دَاوُدُ بنُ عَلِيِّ بنِ خَلَفٍ البَغْدَادِيُّ الظَّاهِرِيُّ
 
الإِمَامُ، البَحْرُ، الحَافِظُ، العَلاَّمَةُ، عَالِمُ الوَقْتِ، أَبُو سُلَيْمَانَ البَغْدَادِيُّ، المَعْرُوْفُ بِالأَصْبَهَانِيِّ، مَوْلَى أَمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ المَهْدِيِّ، رَئِيْسُ أَهْلِ الظَّاهِرِ.
مَوْلِدُهُ: سَنَةَ مائَتَيْنِ.
وَسَمِعَ: سُلَيْمَانَ بنَ حَرْبٍ، وَعَمْرَو بنَ مَرْزُوْقٍ، وَالقَعْنَبِيَّ، وَمُحَمَّدَ بنَ كَثِيْرٍ العَبْدِيَّ، وَمُسَدَّدَ بنَ مُسَرْهَدٍ، وَإِسْحَاقَ بنَ رَاهْوَيْه، وَأَبَا ثَوْرٍ الكَلْبِيَّ، وَالقَوَارِيْرِيَّ، وَطَبَقَتَهُم.
وَارْتَحَلَ إِلَى إِسْحَاقَ بنِ رَاهْوَيْه، وَسَمِعَ مِنْهُ (المُسْنَدَ) وَ(التَّفْسِيْرَ)، وَنَاظَرَ عِنْدَهُ؛ وَجَمَعَ وَصَنَّفَ، وَتَصَدَّرَ، وَتَخَرَّجَ بِهِ الأَصْحَابُ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الخَطِيْبُ: صَنَّفَ الكُتُبَ، وَكَانَ إِمَاماً وَرِعاً نَاسِكاً زَاهِداً، وَفِي كُتُبِهِ حَدِيْثٌ كَثِيْرٌ، لَكِنَّ الرِّوَايَة عَنْهُ عَزِيْزَةٌ جِدّاً.
حَدَّثَ عَنْهُ: ابْنُهُ؛ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بنُ دَاوُدَ، وَزَكَرِيَّا السَّاجِيُّ، وَيُوْسُفُ بنُ يَعْقُوْبَ الدَّاوُودِيُّ، وَعَبَّاسُ بنُ أَحْمَدَ المُذَكِّرُ، وَغَيْرُهُم.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ بنُ حَزْمٍ: إِنَّمَا عُرِفَ بِالأَصْبَهَانِيِّ، لأَنَّ أُمَّهُ أَصْبَهَانِيَّةٌ، وَكَانَ أَبُوْهُ حَنَفِيُّ المَذْهَبِ.
قَالَ أَبُو عَمْرٍو المُسْتَمْلِي: رَأَيْتُ دَاوُدَ بنَ عَلِيٍّ يَرُدُّ عَلَى إِسْحَاقَ بنِ رَاهْوَيْه، وَمَا رَأَيْتُ أَحَداً قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ يَرُدُّ عَلَيْهِ، هَيْبَةً لَهُ. (13/99)
(25/90)

قَالَ عُمَرُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ بُجَيْرٍ الحَافِظُ: سَمِعْتُ دَاوُدَ بنَ عَلِيٍّ، يَقُوْلُ:
دَخَلْتُ عَلَى إِسْحَاقَ وَهُوَ يَحْتَجِمُ، فَجَلَسْتُ، فَرَأَيْتُ كُتُبَ الشَّافِعِيِّ، فَأَخَذْتُ أَنْظُرُ، فَصَاحَ بِي إِسْحَاقُ: أَيْش تَنْظُرُ؟
فَقُلْتُ: {مَعَاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} [يُوْسُفُ:75]، قَالَ: فَجَعَلَ يَضْحَكُ، أَوْ يَبْتَسِمُ.
سَعِيْدُ بنُ عَمْرٍو البَرْذَعِيُّ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ، فَاخْتَلَفَ رَجُلاَنِ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي أَمْرِ دَاوُد الأَصْبهَانِي، وَالمُزَنِيّ، وَالرَّجُلاَنِ: فَضْلَكُ الرَّازِيُّ، وَابْنُ خِرَاشٍ، فَقَالَ ابْنُ خِرَاشٍ: دَاوُدُ كَافِرٌ.
وَقَالَ فَضْلَكُ: المُزَنِيُّ جَاهِلٌ.
فَأَقْبَلَ أَبُو زُرْعَةَ يُوَبِّخُهُمَا، وَقَالَ لَهُمَا: مَا وَاحِدٌ مِنْكُمَا لَهُمَا بِصَاحِبٍ.
ثُمَّ قَالَ: تَرَى دَاوُدَ هَذَا، لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى مَا يِقْتَصِرُ عَلَيْهِ أَهْلُ العِلْمِ لَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُكْمِدُ أَهْلَ البِدَعِ بِمَا عِنْدَهُ مِنَ البَيَانِ وَالآلَةِ، وَلَكِنَّهُ تَعَدَّى، لَقَدْ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ نَيْسَابُوْرَ، فَكَتَبَ إِلَيَّ مُحَمَّدِ بنِ رَافِعٍ، وَمُحَمَّدِ بنِ يَحْيَى، وَعَمْرِو بنِ زُرَارَةَ، وَحُسَيْنِ بنِ مَنْصُوْرٍ، وَمَشْيَخَةِ نَيْسَابُورَ بِمَا أَحْدَثَ هُنَاكَ، فَكَتَمْتُ ذَلِكَ لِمَا خِفْتُ مِنْ عَوَاقِبِهِ، وَلَمْ أُبْدِ لَهُ شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ، فَقَدِمَ بَغْدَادَ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَالِحِ بنِ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ حُسْنٌ، فَكَلَّمَ صَالِحاً أَنْ يَتَلَطَّفَ لَهُ فِي الاسْتِئذَانِ عَلَى أَبِيْهِ، فَأَتَى صَالِحٌ أَبَاهُ، فَقَالَ: رَجُلٌ سَأَلَنِي أَنْ يَأْتِيْكَ، فَقَالَ: مَا اسْمُهُ؟
قَالَ: دَاوُدُ.
قَالَ: مِنْ أَيْنَ هُوَ؟
(25/91)

قَالَ: مِنْ أَصْبَهَانَ.
فَكَانَ صَالِحٌ يَرُوْغُ عَنْ تَعْرِيْفِهِ، فَمَا زَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ يَفْحَصُ، حَتَّى فَطِنَ بِهِ، فَقَالَ: هَذَا قَدْ كَتَبَ إِلَيَّ مُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى فِي أَمْرِهِ أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ القُرَآنَ مُحْدَثٌ، فَلاَ يَقْرَبَنِّي.
فَقَالَ: يَا أَبَهْ! إِنَّهُ يَنْتَفِي مِنْ هَذَا وَيُنْكِرَهُ.
فَقَالَ: مُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى أَصَدَقُ مِنْهُ، لاَ تَأْذَنْ لَهُ. (13/100)
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ المَحَامِلِيُّ: رَأَيْتُ دَاوُدَ بنَ عَلِيٍّ يُصَلِّي، فَمَا رَأَيْتُ مُسْلِماً يُشْبِهُهُ فِي حُسْنِ تَوَاضُعِهِ.
وَقَدْ كَانَ مُحَمَّدُ بنُ جَرِيْرٍ الطَّبَرِيُّ يَخْتَلِفُ إِلَى دَاوُدَ بنِ عَلِيٍّ مُدَّةً، ثُمَّ تَخَلَّفَ عَنْهُ، وَعَقَدَ لِنَفْسِهِ مَجْلِساً، فَأَنْشَأَ دَاوُدُ يَتَمَثَّل:
فَلَوْ أَنِّي بُلِيْتُ بِهَاشِمِيٍّ * خُؤُوْلَتُهُ بَنُوَة عَبْدِ المَدَانْ
صَبَرْتُ عَلَى أَذَاهُ لِي وَلَكِنْ * تَعَالَيْ فَانْظُرِيْ بِمَنِ ابْتَلاَنِي
قَالَ أَحْمَدُ بنُ كَامِلٍ القَاضِي: أَخْبَرَنِي أَبُو عَبْدِ اللهِ الوَرَّاقُ:
أَنَّهُ كَانَ يُورق عَلَى دَاوُدَ بنِ عَلِيٍّ، وَأَنَّهُ سَمِعَهُ يُسْأَلُ عَنِ القُرَآنِ، فَقَالَ: أَمَّا الَّذِي فِي اللَّوْحِ المَحْفُوْظِ: فَغَيْرُ مَخْلُوْقٍ، وَأَمَّا الَّذِي هُوَ بَيْنَ النَّاسِ: فَمَخْلُوْقٌ.
(25/92)

قُلْتُ: هَذِهِ التَّفرِقَةُ وَالتَّفْصِيلُ مَا قَالَهَا أَحَدٌ قَبْلَهُ، فِيمَا عَلِمْتُ، وَمَا زَالَ المُسْلِمُوْنَ عَلَى أَنَّ القُرَآنَ العَظِيْمَ كَلاَمُ اللهِ، وَوَحْيُهُ وَتَنْزِيْلُهُ، حَتَّى أَظْهَرَ المَأْمُوْنَ القَوْلَ: بِأَنَّهُ مَخْلُوْقٌ، وَظَهَرَتْ مَقَالَةُ المُعْتَزِلَةِ، فَثَبَتَ الإِمَامُ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ، وَأَئِمَةُ السُّنَّةِ عَلَى القَوْلِ: بِأَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوْقٍ، إِلَى أَنْ ظَهَرَتْ مَقَالَةُ حُسَيْنِ بنِ عَلِيٍّ الكَرَابِيْسِي، وَهِيَ: أَنَّ القُرْآنَ كَلاَمُ اللهِ غَيْرُ مَخْلُوْقٍ، وَأَنَّ أَلْفَاظَنَا بِهِ مَخْلُوْقَةٌ، فَأَنْكَرَ الإِمَامُ أَحْمَدُ ذَلِكَ، وَعَدَّهُ بِدْعَةً، وَقَالَ: مَنْ قَالَ لَفْظِي بِالقُرْآنِ مَخْلُوْقٌ، يُرِيْدُ بِهِ القُرْآنَ فَهُوَ جَهْمِيٌّ. (13/101)
وَقَالَ أَيْضاً: مَنْ قَالَ: لَفْظِي بِالقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوْقٍ، فَهُوَ مُبْتَدِعٌ.
فَزَجَرَ عَنِ الخَوْضِ فِي ذَلِكَ مِنَ الطَّرَفَيْنِ.
وَأَمَّا دَاوُدُ فَقَالَ: القُرْآنُ مُحْدَثٌ.
فَقَامَ عَلَى دَاوُدَ خَلْقٌ مِن أَئِمَّةِ الحَدِيْثِ، وَأَنْكَرُوا قَولَهُ وَبَدَّعُوْهُ، وَجَاءَ مِنْ بَعْدِهِ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ، فَقَالُوا:
كَلاَمُ اللهِ مَعْنَىً قَائِمٌ بِالنَّفْسِ، وَهَذِهِ الكُتُبُ المُنْزَلَةُ دَالَّةٌ عَلَيْهِ، وَدَقَّقُوا وَعَمَّقُوا، فَنَسْأَلُ اللهَ الهُدَى وَاتِّبَاعَ الحَقِّ، فَالقُرْآنُ العَظِيْمُ، حُرُوْفُهُ وَمَعَانِيهُ وَأَلفَاظُهُ كَلاَمُ رَبِّ العَالِمِيْنَ، غَيْرُ مَخْلُوْقٍ، وَتَلَفُّظُنَا بِهِ وَأَصْوَاتُنَا بِهِ مِنْ أَعْمَالنَا المَخْلُوْقَةِ، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (زَيِّنُوا القُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُم).
(25/93)

وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ المَلْفُوْظُ لاَ يَسْتَقِلُّ إِلاَّ بِتَلَفُّظِنَا، وَالمَكْتُوْبُ لاَ يَنْفَكُّ عَنْ كِتَابةٍ، وَالمَتْلُو لاَ يُسْمَعُ إِلاَّ بِتِلاَوَةِ تَالٍ، صَعُبُ فَهْمُ المَسْأَلَةِ، وَعَسُرَ إِفْرَازُ اللَّفْظِ الَّذِي هُوَ المَلْفُوْظُ مِنَ اللَّفْظِ الَّذِي يُعْنَى بِهِ التَّلَفُّظُ، فَالذِّهِنُ يَعْلَمُ الفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ هَذَا، وَالخَوْضُ فِي هَذَا خَطِرٌ - نَسْأَلُ اللهَ السَّلاَمَةَ فِي الدِّيْنِ -.
وَفِي المَسْأَلَةِ بُحُوْثٌ طَوِيْلَةٌ، الكَفُّ عَنْهَا أَوْلَى، وَلاَ سِيَّمَا فِي هَذِهِ الأَزْمِنَةِ المُزْمِنَةِ. (13/102)
قَالَ أَبُو العَبَّاسِ ثَعْلَبٌ: كَانَ دَاوُدُ بنُ عَلِيٍّ عَقْلُهُ أَكْبَرُ مِنْ عِلْمِهِ.
وَقَالَ قَاسِمُ بنُ أَصْبَغَ الحَافِظُ: ذَاكَرْتُ ابْنَ جَرِيْرٍ الطَّبرِيَّ وَابْنَ سُرَيْجٍ فِي كِتَابِ ابْنِ قُتَيْبَةَ فِي الفِقْهِ، فَقَالاَ:
لَيْسَ بِشَيْءٍ، فَإِذَا أَرَدْتَ الفِقْهَ، فَكُتُبُ أَصْحَابِ الفِقْهِ، كَالشَّافِعِيِّ، وَدَاوُدَ، وَنُظَرَائِهِمَا.
ثُمَّ قَالا: وَلاَ كُتُبُ أَبِي عُبَيْدٍ فِي الفِقْهِ، أَمَا تَرَى كِتَابَهُ فِي (الأَمْوَالِ) مَعَ أَنَّهُ أَحْسَنُ كُتُبِهِ؟
وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: كَانَ دَاوُدُ عِرَاقِيّاً، كَتَبَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفَ وَرَقَةٍ، وَمِنْ أَصْحَابِهِ: أَبُو الحَسَنِ عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ بنِ رُوَيْم، وَأَبُو بَكْرٍ بنُ النَّجَّارِ، وَأَبُو الطَّيِّبِ مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ الدِّيْبَاجِي، وَأَحْمَدُ بنُ مَخْلَدٍ الإِيَادِي، وَأَبُو سَعِيْدٍ الحَسَنُ بنُ عُبَيْدِ اللهِ صَاحِبُ التَّصَانِيْفِ، وَأَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ الدَّجَاجِي، وَأَبُو نَصْرٍ السِّجِسْتَانِيُّ...، ثُمَّ سَرَدَ أَسْمَاءَ عِدَّةٍ مِنْ تَلاَمِذَتِهِ.
(25/94)

أَخْبَرَنَا عُمَرُ بنُ عَبْدِ المُنْعِمِ، عَنْ أَبِي اليُمْنِ الكِنْدِيِّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ السَّلاَمِ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الفَقِيْهُ فِي (طَبَقَاتِ الفُقَهَاءِ) لَهُ، قَالَ:
ذِكْرُ فُقَهَاءِ بَغْدَادَ: وَمِنْهُم: أَبُو سُلَيْمَانَ دَاودُ بنُ عَلِيِّ بنِ خَلَفٍ الأَصْبَهَانِيُّ، وُلِدَ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَمائَتَيْنِ، وَمَاتَ سَنَةَ سَبْعِيْنَ وَمائَتَيْنِ، أَخَذَ العِلْمَ عَنْ: إِسْحَاقَ بنِ رَاهْوَيْه، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَكَانَ زَاهِداً مُتَقَلِّلاً، وَقِيْلَ: إِنَّهُ كَانَ فِي مَجْلِسِهِ أَرْبَعُ مائَةِ صَاحِبِ طَيْلَسَانَ أَخْضَرَ، وَكَانَ مِنَ المُتَعَصِّبِيْنَ لِلشَّافِعِي، وَصَنَّفَ كِتَابَيْنِ فِي فَضَائِلِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَانْتَهَتْ إِلَيْهِ رِئَاسَةُ العِلْمِ بِبَغْدَادَ، وَأَصْلُهُ مِنْ أَصْفَهَانَ، وَمَوْلِدُهُ بِالكُوْفَةِ، وَمنْشَؤُهُ بِبَغْدَادَ، وَقَبْرُهُ بِهَا فِي الشُّونِيْزِيَّة. (13/103)
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الخَلاَّلُ: أَخْبَرَنَا الحُسَيْنُ بنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ:
سَأَلْتُ المَرُّوْذِيَّ عَنْ قِصَّةِ دَاوُدَ الأَصْبَهَانِيِّ، وَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللهِ، فَقَالَ:
كَانَ دَاوُدُ خَرَجَ إِلَى خُرَاسَانَ إِلَى ابْنِ رَاهْوَيْه، فَتَكَلَّمَ بِكَلاَمٍ شَهِدَ عَلَيْهِ أَبُو نَصْرٍ بنُ عَبْدِ المَجِيْدِ، وَآخَرُ، شَهِدَا عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: القُرْآنُ مُحْدَثٌ.
فَقَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللهِ: مَنْ دَاوُدُ بنُ عَلِيٍّ؟ لاَ فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ.
قُلْتُ: هَذَا مِنْ غِلْمَانِ أَبِي ثَوْرٍ.
قَالَ: جَاءنِي كِتَابُ مُحَمَّدِ بنِ يَحْيَى النَّيْسَابُورِيِّ: أَنَّ دَاوُدَ الأَصْبَهَانِيَّ قَالَ بِبَلَدِنَا: إِنَّ القُرْآنَ مُحْدَثٌ.
قَالَ المَرُّوْذِيُّ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ النَّيْسَابُورِيُّ:
(25/95)

أَنَّ إِسْحَاقَ بنَ رَاهْوَيْه لَمَّا سَمِعَ كَلاَمَ دَاوُدَ فِي بَيْتِهِ، وَثَبَ عَلَى دَاوُدَ وَضَرَبَهُ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ.
الخَلاَّلُ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بنَ مُحَمَّدِ بنِ صَدَقَةَ، سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ الحُسَيْنِ بنِ صَبِيْحٍ، سَمِعْتُ دَاوُدَ الأَصْبَهَانِيَّ يَقُوْلُ:
القُرْآنُ مُحْدَثٌ، وَلَفْظِي بِالقُرْآنِ مَخْلُوْقٌ.
وَأَخْبَرَنَا سَعِيْدُ بنُ أَبِي مُسْلِمٍ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ عَبْدَةَ يَقُوْلُ:
دَخَلْتُ إِلَى دَاوُدَ، فَغَضِبَ عَلَيَّ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يُكَلِّمْنِي، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ! إِنَّهُ رَدَّ عَلَيْهِ مَسْأَلَةً.
قَالَ: وَمَا هِيَ؟
قَالَ: قَالَ: الخُنْثَى إِذَا مَاتَ مَنْ يُغَسِّلُهُ؟
قَالَ دَاوُدُ: يُغَسِّلُهُ الخَدَمُ.
فَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدَةَ: الخَدَمُ رِجَالٌ، وَلَكِنْ يُيَمَّمُ، فَتَبَسَّمَ أَحْمَدُ وَقَالَ: أَصَابَ، أَصَابَ، مَا أَجْوَدَ مَا أَجَابَهُ! (13/104)
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ إِسْحَاقَ النَّدِيْمُ: لِدَاوُدَ مِنَ الكُتُبِ: كِتَابُ (الإِيْضَاحِ)، كِتَابُ (الإِفْصَاحِ)، كِتَابُ (الأُصُوْلِ)، كِتَابُ (الدَّعَاوى)، كِتَابٌ كَبِيْرٌ فِي الفِقْهِ، كِتَابُ (الذَّبِّ عَنِ السُّنَّةِ وَالأَخْبَارِ) أَرْبَعُ مُجَلَّدَاتٍ، كِتَابُ (الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الإِفْكِ)، (صِفَة أَخْلاَقِ النَّبِيِّ)، كِتَابُ (الإِجْمَاعِ)، كِتَابُ (إبْطَالِ القِيَاسِ)، كِتَابُ (خَبَرِ الوَاحِدِ وَبَعْضُهُ مُوْجِبٌ لِلْعِلْمِ)، كِتَاب (الإِيضَاحِ) خَمْسَةَ عَشَرَ مُجَلَّداً، كِتَابُ (المُتْعَةِ)، كِتَابُ (إِبْطَالِ التَّقْلِيْدِ)، كِتَابُ (المَعْرِفَةِ)، كِتَابُ (العُمُوْمِ وَالخُصُوْصِ)...
، وَسَرَدَ أَشْيَاءً كَثِيْرَةً.
(25/96)

قُلْتُ: لِلعُلَمَاءِ قَوْلاَن فِي الاعتِدَاد، بِخِلاَفِ دَاوُدَ وَأَتْبَاعِهِ: فَمَنْ اعتَدَّ بِخِلاَفِهِم، قَالَ: مَا اعْتِدَادُنَا بِخِلاَفِهِم لأَنَّ مُفْرَدَاتِهِم حُجَّةٌ، بَلْ لِتُحكَى فِي الجُمْلَةِ، وَبَعْضُهَا سَائِغٌ، وَبَعْضُهَا قَوِيٌّ، وَبَعْضُهَا سَاقِطٌ، ثُمَّ مَا تَفَرَّدُوا بِهِ هُوَ شَيْءٌ مِنْ قَبِيْلِ مُخَالَفَةِ الإِجْمَاعِ الظَّنِّي، وَتَنْدُرُ مُخَالَفَتُهُم لإِجْمَاعٍ قَطْعِي.
وَمَنْ أَهْدَرَهُم، وَلَمْ يَعْتَدَّ بِهِم، لَمْ يَعُدَّهُم فِي مَسَائِلِهِم المُفْرِدَةِ خَارِجِيْنَ بِهَا مِنَ الدِّيْنِ، وَلاَ كَفَّرَهُم بِهَا، بَلْ يَقُوْلُ: هَؤُلاَءِ فِي حَيِّزِ العَوَامِّ، أَوْ هُم كَالشِّيْعَةِ فِي الفُرُوْعِ، وَلاَ نَلْتَفِتُ إِلَى أَقْوَالِهِم، وَلاَ نَنْصِبُ مَعَهُم الخِلاَفَ، وَلاَ يُعْتَنَى بِتَحْصِيْلِ كُتُبِهِم، وَلاَ نَدُلُّ مُسْتَفْتِياً مِنَ العَامَّةِ عَلَيْهِم.
وَإِذَا تَظَاهِرُوا بِمَسْأَلَةٍ مَعْلُوْمَةِ البُطْلاَنِ، كَمَسْحِ الرِّجِلَيْنِ، أَدَّبْنَاهُم، وَعَزَّرْنَاهُم، وَأَلزَمْنَاهُم بِالغَسْلِ جَزْماً. (13/105)
قَالَ الأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الإِسْفَرَايِيْنِيُّ: قَالَ الجُمْهُوْرُ:
إِنَّهُم -يَعْنِي: نُفَاةَ القِيَاسِ- لاَ يَبْلُغُونَ رُتْبَةَ الاجتِهَادِ، وَلاَ يَجُوْزُ تَقْلِيْدُهُم القَضَاءَ.
وَنَقَلَ الأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُوْرٍ البَغْدَادِيُّ، عَنْ أَبِي عَلِيٍّ بنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَطَائِفَةٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ:
أَنَّهُ لاَ اعتِبَارَ بِخِلاَفِ دَاوُدَ، وَسَائِرِ نُفَاةِ القِيَاسِ، فِي الفُرُوْعِ دُوْنَ الأُصُوْلِ.
وَقَالَ إِمَامُ الحَرَمَيْنِ أَبُو المَعَالِي: الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ أَهْلُ التَّحْقِيْقِ:
(25/97)

أَنَّ مُنْكِرِي القِيَاس لاَ يُعَدُّوْنَ مِنْ عُلَمَاءِ الأُمَّةِ، وَلاَ مِنْ حَمَلَةِ الشَّرِيْعَةِ؛ لأَنَّهُم مُعَانِدُوْنَ مُبَاهِتُوْنَ فِيمَا ثَبَتَ اسْتفَاضَةً وَتَوَاتُراً، لأَنَّ مُعْظَمَ الشَّرِيْعَةِ صَادِرٌ عَنِ الاجتِهَادِ، وَلاَ تَفِي النُّصُوْصُ بعُشْرِ مِعْشَارِهَا، وَهَؤُلاَءِ مُلتَحِقُوْنَ بِالعَوَامِّ.
قُلْتُ: هَذَا القَوْلُ مِنْ أَبِي المعَالِي أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَهُم فَأَدَّاهُم اجتِهَادُهُم إِلَى نَفِي القَوْلِ بِالقِيَاسِ، فَكَيْفَ يُرَدُّ الاجتِهَادُ بِمِثْلِهِ، وَنَدْرِي بِالضَّرُوْرَةِ أَنَّ دَاوُدَ كَانَ يُقْرِئُ مَذْهَبَهُ، وَيُنَاظِرُ عَلَيْهِ، وَيُفْتِي بِهِ فِي مِثْلِ بَغْدَادَ، وَكَثْرَةِ الأَئِمَّةِ بِهَا وَبِغَيْرِهَا، فَلَم نَرَهُم قَامُوا عَلَيْهِ، وَلاَ أَنْكَرُوا فَتَاويه وَلاَ تَدْرِيسَهُ، وَلاَ سَعَوا فِي مَنْعِهِ مِنْ بَثِّهِ، وَبَالحَضْرَةِ مِثْلُ إِسْمَاعِيْلَ القَاضِي شَيْخِ المَالِكِيَّةِ، وَعُثْمَانَ بنِ بَشَّارٍ الأَنْمَاطِيِّ شَيْخِ الشَّافِعِيَّة، وَالمَرُّوْذِيِّ شَيْخِ الحَنْبَلِيَّةِ، وَابْنَي الإِمَامِ أَحْمَدَ، وَأَبِي العَبَّاسِ أَحْمَدَ بنِ مُحَمَّدٍ البِرْتِيِّ شَيْخِ الحَنَفِيَّةِ، وَأَحْمَدَ بنِ أَبِي عِمْرَانَ القَاضِي، وَمِثْلُ عَالِمِ بَغْدَادَ إِبْرَاهِيْمَ الحَرْبِيِّ. (13/106)
بَلْ سَكَتُوا لَهُ، حَتَّى لَقَدْ قَالَ قَاسِمُ بنُ أَصْبَغَ: ذَاكَرْتُ الطَّبرِيَّ -يَعْنِي: ابْنَ جَرِيْرٍ- وَابْنَ سُرَيْجٍ، فَقُلْتُ لَهُمَا: كِتَابُ ابْنِ قُتَيْبَةَ فِي الفِقَهِ، أَيْنَ هُوَ عِنْدَكُمَا؟
قَالاَ: لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلاَ كِتَابُ أَبِي عُبَيْدٍ، فَإِذَا أَرَدْتَ الفِقْهَ فَكُتُبُ الشَّافِعِيِّ، وَدَاوُدَ، وَنُظَرَائِهِمَا.
(25/98)

ثمَّ كَانَ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَبُو بَكْرٍ، وَابْنُ المُغَلِّسِ، وَعِدَّةٌ مِنْ تَلاَمِذَةِ دَاوُدَ، وَعَلَى أَكْتَافِهِم مِثْلُ: ابْنِ سُرَيْجٍ شَيْخِ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَبِي بَكْرٍ الخَلاَّلِ شَيْخِ الحَنْبَلِيَّةِ، وَأَبِي الحَسَنِ الكَرْخِيِّ شَيْخِ الحَنَفِيَّةِ، وَكَانَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ بِمِصْرَ.
بَلْ كَانُوا يَتَجَالَسُوْنَ وَيَتَنَاظَرُوْنَ، وَيَبْرُزُ كُلٌّ مِنْهُم بِحُجَجِهِ، وَلاَ يَسْعَوْنَ بِالدَّاودِيَّةِ إِلَى السُّلْطَانِ.
بَلْ أَبلغُ مِنْ ذَلِكَ، يَنْصِبُوْنَ مَعَهُم الخِلاَفَ فِي تَصَانِيفِهِم قَدِيْماً وَحَدِيْثاً، وَبِكُلِّ حَالٍ فَلَهُم أَشْيَاءُ أَحْسَنُوا فِيْهَا، وَلَهُم مَسَائِلُ مُسْتَهْجَنَةٌ، يُشْغَبُ عَلَيْهِم بِهَا، وَإِلَى ذَلِكَ يُشِيْرُ الإِمَامُ أَبُو عَمْرٍو بنُ الصَّلاَحِ، حَيْثُ يَقُوْلُ: الَّذِي اختَارَهُ الأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُوْرٍ، وَذَكَرَ أَنَّهُ الصَّحِيْحُ مِنَ المَذْهَبِ، أَنَّهُ يُعْتَبَرُ خِلاَفُ دَاوُدَ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ الصَّلاحِ: وَهَذَا الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الأَمْرُ آخِراً، كَمَا هُوَ الأَغْلَبُ الأَعْرَفُ مِنْ صَفْوِ الأَئِمَّةِ المُتَأَخِّرِينَ، الَّذِيْنَ أَوْرَدُوا مَذْهَبَ دَاوُدَ فِي مُصَنَّفَاتِهِمُ المَشْهُوْرَةِ، كَالشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الإِسْفَرَايِيْنِيِّ، وَالمَاوَرْدِيِّ، وَالقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ، فلَوْلاَ اعتِدَادُهُم بِهِ لَمَا ذَكَرُوا مَذْهَبَهُ فِي مُصَنَّفَاتِهِمُ المَشْهُوْرَةِ.
(25/99)

قَالَ: وَأَرَى أَنْ يُعْتَبَرَ قَوْلُهُ، إِلاَّ فِيمَا خَالَفَ فِيْهِ القيَاسَ الجَلِيَّ، وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ القِيَاسِيُّونَ مِنْ أَنْواعِهِ، أَوْ بَنَاهُ عَلَى أُصُولِهِ الَّتِي قَامَ الدَّلِيْلُ القَاطعُ عَلَى بُطلاَنِهَا، فَاتِّفَاقُ مَنْ سِوَاهُ إِجمَاعٌ مُنْعَقِدٌ، كَقَوْلِهِ فِي التَّغَوُّطِ فِي المَاءِ الرَّاكِدِ، وَتِلْكَ المَسَائِلِ الشَّنِيعَةِ، وَقُولِهُ: لاَ رِبَا إِلاَّ فِي السِّتَّةِ المَنْصُوْصِ عَلَيْهَا، فَخِلاَفُهُ فِي هَذَا أَوْ نَحْوِهِ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ، لأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا يُقْطَعُ بِبُطْلاَنِهِ. (13/107)
قُلْتُ: لاَ رَيْبَ أَنَّ كُلَّ مسَأَلَةٍ انْفَرَدَ بِهَا، وَقُطِعَ بِبُطْلاَنِ قَوْلِهِ فِيْهَا، فَإِنَّهَا هَدْرٌ، وَإِنَّمَا نَحْكِيهَا للتَّعَجُّبِ، وَكُلَّ مسَأَلَةٍ لَهُ عَضَدَهَا نَصٌّ، وَسَبَقَهُ إِلَيْهَا صَاحِبٌ أَوْ تَابِعٌ، فَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الخِلاَفِ، فَلاَ تُهْدَرُ.
وَفِي الجُمْلَةِ، فَدَاوُدُ بنُ عَلِيٍّ بَصِيرٌ بِالفِقْهِ، عَالِمٌ بِالقُرْآنِ، حَافظٌ للأَثَرِ، رَأْسٌ فِي مَعْرِفَةِ الخِلاَفِ، مِنْ أَوْعِيَةِ العِلْمِ، لَهُ ذكَاءٌ خَارِقٌ، وَفِيْهِ دِيْنٌ مَتِينٌ. (13/108)
وَكَذَلِكَ فِي فُقَهَاءِ الظَّاهِرِيَّةِ جَمَاعَةٌ لَهُم عِلْمٌ بَاهِرٌ، وَذكَاءٌ قَوِيٌّ، فَالكَمَالُ عَزِيزٌ، وَاللهُ المُوَفِّقُ.
وَنَحْنُ: فَنَحْكِي قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي المُتعَةِ، وَفِي الصَّرْفِ، وَفِي إِنكَارِ العَوْلِ، وَقولَ طَائِفَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي تَرْكِ الغُسْلِ مِنَ الإِيْلاجِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَلاَ نُجَوِّزُ لأَحَدٍ تَقْلِيْدَهُم فِي ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ كَامِلٍ: مَاتَ دَاوُدُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، سَنَةَ سَبْعِيْنَ وَمائَتَيْنِ. (13/109)
(25/100)