المُنْتَصِرُ بِاللهِ مُحَمَّدُ ابنُ المُتَوَكِّلِ عَلَى اللهِ |
الخَلِيْفَةُ، أَبُو جَعْفَرٍ، وَأَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ ابنُ المُتَوَكِّلِ عَلَى اللهِ جَعْفَرِ ابنِ المُعْتَصِم مُحَمَّدِ بنِ هَارُوْنَ الرَّشِيْدِ الهَاشِمِيُّ، العَبَّاسِيُّ.
وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ رُوْمِيَّةٌ، اسْمُهَا حَبَشِيَّةُ. وَكَانَ أَعْيَنَ أَسْمَرَ أَقْنَى، مَلِيْحَ الوَجْهِ، مُضَبَّراً رَبْعَةً، كَبِيْرَ البَطْنِ، مَلِيْحاً مَهِيْباً. وَلَمَّا قُتِلَ أَبُوْهُ دَخَلَ إِلَيْهِ قَاضِي القُضَاةِ جَعْفَرُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ الهَاشِمِيُّ، فَقَالُوا لَهُ: بايِعْ. قَالَ: وَأَيْنَ أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ -يَعْنِي: المُتَوَكِّل-؟ قَالَ: قَتَلَهُ الفَتْحُ بنُ خَاقَانَ. قَالَ: وَأَيْنَ الفَتْحُ؟ قَالَ: قَتَلَهُ بُغَا. قَالَ: فَأَنْتَ وَلِيُّ الدَّمِ، وَصَاحِبُ الثَأْرِ. فَبايَعَهُ وَبَايَعَهُ الوَزِيْرُ وَالكِبَارُ، ثُمَّ صَالَحَ المُنْتَصِرُ إِخْوَتَهُ عَنْ مِيْرَاثِهِمْ عَلَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَنفَى عَمَّهُ عَلِيّاً إِلَى بَغْدَادَ، وَرسَّمَ عَلَيْهِ. وَكَانَ المُنْتَصِرُ وَافِرَ العَقْلِ، رَاغِباً فِي الخَيْرِ، قَلِيْلَ الظُّلْمِ، بَارّاً بِالعَلَوِيْين. (12/43) قِيْلَ: إِنَّهُ كَانَ يَقُوْلُ: يَا بُغَا أَيْنَ أَبِي؟ مَنْ قَتَلَ أَبِي؟!! وَيَسُبُّ الأَترَاكَ، وَيَقُوْلُ: هَؤُلاَءِ قَتَلَةُ الخُلَفَاءِ. فَقَالَ بُغَا الصَّغِيْرُ للَّذِيْنَ قَتَلُوا المُتَوَكِّلَ: مَا لَكُمْ عِنْدَ هَذَا رِزْقٌ. (23/36) فَعَملُوا عَلَيْهِ، وَهَمُّوا، فَعَجِزُوا عَنْهُ؛ لأَنَّهُ كَانَ شُجَاعاً مَهِيْباً يَقِظاً مُتَحِرِّزاً لاَ كَأَبِيْهِ، فَتَحَيَّلُوا إِلَى أَنْ دَسُّوا إِلَى طَبِيْبِهِ ابْنِ طَيْفُوْرَ ثَلاَثِيْنَ أَلْفِ دِيْنَارٍ عِنْدَ مَرَضِهِ، فَأَشَارَ بِفَصْدِهِ، ثُمَّ فَصَدَهُ بِرِيْشَةٍ مَسْمُومَةٍ، فَمَاتَ مِنْهَا. وَيُقَالُ: إِنَّ طَيْفُوْرَ نَسِيَ وَمَرِضَ، وَافْتُصِدَ بِتِلْكَ الرِّيْشَةِ، فَهَلَكَ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: بَلْ حَصَلَ لِلْمُنْتَصِرِ مَرَضٌ فِي أُنْثَيَيْهِ، فَمَاتَ مِنْهُ فِي ثَلاَثِ لَيَالٍ. وَيُقَالُ: مَاتَ بِالخَوَانِيْقِ. وَيُقَالُ: سُمَّ فِي كُمَّثْرَاةٍ بِإِبْرَةٍ. وَوَرَدَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي مَرَضِهِ: ذَهَبَتْ يَا أَمَّاهُ مِنِّيَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ، عَاجَلْتُ أَبِي فعُوْجِلْتُ. وَكَانَ يُتَّهَمُ بِأَنَّهُ وَاطَأَ عَلَى قَتْلِ أَبِيْهِ، فَمَا أُمْهِلَ، وَوَزَرَ لَهُ أَحْمَدُ بنُ الخَصِيْبِ؛ أَحَدُ الظَّلَمَةِ. وذَكَرَ المَسْعُوْدِيُّ: أَنَّهُ أَزَالَ عَنِ الطَّالِبِيِّيْنَ مَا كَانُوا فِيْهِ مِنَ الخَوْفِ وَالمِحْنَةِ مِنْ مَنْعِهِم مِنْ زِيَارَةِ تُرْبَةِ الحُسَيْنِ الشَّهِيْدِ، وَرَدَّ فَدَكَ إِلَى آلِ عَلِيٍّ، وَفِي ذَلِكَ يَقُوْلُ البُحْتُرِيُّ: وَإِنَّ عَلِيّاً لأَوْلَى بِكُمْ * وَأَزْكَى يَداً عِنْدَكُمْ مِنْ عُمَرْ وَكُلّ لَهُ فَضْلُهُ وَالحَجُوْ * لُ يَوْمَ التَّرَاهُنِ دُوْنَ الغُرَرْ (12/44) وَقَالَ يُرِيْدُ المُهَلَّبِيَّ: وَلَقَدْ بَرَرْتَ الطَّالِبيَّةَ بَعْدَ مَا * دَفُّوا زَمَاناً بَعْدَهَا وَزَمَانَا وَرَدَدْتَ أُلْفَةَ هَاشِمٍ فَرَأَيْتَهُم * بَعْدَ العَدَاوَةِ بَيْنَهُم إِخْوَانَا ثُمَّ إِنَّ المُنْتَصِرَ تَمَكَّنَ، وَخَلَعَ مِنَ العَهْدِ إِخْوَتَهُ: المُعْتَزَّ وَإِبْرَاهِيْمَ. (23/37) وَمِنْ كَلاَمِ المُنْتَصِرِ إِذْ عَفَا عَنْ أَبِي العَمَرَّدِ الشَّارِيِّ: لَذَّةُ العَفْوِ أَعْذَبُ مِنْ لَذَةِ التَّشَفِّي، وَأَقْبَحُ فَعَالِ المُقْتَدَرِ الانْتِقَامُ. قَالَ المَسْعُوْدِيُّ:كَانَ المُنْتَصِرُ أَظْهَرَ الإِنْصَافَ فِي الرَّعِيَّةِ، فَمَالُوا إِلَيْهِ مَعَ شِدَّةِ هَيْبَتِهِ. (12/45) وَقَالَ عَلِيُّ بنُ يَحْيَى المُنَجِّمُ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ المُنْتَصِرِ، وَلاَ أَكْرَمَ فعَالاً بِغَيْرِ تَبَجُّحٍ، لَقَدْ رَآنِي مَغْمُوماً، فَسَأَلَنِي، فَوَرَّيْتُ، فَاسْتَحْلَفَنِي، فَذَكَرْتُ إِضَاقَةً فِي ثَمَنِ ضَيْعَةٍ، فَوَصَلَنِي بِعِشْرِيْنَ أَلْفاً. وجَلَسَ مَرَّةً لِلَّهْوِ، فَرَأَى فِي بَعْضِ البُسُطِ دَائِرَةً فِيْهَا فَارِسٌ عَلَيْهِ تَاجٌ، وَحَوْلَهُ كِتَابَةٌ فَارِسِيَّةٌ، فَطَلَبَ مَنْ يَقْرَأ، فَأُحْضِرَ رَجُلٌ، فَنَظَرَ، فَإِذَا فِيْهَا:... فَقَطَّبَ وَسكَتَ، وَقَالَ: لاَ مَعْنَى لَهُ، فَأَلَحَّ المُنْتَصِرُ عَلَيْهِ، قَالَ فِيْهَا: أَنَا شِيْرَوَيْه بنُ كِسْرَى بنِ هِرْمِز، قَتَلْتُ أَبِي، فَلَمْ أُمَتَّعْ بِالمُلْكِ سِوَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ. قَالَ: فَتَغَيَّرَ وَجْهُ المُنْتَصِرِ، وَقَامَ. قَالَ جَعْفَرُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ: قَالَ لِي المُنْتَصِرُ: يَا جَعْفَرُ، لَقَدْ عُوْجِلْتُ، فَمَا أُذنِي بِأُذُنِي، وَلاَ أُبْصِرُ بِعَيْنِي. قُلْتُ: قَلَّ مَا وَقَعَ فِي دَوْلَتِهِ مِنَ الحَوَادِثِ لِقِصَرِ المُدَّةِ، وَعَاشَ سِتّاً وَعِشْرِيْنَ سَنَةً - سَامَحَهُ اللهُ -. وَمَاتَ: فِي خَامَسِ رَبِيْعٍ الآخِرِ، سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِيْنَ وَمائَتَيْنِ، فَكَانَتْ خِلاَفَتَهُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَأَيَّاماً. (23/38) وَكَانَ قَدْ أَبْعَدَ وَصِيْفاً فِي عَسْكَرٍ إِلَى ثَغْرِ الرُّوْمِ، وَكَانَ قَدْ أَلَحَّ عَلَيْهِ هُوَ، وَبُغَا، وَابْنُ الخَصِيْبِ فِي خَلْعِ إِخْوَتِهِ خَوْفاً مِنْ أَنْ يَلِيَ المُعْتَزُّ، فَيَسْتَأَصِلُهُم، فَاعْتُقِلا، وَتَمَنَّعَ أَوَّلاً المُعْتَزُّ، ثُمَّ خَافَ، وَأَشْهَدَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا أَنَّهُمَا يَعْجِزَانِ عَنِ الإِمَامَةِ. فَقَالَ المُنْتَصِرُ: أَتَرَيَانِي خَلَعْتُكُمَا طَمَعاً فِي أَنْ أَعِيْشَ بَعَدَكُمَا حَتَّى يَكْبُرَا بَنِي عَبْدِ الوَهَّابِ، وَأَعْهَدَ إِلَيْهِ؟! وَاللهِ مَا طَمِعْتُ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنْ هَؤُلاَءِ أَلَحُّوا عَليَّ، وَخِفْتُ عَلَيْكُمَا مِنَ القَتْلِ. فَقَبَّلا يَدَهُ، وضَمَّهُمَا إِلَيْهِ. وَلِلْمُنْتَصِرِ مِنَ الوَلَدِ: أَحْمَدُ، وَعلِيٌّ، وَعَبْدُ اللهِ، وَعُمُرُ. (12/46) (23/39) |