أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ أَبُو عَبْدِ اللهِ (ع) ض |
البَيْتِ لاَ يَخرجُ إِلَى صَلاَةٍ وَلاَ إِلَى غَيْرهَا حَتَّى هلكَ الوَاثِقُ.
وَعَنْ إِبْرَاهِيْمَ بنِ هَانِئٍ، قَالَ: اخْتَفَى أَبُو عَبْدِ اللهِ عِنْدِي ثَلاَثاً، ثُمَّ قَالَ: اطلُبْ لِي مَوْضِعاً. قُلْتُ: لاَ آمَنُ عَلَيْكَ. قَالَ: افعلْ، فَإذَا فعلتَ، أَفَدتُكَ. فَطَلَبتُ لَهُ مَوْضِعاً، فَلَمَّا خَرَجَ، قَالَ: اخْتَفَى رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الغَارِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ تَحَوَّلَ. العَجَبُ مِنْ أَبِي القَاسِمِ عَلِيِّ بنِ الحَسَنِ الحَافِظِ، كَيْفَ ذَكرَ تَرْجَمَةَ أَحْمَدَ مُطَوَّلَةً كعوائِدِه، وَلَكِنْ مَا أوردَ مِنْ أمرِ المِحْنَةِ كَلِمَةً مَعَ صِحَّةِ أَسَانِيْدِهَا، فَإِنَّ حَنْبَلاً أَلَّفهَا فِي جُزءينِ. وَكَذَلِكَ صَالِحُ بنُ أَحْمَدَ، وَجَمَاعَةٌ. قَالَ أَبُو الحُسَيْنِ بنُ المُنَادِي: حَدَّثَنِي جَدِّي؛ أَبُو جَعْفَرٍ، قَالَ: لقيتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ، فرَأَيْتُ فِي يَدَيْهِ مَجمرَةً يُسخِّنُ خِرقَةً، ثُمَّ يَجْعَلُهَا عَلَى جَنْبِهِ مِنَ الضَّربِ، فَقَالَ: يَا أَبَا جَعْفَرٍ، مَا كَانَ فِي القَوْمِ أَرَأفُ بِي مِنَ المُعْتَصِمِ. وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ البُوْشَنْجِيِّ، قَالَ: حَدَّثَ أَحْمَدُ بِبَغْدَادَ جهرَةً حِيْنَ مَاتَ المُعْتَصِمُ. فَرَجَعتُ مِنَ الكُوْفَةِ، فَأَدْرَكتُه فِي رَجَبٍ، سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِيْنَ، وَهُوَ يُحَدِّثُ، ثُمَّ قَطَعَ الحَدِيْثَ لِثَلاَثٍ بَقِيْنَ مِنْ شَعْبَانَ بِلاَ مَنعٍ. بَلْ كَتَبَ الحَسَنُ بنُ عَلِيِّ بنِ الجَعْدِ قَاضِي بَغْدَادَ إِلَى ابْنِ أَبِي دُوَادَ: إِنَّ أَحْمَدَ قَدِ انبَسَطَ فِي الحَدِيْثِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَحْمَدَ، فَقَطَعَ الحَدِيْثَ وَإِلَى أَنْ تُوُفِّيَ. (11/265) (21/311) فَصْلٌ فِي حَالِ الإِمَامِ فِي دَوْلَةِ المُتَوَكِّلِ قَالَ حَنْبَلٌ: وَلِيَ المُتَوَكِّلُ جَعْفَرٌ، فَأَظهَرَ اللهُ السُّنَّةَ، وَفَرَّجَ عَنِ النَّاسِ، وَكَانَ أَبُو عَبْدِ اللهِ يُحَدِّثُنَا وَيُحَدِّثُ أَصْحَابَهُ فِي أَيَّامِ المُتَوَكِّلِ. وَسَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: مَا كَانَ النَّاسُ إِلَى الحَدِيْثِ وَالعِلْمِ أَحوجَ مِنْهُم إِلَيْهِ فِي زَمَانِنَا. قَالَ حَنْبَلٌ: ثُمَّ إِنَّ المُتَوَكِّلَ ذَكَرَه، وَكَتَبَ إِلَى إِسْحَاقَ بنِ إِبْرَاهِيْمَ فِي إِخْرَاجِه إِلَيْهِ، فَجَاءَ رَسُوْلُ إِسْحَاقَ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ يَأْمُرُه بِالحُضُوْرِ، فَمَضَى أَبُو عَبْدِ اللهِ ثُمَّ رَجَعَ، فَسَأَلَهُ أَبِي عَمَّا دُعِيَ لَهُ؟ فَقَالَ: قَرَأَ عَلَيَّ كِتَابَ جَعْفَرٍ يَأْمُرُنِي بِالخُرُوجِ إِلَى العَسكرِ -يَعْنِي: سُرَّ مَنْ رَأَى-. قَالَ: وَقَالَ لِي إِسْحَاقُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ: مَا تَقُوْلُ فِي القُرْآنِ؟ فَقُلْتُ: إِنَّ أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ قَدْ نَهَى عَنْ هَذَا. قَالَ: وَخَرَجَ إِسْحَاقُ إِلَى العَسْكَرِ، وَقَدَّمَ ابْنَه مُحَمَّداً يَنُوبُ عَنْهُ بِبَغْدَادَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: وَقَالَ لِي إِسْحَاقُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ: لاَ تُعْلِمْ أَحَداً أَنِّي سَأَلتُكَ عَنِ القُرْآنِ! فَقُلْتُ لَهُ: مَسْأَلَةُ مُستَرشِدٍ أَوْ مَسْأَلَةُ مُتَعَنِّتٍ؟ قَالَ: بَلْ مُستَرشِدٍ. قُلْتُ: القُرْآنُ كَلاَمُ اللهِ لَيْسَ بِمَخْلُوْقٍ. (11/266) قَالَ صَالِحُ بنُ أَحْمَدَ: قَالَ أَبِي: قَالَ لِي إِسْحَاقُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ: اجعَلْنِي فِي حِلٍّ مِنْ حُضُوْرِي ضَرْبَكَ. (21/313) فَقُلْتُ: قَدْ جَعَلتُ كُلَّ مَنْ حَضَرَنِي فِي حِلٍّ. وَقَالَ لِي: مِنْ أَيْنَ قُلْتَ: إِنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوْقٍ؟ فَقُلْتُ: قَالَ اللهُ: {أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأَعرَافُ: 54]، فَفَرَّقَ بَيْنَ الخَلْقِ وَالأَمْرِ. فَقَالَ إِسْحَاقُ: الأَمْرُ مَخْلُوْقٌ. فَقَالَ: يَا سُبْحَانَ اللهِ! أَمَخْلُوْقٌ يَخْلُقُ خَلقاً؟!! قُلْتُ: يَعْنِي: إِنَّمَا خَلَقَ الكَائِنَاتِ بِأَمرِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: (كُنْ} [الأَنعَامُ: 73]. قَالَ: ثُمَّ قَالَ لِي: عَمَّنْ تَحكِي أَنَّهُ لَيْسَ بِمَخْلُوْقٍ؟ قُلْتُ: عَنْ جَعْفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: لَيْسَ بِخَالِقٍ وَلاَ مَخْلُوْقٍ. قَالَ حَنْبَلٌ: وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللهِ مَا يَتَحَمَّلُ بِهِ أَوْ يُنفِقُه، وَكَانَتْ عِنْدِي مائَةُ دِرْهَمٍ، فَأَتيتُ بِهَا أَبِي، فَذَهَبَ بِهَا إِلَيْهِ، فَأَصْلحَ بِهَا مَا احْتَاجَ إِلَيْهِ، وَاكتَرَى وَخَرَجَ، وَلَمْ يَمضِ إِلَى مُحَمَّدِ بنِ إِسْحَاقَ بنِ إِبْرَاهِيْمَ، وَلاَ سَلَّمَ عَلَيْهِ. فَكَتَبَ بِذَلِكَ مُحَمَّدٌ إِلَى أَبِيْهِ، فَحَقَدَهَا إِسْحَاقُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ! إِنَّ أَحْمَدَ خَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ، وَلَمْ يَأْتِ مَولاَكَ مُحَمَّداً. فَقَالَ المُتَوَكِّلُ: يُرَدُّ وَلَوْ وَطِئَ بِسَاطِي - وَكَانَ أَحْمَدُ قَدْ بَلَغَ بُصْرَى -. فَرُدَّ، فَرَجَعَ وَامْتَنَعَ مِنَ الحَدِيْثِ إِلاَّ لِوَلَدِهِ وَلَنَا، وَرُبَّمَا قَرَأَ عَلَيْنَا فِي مَنْزِلِنَا. ثُمَّ إِنَّ رَافِعاً رَفَعَ إِلَى المُتَوَكِّلِ: إِنَّ أَحْمَدَ رَبَّصَ عَلَوِيّاً فِي مَنْزِلِهِ، يُرِيْدُ أَنْ يُخْرِجَهُ وَيُبَايِعَ عَلَيْهِ. (11/267) (21/314) قَالَ: وَلَمْ يَكُنْ عِنْدنَا عِلمٌ، فَبَينَا نَحْنُ ذَاتَ لَيْلَةٍ نِيَامٌ فِي الصَّيْفِ، سَمِعنَا الجَلَبَةَ، وَرَأينَا النِّيرَانَ فِي دَارِ أَبِي عَبْدِ اللهِ، فَأَسرَعنَا، وَإِذَا بِهِ قَاعِدٌ فِي إِزَارٍ، وَمُظَفَّرُ بنُ الكَلْبِيِّ صَاحِبُ الخَبَرِ وَجَمَاعَةٌ مَعَهُم، فَقَرَأَ صَاحِبُ الخَبَرِ كِتَابَ المُتَوَكِّلِ: وَرَدَ عَلَى أَمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ أَنَّ عِندَكُم عَلَوِيّاً رَبَّصتَه لِتُبَايِعَ لَهُ وَتُظهِرَهُ...، فِي كَلاَمٍ طَوِيْلٍ. ثُمَّ قَالَ لَهُ مُظَفَّرٌ: مَا تَقُوْلُ؟ قَالَ: مَا أَعْرِفُ مِنْ هَذَا شَيْئاً، وَإِنِّي لأَرَى لَهُ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ فِي عُسْرِي وَيُسْرِي، وَمَنْشَطِي وَمَكْرَهِي، وَأَثَرَةٍ عَلَيَّ، وَإِنِّي لأَدعُو اللهَ لَهُ بِالتَّسديدِ وَالتَّوفيقِ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ...، فِي كَلاَمٍ كَثِيْرٍ. فَقَالَ مُظَفَّرٌ: قَدْ أَمَرَنِي أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ أَنْ أُحَلِّفَكَ. قَالَ: فَأَحلَفَهُ بِالطَّلاَقِ ثَلاَثاً أَنَّ مَا عِنْدَهُ طَلِبَةَ أَمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ. ثُمَّ فَتَّشوا مَنْزِلَ أَبِي عَبْدِ اللهِ وَالسربَ وَالغُرفَ وَالسطوحَ، وَفتَّشوا تَابوتَ الكُتُبِ، وَفتَّشوا النِّسَاءَ وَالمَنَازِلَ، فَلَمْ يَرَوْا شَيْئاً، وَلَمْ يُحِسُّوا بِشَيءٍ، وَرَدَّ اللهُ الَّذِيْنَ كَفرُوا بِغَيظهِم، وَكُتِبَ بِذَلِكَ إِلَى المُتَوَكِّلِ، فَوَقَعَ مِنْهُ مَوقِعاً حَسَناً، وَعَلِمَ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللهِ مَكْذُوْبٌ عَلَيْهِ. وَكَانَ الَّذِي دَسَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِن أَهْلِ البِدَعِ، وَلَمْ يَمُتْ حَتَّى بَيَّنَ اللهُ أَمرَهُ لِلْمُسْلِمِيْنَ، وَهُوَ ابْنُ الثَّلْجِيِّ. (21/315) فلَمَّا كَانَ بَعْدَ أَيَّامٍ، بَيْنَا نَحْنُ جُلُوْسٌ بِبَابِ الدَّارِ، إِذَا يَعْقُوْبُ - أَحَدُ حُجَّابِ المُتَوَكِّلِ - قَدْ جَاءَ، فَاسْتَأْذَنَ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ، فَدَخَلَ، وَدَخَلَ أَبِي وَأَنَا، وَمَعَ بَعْضِ غِلمَانِه بَدْرَةٌ عَلَى بَغلٍ، وَمَعَهُ كِتَابُ المُتَوَكِّلِ، فَقَرَأَهُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ: إِنَّه صَحَّ عِنْدَ أَمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ بَرَاءةُ سَاحَتِكَ، وَقَدْ وَجَّهَ إِلَيْكَ بِهَذَا المَالِ تَسْتَعِينُ بِهِ. (11/268) فَأَبَى أَنْ يَقبَلَهُ، وَقَالَ: مَا لِي إِلَيْهِ حَاجَةٌ. فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، اقبلْ مِنْ أَمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ مَا أَمرَكَ بِهِ، فَإِنَّه خَيْرٌ لَكَ عِنْدَهُ، فَإِنَّكَ إِنْ رَدَدتَه، خِفتُ أَنْ يَظُنَّ بِكَ سُوءاً. فَحِيْنَئِذٍ قَبِلهَا. فَلَمَّا خَرَجَ، قَالَ: يَا أَبَا عَلِيٍّ. قُلْتُ: لَبَّيكَ. قَالَ: ارفعْ هَذِهِ الإِنْجَانَةَ وَضَعْهَا -يَعْنِي: البَدْرَةَ- تَحْتَهَا. فَفَعَلتُ، وَخَرجْنَا. فَلَمَّا كَانَ مِنَ اللَّيْلِ، إِذَا أُمُّ وَلَدِ أَبِي عَبْدِ اللهِ تَدقُّ عَلَيْنَا الحَائِطَ، فَقَالَتْ: مَوْلاَيَ يَدعُو عَمَّه. فَأَعْلَمتُ أَبِي، وَخَرَجْنَا، فَدَخَلْنَا عَلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ، وَذَلِكَ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، فَقَالَ: يَا عَمِّ! مَا أَخَذَنِي النَّومُ. قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: لِهَذَا المَالِ. وَجَعَلَ يَتَوَجَّعُ لأَخذِهِ، وَأَبِي يُسَكِّنُهُ، وَيُسَهِّلُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: حَتَّى تُصبِحَ وَتَرَى فِيْهِ رَأْيَكَ، فَإِنَّ هَذَا لَيْلٌ، وَالنَّاسُ فِي المَنَازِلِ. (21/316) فَأَمسَكَ وَخَرَجنَا، فَلَمَّا كَانَ مِنَ السَّحَرِ، وَجَّهَ إِلَى عُبْدُوْسِ بنِ مَالِكٍ، وَإِلَى الحَسَنِ بنِ البَزَّارِ، فَحضرَا، وَحَضَرَ جَمَاعَةٌ، مِنْهُم: هَارُوْنُ الحَمَّالُ، وَأَحْمَدُ بنُ مَنِيْعٍ، وَابْنُ الدَّوْرَقِيِّ، وَأَبِي، وَأَنَا، وَصَالِحٌ، وَعَبْدُ اللهِ، وَجَعَلْنَا نَكتُبُ مَنْ يَذْكُرُونَه مِنْ أَهْلِ السِّترِ وَالصَّلاَحِ بِبَغْدَادَ وَالكُوْفَةِ، فَوجَّهَ مِنْهَا إِلَى أَبِي كُرَيْبٍ، وَلِلأَشَجِّ، وَإِلَى مَنْ يَعْلَمُوْنَ حَاجتَه، فَفَرَّقهَا كُلَّهَا مَا بَيْنَ الخَمْسِيْنَ إِلَى المائَةِ، وَإِلَى المائَتَيْنِ، فَمَا بَقِيَ فِي الكِيْسِ دِرْهَمٌ. فلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ، مَاتَ الأَمِيْرُ إِسْحَاقُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ وَابْنُه مُحَمَّدٌ، ثُمَّ وَلِيَ بَغْدَادَ عَبْدُ اللهِ بنُ إِسْحَاقَ، فَجَاءَ رَسُوْلٌ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ، فَذَهَبَ إِلَيْهِ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ كِتَابَ المُتَوَكِّلِ، وَقَالَ لَهُ: يَأمرُكَ بِالخُرُوجِ -يَعْنِي: إِلَى سَامَرَّاءَ-. (11/269) فَقَالَ: أَنَا شَيْخٌ ضَعِيْفٌ عَليلٌ. فَكَتَبَ عَبْدُ اللهِ بِمَا رَدَّ عَلَيْهِ، فَوَردَ جَوَابُ الكِتَابِ: إِنَّ أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ يَأْمرُهُ بِالخُرُوجِ. فَوجَّهَ عَبْدُ اللهِ أَجنَاداً، فَبَاتُوا عَلَى بَابِنَا أَيَّاماً، حَتَّى تَهَيَّأَ أَبُو عَبْدِ اللهِ لِلْخُرُوْجِ، فَخَرَجَ وَمَعَهُ صَالِحٌ وَعَبْدُ اللهِ وَأَبِي زُمَيلَةً. وَقَالَ صَالِحٌ: كَانَ حَمْلُ أَبِي إِلَى المُتَوَكِّلِ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلاَثِيْنَ، ثُمَّ وَإِلَى أَنْ مَاتَ أَبِي قَلَّ يَوْمٌ يَمضِي إِلاَّ وَرَسُوْلُ المُتَوَكِّلِ يَأْتِيهِ. وَقَالَ صَالِحٌ: وَجَّهَ إِسْحَاقُ إِلَى أَبِي: الزمْ بَيتَكَ، وَلاَ تَخرجْ إِلَى جَمَاعَةٍ وَلاَ جُمُعَةٍ، وَإِلاَّ نَزَلَ بِكَ مَا نَزلَ بِكَ أَيَّامَ أَبِي إِسْحَاقَ. (21/317) وَقَالَ ابْنُ الكَلْبِيِّ: أُرِيْدُ أَنْ أُفتِّشَ مَنْزِلَكَ وَمَنْزِلَ ابنِكَ. فَقَامَ مُظَفَّرٌ وَابْنُ الكَلْبِيِّ، وَامْرَأَتَانِ مَعَهُمَا، فَفَتَّشوا، وَدَلَّوْا شَمعَةً فِي البِئرِ، وَنَظرُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ يَوْمَيْنِ، وَرَدَ كِتَابُ عَلِيِّ بنِ الجَهْمِ: إِنَّ أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ قَدْ صَحَّ عِنْدَهُ بَرَاءتُكَ...، وَذَكَرَ نَحْواً مِنْ رِوَايَةِ حَنْبَلٍ. قَالَ حَنْبَلٌ: فَأَخْبَرَنِي أَبِي، قَالَ: دَخلْنَا إِلَى العَسْكَرِ، فَإِذَا نَحْنُ بِمَوْكِبٍ عَظِيْمٍ مُقبلٍ، فَلَمَّا حَاذَى بِنَا، قَالُوا: هَذَا وَصِيْفٌ. وَإِذَا بفَارِسٍ قَدْ أَقبلَ، فَقَالَ لأَبِي عَبْدِ اللهِ: الأَمِيْرُ وَصِيْفٌ يُقْرِئُكَ السَّلاَمَ، وَيَقُوْلُ لَكَ: إِنَّ اللهَ قَدْ أَمكنَكَ مِنْ عَدُوِّكَ -يَعْنِي: ابْنَ أَبِي دُوَادَ- وَأَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ يَقبَلُ مِنْكَ، فَلاَ تَدَعْ شَيْئاً إِلاَّ تَكَلَّمتَ بِهِ. فَمَا رَدَّ عَلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللهِ شَيْئاً، وَجَعَلتُ أَنَا أَدعُو لأَمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ، وَدَعَوتُ لِوَصِيْفٍ، وَمَضَينَا، فَأُنزِلنَا فِي دَارِ إِيتَاخَ، وَلَمْ يَعْرِفْ أَبُو عَبْدِ اللهِ، فَسَأَلَ بَعْدُ: لِمَنْ هَذِهِ الدَّارُ؟ قَالُوا: هَذِهِ دَارُ إِيتَاخَ. قَالَ: حَوِّلُونِي، اكْتَرُوا لِي دَاراً. قَالُوا: هَذِهِ دَارٌ أَنزَلَكَهَا أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ. قَالَ: لاَ أَبِيتُ هَا هُنَا. وَلَمْ يَزَلْ حَتَّى اكتَرَينَا لَهُ دَاراً، وَكَانَتْ تَأتِينَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مَائِدَةٌ فِيْهَا أَلوَانٌ يَأمُرُ بِهَا المُتَوَكِّلُ وَالثَّلجُ وَالفَاكهَةُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، فَمَا ذَاقَ مِنْهَا أَبُو عَبْدِ اللهِ شَيْئاً، وَلاَ نَظَرَ إِلَيْهَا، وَكَانَ نَفَقَةُ المَائِدَةِ فِي اليَوْمِ مائَةً |