المُهْتَدِي بِاللهِ بنُ الوَاثِقِ بنِ المُعْتَصِمِ العَبَّاسِيُّ
 
أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ، المُهْتَدِي بِاللهِ، أَبُو إِسْحَاقَ، وَأَبُو عَبْدِ اللهِ، مُحَمَّدُ بنُ الوَاثِقِ هَارُوْنَ بنِ المُعْتَصِمِ مُحَمَّدِ بنِ الرَّشِيْدِ، العَبَّاسِيُّ.
مَوْلِدُهُ: فِي دَوْلَةِ جَدِّهِ.
وبُوْيِعَ ابْنُ بِضْعٍ وَثَلاَثِيْنَ سَنَةً، لِليلَةٍ بقيَتْ مِنْ رَجَبٍ، سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِيْنَ، وَمَا قَبِلَ مُبَايعَةَ أَحَدٍ حَتَّى أَحْضَرَ المُعْتَزَّ بِاللهِ، فَلَمَّا رَآهُ قَامَ لَهُ، وَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ! وَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَجِيْءَ بشُهُوْدٍ فَشَهِدُوا عَلَى المُعْتَزِّ أَنَّهُ عَاجزٌ عَنْ أَعبَاءِ الإِمَامَةِ، وَأَقرَّ بِذَلِكَ، وَمدَّ يدَهُ، فَبايَعَ ابْنَ عَمِّهِ المُهْتَدِي بِاللهِ.
فَارْتَفَعَ حِيْنَئِذٍ المُهْتَدِي إِلَى صَدْرِ المَجْلِسِ، وَقَالَ: لاَ يجتمعُ سيفَانِ فِي غِمْدٍ، وَأَنشدَ قَوْلَ ابْنِ أَبِي ذُؤَيْبٍ:
تُريدِيْنَ كيمَا تَجْمَعِينِي وَخَالِداً * وَهلْ يُجْمَعُ السَّيفَانِ - وَيْحَكِ - فِي غِمْدِ؟! (12/536)
وَكَانَ المُهْتَدِي أَسْمَرَ، رَقِيْقاً، مَلِيْحَ الوَجْهِ، وَرِعاً، عَادلاً، صَالِحاً، مُتعبِّداً، بَطَلاً، شُجَاعاً، قَوِيّاً فِي أَمرِ اللهِ، خليقاً لِلإِمَارَةِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَجِدْ مُعِيناً، وَلاَ نَاصراً، وَالوَقْتُ قَابلٌ لِلإِدبارِ.
نقلَ الخَطِيْبُ عَنْ أَبِي مُوْسَى العَبَّاسِيِّ أَنَّهُ مَازَالَ صَائِماً مُنْذُ اسْتُخْلِفَ إِلَى أَنْ قُتِلَ.
(24/39)

وَقَالَ أَبُو العَبَّاسِ هَاشِمُ بنُ القَاسِمِ: كُنْتُ عِنْدَ المُهْتَدِي عَشِيَّةً فِي رَمَضَانَ، فَقُمْتُ لأَنصرفَ، فَقَالَ: اجلِسْ.
فَجَلَسْتُ، فصلَّى بِنَا، وَدَعَا بِالطَّعَامِ، فَأُحضِرَ طبقُ خِلاَفٍ عَلَيْهِ أَرغفَةٌ، وَآنيَةٌ فِيْهَا ملحٌ وَزيتٌ وَخَلٌّ، فدعَانِي إِلَى الأَكلِ، فَأَكَلتُ أَكلَ مَنْ يَنْتظرَ الطَّبِيخِ.
فَقَالَ: أَلم تكُنْ صَائِماً.
قُلْتُ: بَلَى.
قَالَ: فُكُلْ، وَاسْتوفِ، فَلَيْسَ هُنَا غَيْرَ مَا تَرَى.
فعجِبْتُ، ثُمَّ قُلْتُ: وَلِمَ يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ! وَقَدْ أَنعَمَ اللهُ عَلَيْكَ؟
قَالَ: إِنِّي فَكَّرْتُ أَنَّهُ كَانَ فِي بَنِي أُمَيَّةَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيْزِ، فغِرْتُ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ، وَأَخذتُ نَفْسِي بِمَا رَأَيْتَ. (12/537)
قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا:، حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ المَرْوَزِيُّ، قَالَ لِي جَعْفَرُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ: ذَاكرتُ المُهْتَدِي بِشَيْءٍ فَقُلْتُ لَهُ: كَانَ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ يَقُوْلُ بِهِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يُخَالَفُ، كَأَنِّي أَشرْتُ إِلَى آبَائِهِ.
فَقَالَ: رَحِمَ اللهُ أَحْمَدَ بنَ حَنْبَلٍ، لَوْ جَازَ لِي لَتَبَرَّأْتُ مِنْ أَبِي، تَكَلَّمْ بِالْحَقِّ، وَقُلْ بِهِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ ليَتَكَلَّمُ بِالْحَقِّ فينبلُ فِي عَيْنِي.
(24/40)

قَالَ نِفْطَوَيْه: أَخْبَرَنَا بَعْضُ الهَاشِمِيِّينَ أَنَّهُ وُجِدَ لِلْمُهْتَدِي صَفَطٌ فِيْهِ جُبَّةُ صوفٍ، وَكسَاءٌ كَانَ يلبَسُهُ فِي اللَّيْلِ، وَيُصَلِّي فِيْهِ، وَكَانَ قَدِ اطَّرَحَ الملاَهِي، وَحرَّمَ الغِنَاءَ، وَحسمَ أَصْحَابَ السُّلْطَانِ عَنِ الظُّلْمِ، وَكَانَ شَدِيْدَ الإِشرَافِ عَلَى أَمرِ الدَّواوينِ، يَجْلِسُ بِنَفْسِهِ، وَيُجْلِسُ بَيْنَ يَدَيْهِ الكُتَّابُ، يَعْمَلُوْنَ الحسَابَ، وَيَلْزَمُ الجُلُوسَ يَوْمَي الخَمِيْسِ وَالاثْنَيْنِ، وَقَدْ ضربَ جَمَاعَةً مِنَ الكِبَارِ، وَنفَى جَعْفَرَ بنَ مَحْمُوْدٍ إِلَى بَغْدَادَ لِرَفْضٍ فِيْهِ، وَقَدِمَ مُوْسَى بنُ بُغَا مِنَ الرَّيِّ فكرهَهُ، وَبَعَثَ بِعَبْدِ الصَّمَدِ بنِ مُوْسَى الهَاشِمِيِّ يَأْمرُهُ بِالرُّجُوعِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَعزلَ مِنَ القَضَاءِ ابْنَ أَبِي الشَّوَارِبِ، وَحَبَسَهُ، وَولَّى مَكَانَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ نَائِلٍ البَصْرِيَّ.
وفِي أَوَائِلِ خِلاَفَتِهِ عَبَّأَ مُوْسَى بنُ بُغَا جَيْشَهُ، وَشهَرَ السِّلاَحَ بِسَامَرَّاءَ لقتلِ صَالِحِ بنِ وَصيفٍ بدمِ المُعْتَزِّ، وَلأَخذِهِ أَمْوَالَ أُمِّهِ قبيحَةَ، وَأَمْوَالَ الدَّواوينِ، وَصَاحَتِ الغوَغَاءُ عَلَى صَالِحٍ: يَا فِرْعَوْنُ جَاءكَ مُوْسَى، فَطَلَبَ مُوْسَى الإِذنَ عَلَى المُهْتَدِي بِاللهِ، فَلَمْ يَأْذنْ لَهُ، فَهجمَ بِمَنْ مَعَهُ وَالمُهْتَدِي جَالِسٌ فِي دَارِ العَدْلِ، فَأَقَامُوهُ وَحملُوهُ عَلَى أَكدُشٍ، وَانتهبُوا القصرَ. (12/538)
وَلَمَّا دَخَلُوا دَارَ نَاجُور أَدخلُوا المُهْتَدِي إِلَيْهَا، وَهُوَ يَقُوْلُ: يَا مُوْسَى اتَّقِ اللهَ وَيْحَكَ مَا تُرِيْدُ؟
(24/41)

قَالَ: وَاللهِ مَا نُريدُ إِلاَّ خَيْراً، وَحلفَ لَهُ: لاَ نَالكَ سوءٌ، ثُمَّ حلَّفُوهُ أَنْ لاَ يُمَالِئ صَالِحَ بنَ وَصيفٍ، فحلَفَ لَهُم، فَبَايعُوهُ حِيْنَئِذٍ، ثُمَّ طلبُوا صَالِحاً ليحَاقِقُوهُ، فَاخْتَفَى، وَرُدَّ المُهْتَدِي بِاللهِ إِلَى دَارِهِ، ثُمَّ قُتِلَ صَالِحٌ شَرَّ قِتلَةٍ فِيْمَا بَعْد.
وفِي المُحَرَّمِ مِنْ سنَةِ سِتٍّ ذُكِرَ أَنَّ سِيَمَا الشَّرَابِيَّ زَعَمَ أَنَّ امْرَأَةً جَاءت بِكِتَابٍ فِيْهِ نصيحَةٌ لأَمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ، وَإِنْ طلبتمونِي فَأَنَا فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا.
قَالَ: فَطُلِبَتْ، فلَمْ تَقَعْ.
فجمعَ الأُمَرَاءَ وَقَالَ: هَذَا كِتَابٌ تَعْرِفونَهُ؟
فَقَالَ رَجُلٌ: نَعَمْ، هُوَ خطُّ صَالِحٍ، وَفِيْهِ يَذْكُرُ أَنَّهُ مُسْتَخْفٍ بِسَامَرَّاءَ، وَأَنَّ الأَمْوَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ الحَسَنِ بنِ مَخْلَدٍ، وَكَانَ كِتَابُهُ دَالاًّ عَلَى قُوَّةِ نَفْسِهِ.
فَأَشَارَ المُهْتَدِي بِالصُّلْحِ، فَاتَّهَمَهُ ابْنُ بُغَا وَذَوُوهُ، وَنَافسُوهُ، ثُمَّ مِنَ الغَدِ تَكلَّمُوا فِي خَلْعِهِ.
فَقَالَ بَاكيَال: وَيْحَكُم، قتلتُمُ ابْنَ المُتَوَكِّلِ، وَتُريدُوْنَ قتْلَ هَذَا الصَّوَّام الدَّيِّن! لَئِنْ فعلتُم لأَصيرَنَّ إِلَى خُرَاسَانَ، وَلأُشنِّعَنَّ عَلَيْكُم.
ثُمَّ خَرَجَ المُهْتَدِي وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ بيضٌ، وَتقلَّدَ سيفاً، وَأَمرَ بِإِدخَالِهِم إِلَيْهِ فَقَالَ: قَدْ بَلَغَنِي شأَنُكُم، وَلَسْتُ كَالمستعينِ وَالمُعْتَزِّ، وَاللهِ مَا خرجْتُ إِلاَّ وَأَنَا مُتَحَنِّطٌ، وَقَدْ أَوصَيْتُ، وَهَذَا سيفِي، فلأَضرِبَنَّ بِهِ مَا اسْتمسَكَ بِيَدِي، أَمَا دِيْنٌ، أَمَا حيَاءٌ، أَمَا رِعَةٌ؟ كم يَكُوْن الخلاَفُ عَلَى الخُلَفَاءِ، وَالجرأَةُ عَلَى اللهِ؟
ثُمَّ قَالَ: مَا أَعْلَمُ أَيْنَ هُوَ صَالِحٌ.
قَالُوا: فَاحلِفْ لَنَا.
(24/42)

قَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الجُمُعَةِ، وَصَلَّيْتُ، حلفْتُ.
فرضُوا وَانفصلُوا عَلَى هَذَا. (12/539)
ثُمَّ وَرَدَ مِنْ فَارِسَ مَالٌ نَحْوَ عَشْرَةِ آلاَفِ أَلفِ دِرْهَمٍ، فَانتشرَ فِي العَامَّةِ أَنَّ الأَترَاكَ عَلَى خَلْعِ المُهْتَدِي، فثَارَ العَوَامُّ وَالقُوَّادُ، وَكتبُوا رِقَاعاً أَلقَوهَا فِي المَسَاجِدِ، معَاشرَ المُسْلِمِيْنَ ادعُو لِخَلِيفَتِكُم العَدْلِ الرِّضَى، المضَاهِي عُمَرَ بنِ عَبْدِ العَزِيْزِ أَنْ يَنْصرَهُ اللهُ عَلَى عَدُوِّهِ.
ورَاسَلَ أَهْلُ الكَرْخِ وَالدُّورِ المُهْتَدِي بِاللهِ فِي الوُثُوبِ عَلَى مُوْسَى بنِ بُغَا، فجزَاهُم خَيْراً، وَوعدَهُم بِالجَمِيْلِ، وَعَاثَتِ الزَّنْجُ بِالبَصْرَةِ، وَيَعْقُوْبُ الصَّفَّارُ بِخُرَاسَانَ، وَقَتَلَ المُهْتَدِي الأَمِيْرَ بَاكيَال، فثَارَ أَصْحَابُهُ، وَأَحَاطُوا بِدَارِ الجوسَقِ، فَأُلْقِيَ الرَّأْسُ إِلَيْهِم، وَركِبَ أَعوَانُ الخَلِيْفَةِ، فَتمَّتْ ملحمَةٌ كُبرَى، قُتِلَ فِيْهَا مِنَ الأترَاكِ أَلوفٌ.
وَقِيْلَ: بَلْ أَلفٌ، فِي رَجَبٍ، سنَةَ سِتٍّ، ثُمَّ أَصبحُوا عَلَى الحَرْبِ، فَرَكِبَ المُهْتَدِي وَصَالِحُ بنُ عَلِيٍّ فِي عُنُقِهِ المُصْحَفُ، يصيحُ: أَيُّهَا النَّاسُ انصرُوا إِمَامَكُم، فَحْمَلَ عَلَيْهِ أَخُو بَاكيَال فِي خَمْسِ مائَةٍ، وَخَامرَ الأَترَاكَ الَّذِيْنَ مَعَ الخَلِيْفَةِ إِلَيْهِ، وَحمِيَ الوطيسُ، وَتفلَّلَ جمعُ المُهْتَدِي، وَاسْتَحَرَّ بِهِمُ القتلُ، فولَّى وَالسَّيْفُ فِي يدِهِ يَقُوْلُ:
(24/43)

أَيُّهَا النَّاسُ، قَاتلُوا عَنْ خلِيفتِكُم، ثُمَّ دَخَلَ دَارَ صَالِحِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ يَزْدَادَ، وَرَمَى السِّلاَحَ، وَلبسَ البيَاضَ لِيهرُبَ مِنَ السَّطْحِ، وَجَاءَ حَاجِبُ بَاكيَال، فَأُعْلِمَ بِهِ، فَهَرَبَ، فرمَاهُ وَاحِدٌ بِسَهْمٍ، وَنفحَهُ بِالسَّيْفِ، ثُمَّ حُمِلَ إِلَى الحَاجِبِ، فَأَركَبُوهُ بغلاً، وَخلْفَهُ سَائِسٌ، وضربُوهُ، وَهُم يَقُوْلُوْنَ: أَيْنَ الذَّهبُ.
فَأَقرَّ لَهُم بِسِتِّ مائَةِ أَلْفِ دِيْنَارٍ مُودعَةٍ بِبَغْدَادَ، فَأَخذُوا خَطَّهُ بِهَا، وَعصرَ تُركِيٌّ عَلَى أُنْثَيَيهِ، فَمَاتَ.
وَقِيْلَ: أَرَادُوا مِنْهُ أَنْ يَخلعَ نَفْسَهُ، فَأَبَى، فَقتلُوهُ -رَحِمَهُ اللهُ- وَبَايعُوا المعتمدَ عَلَى اللهِ.
بنو المُهْتَدِي بِاللهِ: أَبُو جَعْفَرٍ عَبْدُ اللهِ، وَأَبُو الحَسَنِ عَبْدُ الصَّمَدِ، وَأَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَأَبُو أَحْمَدَ عَبْدُ اللهِ، وَأَبُو الفَضْلِ هِبَةُ اللهِ، وَفِي ذُرِّيَّتِهِ عُلَمَاءُ وَخُطَبَاءُ. (12/540)
(24/44)