرَجُ إِلاَّ مُنْذُ حَلَفتُ أَنْ لاَ أُحِدِّثَ، وَلَيتنَا نُتْرَكُ، الطَّرِيْقُ مَا كَانَ عَلَيْهِ بِشْرُ بنُ الحَارِثِ.
فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ فُلاَناً قَالَ: لَمْ يَزهَدْ أَبُو عَبْدِ اللهِ فِي الدَّرَاهِمِ وَحدَهَا.
قَالَ: زَهِدَ فِي النَّاسِ.
فَقَالَ: وَمَنْ أَنَا حَتَّى أَزهَدَ فِي النَّاسِ؟ النَّاسُ يُرِيْدُوْنَ أَنْ يَزهَدُوا فِيَّ.
وسَمِعْتُه يَكْرَهُ لِلرَّجُلِ النَّومَ بَعْدَ العصرِ، يَخَافُ عَلَى عَقلِهِ.
وَقَالَ: لاَ يُفْلِحُ مَنْ تَعَاطَى الكَلاَمَ، وَلاَ يَخلُو مِنْ أَنْ يَتَجَهَّمَ.
وَسُئِلَ عَنِ القِرَاءةِ بِالأَلْحَانِ، فَقَالَ: هَذِهِ بِدعَةٌ لاَ تُسمعُ. (11/217)
(21/257)

وَمِنْ سِيْرَتِهِ:
قَالَ الخَلاَّلُ: قُلْتُ لِزُهَيْرِ بنِ صَالِحٍ: هَلْ رَأَيْتَ جَدَّكَ؟
قَالَ: نَعَمْ، مَاتَ وَأَنَا فِي عَشْرِ سِنِيْنَ، كُنَّا نَدخُلُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ أَنَا وَأَخوَاتِي، وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ بَابٌ، وَكَانَ يَكْتُبُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا حَبَّتَيْنِ حَبَّتَيْنِ مِنْ فِضَّةٍ فِي رُقعَةٍ إِلَى فَامِيٍّ يُعَامِلُه.
وَرُبَّمَا مَرَرْتُ بِهِ وَهُوَ قَاعِدٌ فِي الشَّمْسِ، وَظَهرُه مَكشُوفٌ، فِيْهِ أَثَرُ الضَّربِ بَيِّنٌ، وَكَانَ لِي أَخٌ أَصْغَرُ مِنِّي اسْمُهُ عَلِيٌّ، فَأَرَادَ أَبِي أَنْ يَخْتِنَهُ، فَاتَّخَذَ لَهُ طَعَاماً كَثِيْراً، وَدَعَا قَوْماً.
فَوَجَّهَ إِلَيْهِ جَدِّي: بَلَغَنِي مَا أَحدَثْتَه لِهَذَا، وَإِنَّكَ أَسرفْتَ، فَابدَأْ بِالفُقَرَاءِ وَالضُّعَفَاءِ.
فَلَمَّا أَنْ كَانَ مِنَ الغَدِ، حَضَرَ الحَجَّامُ، وَحَضَرَ أَهْلُنَا، جَاءَ جَدِّي حَتَّى جَلَسَ عِنْدَ الصَّبِيِّ، وَأَخرَجَ صُرَيرَةً، فَدَفَعَهَا إِلَى الحَجَّامِ، وَقَامَ، فَنَظَرَ الحَجَّامُ فِي الصُّريرَةِ، فَإذَا دِرْهَمٌ وَاحِدٌ.
وَكُنَّا قَدْ رَفَعنَا كَثِيْراً مِنَ الفُرُشِ، وَكَانَ الصَّبِيُّ عَلَى مَصطَبَةٍ مُرتَفِعَةٍ مِنَ الثِّيَابِ المُلَوَّنَةِ، فَلَمْ يُنكِرْ ذَلِكَ.
(21/258)

وَقَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ خُرَاسَانَ ابْنُ خَالَةِ جَدِّي، فَنَزَلَ على أَبِي، فَدَخَلْتُ مَعَهُ إِلَى جَدِّي، فَجَاءتِ الجَارِيَةُ بِطَبَقِ خِلاَفٍ، وَعَلَيْهِ خُبْزٌ وَبَقْلٌ وَمِلْحٌ، وَبِغُضَارَةٍِ، فَوَضَعتْهَا بَيْنَ أَيدينَا، فِيْهَا مَصْلِيَّةٌ فِيْهَا لَحمٌ وَصِلقٌ كَثِيْرٌ، فَأَكَلَ مَعَنَا، وَسَأَلَ ابْنَ خَالَتِه عَمَّنْ بَقِيَ مِنْ أَهلِه بِخُرَاسَانَ فِي خِلاَلِ الأَكْلِ، فَرُبَّمَا استَعجَمَ عَلَيْهِ، فَيُكَلِّمُهُ جَدِّي بِالفَارِسيَّةِ، وَيَضَعُ اللَّحْمَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَبَيْنَ يَدِي.
ثُمَّ أَخَذَ طَبَقاً إِلَى جَنْبِهِ، فَوُضعَ فِيْهِ تَمرٌ وَجَوزٌ، وَجَعَلَ يَأكُلُ وَيُنَاوِلُ الرَّجُلَ. (11/218)
قَالَ المَيْمُوْنِيُّ: كَثِيْراً مَا كُنْتُ أَسأَلُ أَبَا عَبْدِ اللهِ عَنِ الشَّيْءِ، فَيَقُوْلُ: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ.
وَعَنِ المَرُّوْذِيِّ، قَالَ: لَمْ أَرَ الفَقِيرَ فِي مَجْلِسٍ أَعَزَّ مِنْهُ فِي مَجْلِسِ أَحْمَدَ، كَانَ مَائِلاً إِلَيْهِم، مُقَصِّراً عَنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَكَانَ فِيْهِ حِلمٌ، وَلَمْ يَكُنْ بِالعَجُولِ، وَكَانَ كَثِيْرَ التَّوَاضُعِ، تَعْلُوهُ السَّكِينَةُ وَالوَقَارُ، وَإِذَا جَلَسَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ العصرِ لِلْفُتْيَا، لاَ يَتَكَلَّمُ حَتَّى يُسْأَلَ، وَإِذَا خَرَجَ إِلَى مَسْجِدِهِ، لَمْ يَتَصَدَّرْ.
قَالَ عَبْدُ اللهِ: رَأَيْتُ أَبِي حَرَّجَ عَلَى النَّملِ أَنْ يُخْرَجُوا مِنْ دَارِهِ، فَرَأَيْتُ النَّمْلَ قَدْ خَرَجنَ بَعْدُ نَمْلاً سُوداً، فَلَمْ أَرَهُم بَعْدَ ذَلِكَ.
(21/259)

وَمِنْ كَرَمِهِ:
الخَلاَّلُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ، قَالَ:
قَالَ أَبُو سَعِيْدٍ بنُ أَبِي حَنِيْفَةَ المُؤَدِّبُ: كُنْتُ آتِي أَبَاك، فَيَدفعُ إِلَيَّ الثَّلاَثَةَ دَرَاهِمَ وَأَقَلَّ وَأَكْثَرَ، وَيَقَعُدُ مَعِي، فَيَتَحدَّثُ، وَرُبَّمَا أَعطَانِي الشَّيْءَ، وَيَقُوْلُ: أَعطَيتُكَ نِصْفَ مَا عِنْدَنَا.
فَجِئْتُ يَوْماً، فَأَطلْتُ القُعُودَ أَنَا وَهُوَ.
قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ وَمَعَهُ تَحْتَ كِسَائِه أَرْبَعَةُ أَرغِفَةٍ، فَقَالَ: هَذَا نِصْفُ مَا عِنْدَنَا.
فَقُلْتُ: هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَرْبَعَةِ آلاَفٍ مِن غَيْرِكَ.
قَالَ المَرُّوْذِيُّ: رَأَيْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ، وَجَاءهُ بَعْضُ قَرَابَتِه، فَأَعطَاهُ دِرْهَمَيْنِ، وَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَبَعَثَ إِلَى البَقَّالِ، فَأَعطَاهُ نِصْفَ دِرْهَمٍ.
وَعَنْ يَحْيَى بنِ هِلاَلٍ، قَالَ: جِئْتُ أَحْمَدَ، فَأَعطَانِي أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ. (11/219)
وَقَالَ هَارُوْنُ المُسْتَمْلِي: لَقِيْتُ أَحْمَدَ بنَ حَنْبَلٍ، فَقُلْتُ: مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ.
فَأَعطَانِي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، وَقَالَ: مَا عِنْدَنَا غَيْرُهَا.
قَالَ المَرُّوْذِيُّ: رَأَيْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ قَدْ وَهبَ لِرَجُلٍ قَمِيصَه، وَقَالَ: رُبَّمَا وَاسَى مِنْ قُوْتِهِ.
وَكَانَ إِذَا جَاءهُ أَمرٌ يَهمُّه مِنْ أَمرِ الدُّنْيَا، لَمْ يُفطِرْ وَوَاصلَ.
وجَاءهُ أَبُو سَعِيْدٍ الضَّرِيْرُ، وَكَانَ قَالَ قَصِيدَةً فِي ابْنِ أَبِي دَاوُدَ، فَشَكَى إِلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا سَعِيْدٍ، مَا عِنْدَنَا إِلاَّ هَذَا الجَذَعُ.
(21/260)

فَجِيْءَ بِحَمَّالٍ، قَالَ: فَبِعْتُه بِتِسعَةِ دَرَاهِمَ وَدَانِقَيْنِ.
وَكَانَ أَبُو عَبْدِ اللهِ شَدِيدَ الحَيَاءِ، كَرِيْمَ الأَخْلاَقِ، يُعجِبُه السَّخَاءُ.
قَالَ المَرُّوْذِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا الفَوَارِسِ سَاكَنَ أَبِي عَبْدِ اللهِ يَقُوْلُ:
قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللهِ: يَا مُحَمَّدُ، أَلقَى الصَّبِيُّ المِقرَاضَ فِي البِئرِ.
فَنَزَلتُ، فَأَخرَجْتُه.
فَكَتَبَ لِي إِلَى البَقَّالِ: أَعطِه نِصْفَ دِرْهَمٍ.
قُلْتُ: هَذَا لاَ يَسْوَى قِيرَاطاً، وَاللهِ لاَ أَخَذتُه.
قَالَ: فَلَمَّا كَانَ بَعْدُ، دَعَانِي، فَقَالَ: كَمْ عَلَيْكَ مِنَ الكِرَاءِ؟
فَقُلْتُ: ثَلاَثَةُ أَشهرٍ.
قَالَ: أَنْتَ فِي حِلٍّ.
ثُمَّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الخَلاَّلُ: فَاعتَبِرُوا يَا أُولِي الأَلبَابِ وَالعِلْمِ، هَلْ تَجدُوْنَ أَحَداً بَلَغَكم عَنْهُ هَذِهِ الأَخْلاَقُ؟!!
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بنُ سَهْلِ بنِ المُغِيْرَةِ، قَالَ: كُنَّا عِنْد عَفَّانَ مَعَ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ وَأَصْحَابِهم، وَصَنَعَ لَهُم عَفَّانُ حَمَلاً وَفَالُوْذَجَ، فَجَعَلَ أَحْمَدُ يَأْكُلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ قَدَّمُوا، إِلاَّ الفَالُوذَجَ.
فَسَأَلْتُه، فَقَالَ: كَانَ يُقَالُ: هُوَ أَرفَعُ الطَّعَامِ فَلاَ يَأْكلُه.
وَفِي حِكَايَةٍ أُخرَى: فَأَكَلَ لُقمَةَ فَالُوْذَجَ.
وَعَنِ ابْنِ صُبْحٍ، قَالَ: حَضَرتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ عَلَى طَعَامٍ، فَجَاءوا بِأَرُزٍّ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: نِعْمَ الطَّعَامُ، إِنْ أُكلَ فِي أَوِّلِ الطَّعَامِ أَشْبَعَ، وَإِنْ أُكِلَ فِي آخرِهِ هُضِمَ.
وَنُقِلَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ إِجَابَةُ غَيْرِ دَعْوَةٍ. (11/220)
قَالَ حَمْدَانُ بنُ عَلِيٍّ: لَمْ يَكُنْ لِباسُ أَحْمَدَ بذَاكَ، إِلاَّ أَنَّهُ قُطْنٌ نَظِيْفٌ.
(21/261)

وَقَالَ الفَضْلُ بنُ زِيَادٍ: رَأَيْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ فِي الشِّتَاءِ قَمِيصَيْنِ وَجُبَّةً مُلَوَّنَةً بَينَهُمَا، وَرُبَّمَا قَمِيصاً وَفَرْواً ثَقيلاً، وَرَأَيْتُه عَلَيْهِ عِمَامَةٌ فَوْقَ القَلَنْسُوَةِ، وَكِسَاءً