أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ أَبُو عَبْدِ اللهِ (ع) ط |
وَعِشْرِيْنَ دِرْهَماً. (11/270)
(21/318) وَكَانَ يَحْيَى بنُ خَاقَانَ، وَابْنُهُ عُبَيْدُ اللهِ، وَعَلِيُّ بنُ الجَهْمِ يَخْتَلِفُوْنَ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ بِرِسَالَةِ المُتَوَكِّلِ، وَدَامتِ العِلَّةُ بِأَبِي عَبْدِ اللهِ، وَضَعُفَ شَدِيْداً. وَكَانَ يُوَاصِلُ، وَمكثَ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ لاَ يَأْكُلُ وَلاَ يَشربُ، فَفِي الثَّامِنِ دَخَلتُ عَلَيْهِ، وَقَدْ كَادَ أَنْ يُطفَأَ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ! ابْنُ الزُّبَيْرِ كَانَ يُوَاصِلُ سَبْعَةً، وَهَذَا لَكَ اليَوْمَ ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ! قَالَ: إِنِّي مُطيقٌ. قُلْتُ: بِحقِّي عَلَيْكَ. قَالَ: فَإِنِّي أَفْعَلُ. فَأَتَيْتُه بِسَوِيْقٍ، فَشربَ، وَوجَّهَ إِلَيْهِ المُتَوَكِّلُ بِمَالٍ عَظِيْمٍ، فَرَدَّهُ، فَقَالَ لَهُ عُبَيْد اللهِ بنُ يَحْيَى: فَإِنَّ أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَدفَعَهَا إِلَى وَلَدِكَ وَأَهلِكَ. قَالَ: هُم مُستَغْنُوْنَ. فَرَدَّهَا عَلَيْهِ، فَأَخذَهَا عُبَيْدُ اللهِ، فَقَسَمَهَا عَلَى وَلَدِهِ، ثُمَّ أَجْرَى المُتَوَكِّلُ عَلَى أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ فِي كُلِّ شَهْرٍ أَرْبَعَةَ آلاَفٍ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللهِ: إِنَّهُم فِي كِفَايَةٍ، وَلَيْسَتْ بِهِم حَاجَةٌ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ المُتَوَكِّلُ: إِنَّمَا هَذَا لِوَلَدِكَ، فَمَا لَكَ وَلِهَذَا؟ فَأمسَكَ أَبُو عَبْدِ اللهِ، فَلَمْ يَزَلْ يُجرِي عَلَيْنَا حَتَّى مَاتَ المُتَوَكِّلُ. وَجَرَى بَيْنَ أَبِي عَبْدِ اللهِ وَبَيْنَ أَبِي كَلاَمٌ كَثِيْرٌ، وَقَالَ: يَا عَمِّ! مَا بَقِيَ مِنْ أَعمَارِنَا، كَأَنَّكَ بِالأمرِ قَدْ نَزَلَ، فَاللهَ اللهَ، فَإِنَّ أَوْلاَدَنَا إِنَّمَا يُرِيْدُوْنَ أَنْ يَأكُلُوا بِنَا، وَإِنَّمَا هِيَ أَيَّامٌ قَلاَئِلُ، وَإِنَّمَا هَذِهِ فِتْنَةٌ. (11/271) قَالَ أَبِي: فَقُلْتُ: أَرْجُو أَنْ يُؤمِّنَكَ اللهُ مِمَّا تَحذَرُ. (21/319) فَقَالَ: كَيْفَ وَأَنْتُم لاَ تَترُكُوْنَ طَعَامَهُم وَلاَ جَوَائِزَهُم؟ لَوْ تَركتُمُوهَا، لَتَرَكُوكُم، مَاذَا نَنتَظِرُ؟ إِنَّمَا هُوَ المَوْتُ، فَإِمَّا إِلَى جنَّةٍ، وَإِمَّا إِلَى نَارٍ، فَطُوْبَى لِمَنْ قَدِمَ عَلَى خَيْرٍ. قَالَ: فَقُلْتُ: أَلَيْسَ قَدْ أُمرتَ مَا جَاءكَ مِنْ هَذَا المَالِ مِنْ غَيْرِ إِشرَافِ نَفْسٍ وَلاَ مَسْأَلَةٍ أَنْ تَأْخُذَه؟ قَالَ: قَدْ أَخذتُ مَرَّةً بِلاَ إِشرَافِ نَفْسٍ، فَالثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ؟ أَلَمْ تَسْتَشرِفْ نَفْسُكَ؟ قُلْتُ: أَفَلَمْ يَأْخُذِ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ؟ فَقَالَ: مَا هَذَا وَذَاكَ! وَقَالَ: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّ هَذَا المَالَ يُؤْخَذُ مِنْ وَجْهِه، وَلاَ يَكُوْنُ فِيْهِ ظُلمٌ وَلاَ حَيْفٌ، لَمْ أُبالِ. قَالَ حَنْبَلٌ: وَلَمَّا طَالتْ عِلَّةُ أَبِي عَبْدِ اللهِ، كَانَ المُتَوَكِّلُ يَبْعَثُ بِابْنِ مَاسَوَيْه المُتَطَبِّبِ، فَيَصِفُ لَهُ الأَدْوِيَةَ، فَلاَ يَتَعَالَجُ، وَيَدْخُلُ ابْنُ مَاسَوَيْه، فَقَالَ: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ، لَيْسَتْ بِأَحْمَدَ عِلَّةٌ، إِنَّمَا هُوَ مِنْ قِلَّةِ الطَّعَامِ وَالصِّيَامِ وَالعِبَادَةِ. فَسَكَتَ المُتَوَكِّلُ. وَبَلَغَ أُمَّ المُتَوَكِّلِ خَبَرُ أَبِي عَبْدِ اللهِ، فَقَالَتْ لاِبْنِهَا: أَشْتَهِي أَنْ أَرَى هَذَا الرَّجُلَ. فَوَجَّهَ المُتَوَكِّلُ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ يَسْأَلُهُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى ابْنِهِ المُعْتَزِّ، وَيَدْعُوَ لَهُ، وَيُسَلِّمَ عَلَيْهِ، وَيَجْعَلَهُ فِي حَجْرِهِ. (21/320) فَامْتَنَعَ، ثُمَّ أَجَابَ، رَجَاءَ أَنْ يُطلَقَ وَيَنحَدِرَ إِلَى بَغْدَادَ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ المُتَوَكِّلُ خِلْعَةً، وَأَتَوْهُ بِدَابَّةٍ يَرْكَبُهَا إِلَى المُعْتَزِّ، فَامْتَنَعَ، وَكَانَتْ عَلَيْهِ مِيثرَةُ نُمُورٍ، فَقُدِّمَ إِلَيْهِ بَغلٌ لِتَاجرٍ، فَرَكِبَه، وَجَلَسَ المُتَوَكِّلُ مَعَ أُمِّهِ فِي مَجْلِسٍ مِنَ المَكَانِ، وَعَلَى المَجْلِسِ سِترٌ رَقِيْقٌ، فَدَخَلَ أَبُو عَبْدِ اللهِ عَلَى المُعْتَزِّ، وَنَظَرَ إِلَيْهِ المُتَوَكِّلُ وَأُمُّهُ. فَلَمَّا رَأَتْهُ، قَالَتْ: يَا بُنَيَّ، اللهَ اللهَ فِي هَذَا الرَّجُلِ، فَلَيْسَ هَذَا مِمَّنْ يُرِيْدُ مَا عِنْدَكُم، وَلاَ المَصْلَحَةُ أَنْ تَحْبِسَه عَنْ مَنْزِلِهِ، فَائذَنْ لَهُ لِيَذْهَبَ. (11/272) فَدَخَلَ أَبُو عَبْدِ اللهِ عَلَى المُعْتَزِّ، فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُم. وَجَلَسَ، وَلَمْ يُسلِّمْ عَلَيْهِ بِالإِمرَةِ، فَسَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ بَعْدُ يَقُوْلُ: لَمَّا دَخَلتُ عَلَيْهِ، وَجَلَسْتُ، قَالَ مُؤَدِّبُه: أَصْلَحَ اللهُ الأَمِيْرَ، هَذَا هُوَ الَّذِي أَمَرَهُ أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ يُؤَدِّبُكَ وَيُعِلِّمُكَ؟ فَقَالَ الصَّبِيُّ: إِنْ عَلَّمَنِي شَيْئاً، تَعَلَّمتُهُ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: فَعَجِبتُ مِنْ ذَكَائِه وَجَوَابِه عَلَى صِغَرِه، وَكَانَ صَغِيْراً. وَدَامَتْ عِلَّةُ أَبِي عَبْدِ اللهِ، وَبَلَغَ المُتَوَكِّلَ مَا هُوَ فِيْهِ، وَكَلَّمَهُ يَحْيَى بنُ خَاقَانَ أَيْضاً، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَجُلٌ لاَ يُرِيْدُ الدُّنْيَا، فَأَذِنَ لَهُ فِي الانْصِرَافِ، فَجَاءَ عُبَيْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى وَقْتَ العَصْرِ، فَقَالَ: إِنَّ أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ قَدْ أَذِنَ لَكَ، وَأَمَرَ أَنْ يَفْرُشَ لَكَ حَرَّاقَةً تَنْحَدِرُ فِيْهَا. (21/321) فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: اطلبُوا لِي زَوْرَقاً أَنْحَدِرِ السَّاعَةَ. فَطَلَبُوا لَهُ زَوْرَقاً، فَانْحَدَرَ لِوَقْتِهِ. قَالَ حَنْبَلٌ: فَمَا عَلِمْنَا بِقُدُوْمِه حَتَّى قِيْلَ: إِنَّه قَدْ وَافَى. فَاسْتَقبَلتُه بِنَاحِيَةِ القَطِيعَةِ، وَقَدْ خَرَجَ مِنَ الزَّوْرَقِ، فَمَشَيتُ مَعَهُ، فَقَالَ لِي: تَقَدَّمْ لاَ يَرَاكَ النَّاسُ فَيَعرِفُونِي، فَتَقَدَّمْتُهُ. قَالَ: فَلَمَّا وَصَلَ، أَلْقَى نَفْسَهُ عَلَى قَفَاهُ مِنَ التَّعَبِ وَالعَيَاءِ. وَكَانَ رُبَّمَا اسْتَعَارَ الشَّيْءَ مِنْ مَنْزِلِنَا وَمَنْزِلِ وَلَدِهِ، فَلَمَّا صَارَ إِلَيْنَا مِنْ مَالِ السُّلْطَانِ مَا صَارَ، امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى لَقَدْ وُصِفَ لَهُ فِي عِلَّتِهِ قَرْعَةٌ تُشوَى، فَشُويتْ فِي تَنُّورِ صَالِحٍ، فَعَلِمَ، فَلَمْ يَسْتَعمِلْهَا، وَمِثلُ هَذَا كَثِيْرٌ. (11/273) وَقَدْ ذَكَرَ صَالِحٌ قِصَّةَ خُرُوْجِ أَبِيْهِ إِلَى العَسْكَرِ، وَرُجُوعِهِ، وَتَفْتِيْشِ بُيُوْتِهِم عَلَى العَلَوِيِّ، وَوُرُودِ يَعْقُوْبَ بِالبَدرَةِ، وَأَنَّ بَعْضَهَا كَانَ مائَتَيْ دِيْنَارٍ، وَأَنَّهُ بَكَى، وَقَالَ: سَلِمتُ مِنْهُم، حَتَّى إِذَا كَانَ فِي آخِرِ عُمُرِي، بُلِيتُ بِهِم، عَزمتُ عَلَيْكَ أَنْ تُفرِّقَهَا غَداً. فَلَمَّا أَصْبَحَ، جَاءهُ حَسَنُ بنُ البَزَّارِ، فَقَالَ: جِئنِي يَا صَالِحُ بِمِيْزَانٍ، وَجِّهُوا إِلَى أَبْنَاءِ المُهَاجِرِيْنَ وَالأَنْصَارِ، وَإِلَى فُلاَنٍ. حَتَّى فَرَّقَ الجَمِيْعَ، وَنَحْنُ فِي حَالَةٍ اللهُ بِهَا عَلِيْمٌ، فَجَاءنِي ابْنٌ لِي، فَطَلَبَ دِرْهَماً، فَأَخْرَجتُ قِطْعَةً، فَأَعطيتُه، فَكَتَبَ صَاحِبُ البَرِيْدِ: إِنَّه تَصدَّقَ بِالكُلِّ لِيَومِهِ، حَتَّى بِالكِيْسِ. (21/322) قَالَ عَلِيُّ بنُ الجَهْمِ: فَقُلْتُ: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ، قَدْ تَصَدَّقَ بِهَا، وَعَلِمَ النَّاسُ أَنَّهُ قَدْ قَبِلَ مِنْكَ، وَمَا يَصْنَعُ أَحْمَدُ بِالمَالِ؟! وَإِنَّمَا قُوتُهُ رَغِيْفٌ. قَالَ: صَدَقتَ. قَالَ صَالِحٌ: ثُمَّ أُخرِجَ أَبِي لَيلاً، وَمَعَنَا حُرَّاسٌ، فَلَمَّا أَصْبَحَ، قَالَ: أَمَعَكَ دَرَاهِمُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: أَعطِهِم. وَجَعَلَ يَعْقُوْبُ يَسِيْرُ مَعَهُ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، ابْنُ الثَّلْجِيِّ بَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ يَذْكُرُكَ. قَالَ: يَا أَبَا يُوْسُفَ، سَلِ اللهَ العَافِيَةَ. قَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، تُرِيْدُ أَنْ نُؤَدِّيَ عَنْكَ رِسَالَةً إِلَى أَمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ. فَسَكَتَ، فَقَالَ: إِنَّ عَبْدَ اللهِ بنَ إِسْحَاقَ أَخْبَرَنِي أَنَّ الوَابِصِيَّ قَالَ لَهُ: إِنِّي أَشهَدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ أَحْمَدَ يَعْبُدُ مَانِي! فَقَالَ: يَا أَبَا يُوْسُفَ، يَكْفِي اللهُ. فَغَضِبَ يَعْقُوْبُ، وَالْتَفَتَ إِلَيَّ، فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ أَعْجَبَ مِمَّا نَحْنُ فِيْهِ، أَسْأَلُهُ أَنْ يُطلِقَ لِي كَلِمَةً أُخْبِرُ بِهَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ، فَلاَ يَفْعَلُ. (11/274) قَالَ: وَوَجَّهَ يَعْقُوْبُ إِلَى المُتَوَكِّلِ بِمَا عَمِلَ، وَدَخَلنَا العَسْكَرَ، وَأَبِي مُنَكِّسُ الرَّأْسِ، وَرَأْسُهُ مُغَطَّى، فَقَالَ لَهُ يَعْقُوْبُ: اكشِفْ رَأْسَكَ. فَكَشَفَهُ، ثُمَّ جَاءَ وَصِيْفٌ يُرِيْدُ الدَّارَ، وَوَجَّهَ إِلَى أَبِي بِيَحْيَى بنِ هَرْثَمَةَ، فَقَالَ: يُقرِئُكَ أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ السَّلاَمَ، وَيَقُوْلُ: الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يُشْمِتْ بِكَ أَهْلَ البِدَعِ، قَدْ عَلِمتَ حَالَ ابْنِ أَبِي دُوَادَ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَتَكَلَّمَ فِيْهِ بِمَا يَجِبُ للهِ. (21/323) وَمَضَى يَحْيَى، وَأُنْزِلَ أَبِي فِي دَارِ إِيتَاخَ، فَجَاءَ عَلِيُّ بنُ الجَهْمِ، وَقَالَ: قَدْ أَمَرَ لَكُم أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ بِعَشْرَةِ آلاَفٍ مَكَانَ الَّتِي فَرَّقَهَا، وَأَنْ لاَ يَعلَمَ شَيْخُكُم بِذَلِكَ فَيَغتَمَّ. ثُمَّ جَاءهُ مُحَمَّدُ بنُ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: إِنَّ أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ يُكثرُ ذِكرَكَ، وَيَقُوْلُ: تُقيمُ هُنَا تُحَدِّثُ. فَقَالَ: أَنَا ضَعِيْفٌ. وَصَارَ إِلَيْهِ يَحْيَى بنُ خَاقَانَ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، قَدْ أَمرَ أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ أَنْ آتِيَكَ لِتَركَبَ إِلَى ابْنِهِ المُعْتَزِّ. وَقَالَ لِي: أَمَرَنِي أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ يُجرَى عَلَيْهِ وَعَلَى قَرَابَتِكُم أَرْبَعَةُ آلاَفٍ. ثُمَّ عَادَ يَحْيَى مِنَ الغَدِ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، تَركبُ؟ قَالَ: ذَاكَ إِلَيْكُم. وَلَبِسَ إِزَارَه وَخُفَّه، وَكَانَ لِلْخُفِّ عِنْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ عَاماً، قَدْ رُقِّعَ بِرِقَاعٍ عِدَّةٍ، فَأَشَارَ يَحْيَى أَنْ يَلبَسَ قَلَنْسُوَةً. قُلْتُ: مَا لَهُ قَلَنْسُوَةٌ...، إِلَى أَنْ قَالَ: فَدَخَلَ دَارَ المُعْتَزِّ، وَكَانَ قَاعِداً عَلَى مَصطَبَةٍ فِي الدَّارِ، فَصَعَدَ، وَقَعَدَ، فَقَالَ لَهُ يَحْيَى: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، إِنَّ أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ جَاءَ بِكَ لِيُسَرَّ بِقُربِكَ، وَيُصَيِّرَ ابْنَهُ عَبْدَ اللهِ فِي حَجْرِكَ. (11/275) فَأَخْبَرَنِي بَعْضُ الخُدَّامِ أَنَّ المُتَوَكِّلَ كَانَ قَاعِداً وَرَاءَ سِتْرٍ، فَقَالَ لأُمِّهِ: يَا أُمَّه، قَدْ أَنَارَتِ الدَّارُ. ثُمَّ جَاءَ خَادِمٌ بِمِندِيلٍ، فَأَخَذَ يَحْيَى المِنْدِيلَ، وَذَكَرَ قِصَّةً فِي إِلبَاسِ أَبِي عَبْدِ اللهِ القَمِيصَ وَالقَلَنْسُوَةَ وَالطَّيْلَسَانَ، وَهُوَ لاَ يُحَرِّكُ يَدَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ. (21/324) وَقَدْ كَانُوا تَحَدَّثُوا: أَنَّهُ يَخلعُ عَلَيْهِ سَوَاداً. فَلَمَّا جَاءَ، نَزَعَ الثِّيَابَ، وَجَعَلَ يَبْكِي، وَقَالَ: سَلِمتُ مِنْ هَؤُلاَءِ مُنْذُ سِتِّيْنَ سَنَةً، حَتَّى إِذَا كَانَ فِي آخِرِ عُمُرِي، بُلِيتُ بِهِم! مَا أَحسَبنِي سَلِمتُ مِنْ دُخُوْلِي عَلَى هَذَا الغُلاَمِ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَجِبُ عَلَيَّ نُصحُه؟! يَا صَالِحُ، وَجِّهْ بِهَذِهِ الثِّيَابِ إِلَى بَغْدَادَ تُبَاعُ، وَيُتَصَدَّقُ بِثَمَنِهَا، وَلاَ يَشتَرِي أَحَدٌ مِنْكُم مِنْهَا شَيْئاً. فَوجَّهتُ بِهَا إِلَى يَعْقُوْبَ بنِ بُخْتَانَ، فَبَاعهَا، وَفرَّقَ ثَمنَهَا، وَبَقِيَتْ عِنْدِي القَلَنْسُوَةُ. قَالَ: وَمَكثَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً يُفطِرُ كُلَّ ثَلاَثٍ عَلَى ثُمْنِ سَوِيْقٍ، ثُمَّ جَعَلَ بَعْدَ ذَلِكَ يُفطِرُ لَيْلَةً عَلَى رَغِيْفٍ، وَلَيْلَةً لاَ يُفْطِرُ، وَإِذَا جَاؤُوا بِالمَائِدَةِ، تُوضَعُ فِي الدِّهلِيْزِ لِئَلاَّ يَرَاهَا، وَكَانَ إِذَا أَجْهَدَهُ الحَرُّ، بَلَّ خِرقَةً، فَيَضَعُهَا عَلَى صَدْرِه، وَفِي كُلِّ يَوْمٍ يُوجَّهُ إِلَيْهِ بِابْنِ مَاسَوَيْهِ، فَينظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، أَنَا أَمِيلُ إِلَيْكَ وَإِلَى أَصْحَابِكَ، وَمَا بِكَ عِلَّةٌ سِوَى الضَّعْفِ وَقِلَّةِ الرِّزِّ. (11/276) قَالَ: وَجَعَلَ يَعْقُوْبُ وَغِيَاثٌ |