الخَبِيْثُ عَلِيُّ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ العَبْدِيُّ
 
هُوَ طَاغيَةُ الزِّنْجِ، عَلِيُّ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ العَبْدِيُّ، مِنْ عَبْدِ القَيْسِ.
افْتَرَى وَزَعَمَ أَنَّهُ مِنْ وَلَدِ زَيْدِ بنِ عَلِيٍّ العَلَوِيِّ، وَكَانَ مُنَجِّماً، طرقِيّاً، ذَكِيّاً، حَرُورِيّاً، مَاكِراً، دَاهِيَةً مُنْحَلاًّ، عَلَى رَأْي فَجَرَةِ الخَوَارِجِ، يَتَسَتَّرُ بِالانْتِمَاءِ إِلَيْهِم، وَإِلاَّ فَالرَّجُلُ دَهْرِيٌّ فَيْلَسُوفٌ زِنْدِيْقٌ. (13/130)
ظَهَرَ بِالبَصْرَةِ، وَاسْتغوَى عَبِيْدَ النَّاسِ وَأَوبَاشَهُم، فَتَجَمَّعَ لَهُ كُلُّ لِصٍّ وَمُرِيْبٍ وَكَثُرُوا، فَشَدَّ بِهِم عَلَى أَهْلِ البَصْرَةِ، وَتَمَّ لَهُ ذَلِكَ، وَاسْتبَاحُوا البَلَدَ، وَاسْتَرَقُّوا الذُّرِّيَّةَ، وَمَلَكُوا، فَانْتُدِبَ لِحَرْبِهِم عَسْكَرُ المُعْتَمِدِ، فَالْتَقَى الفَرِيقَانِ، وَانْتَصَرَ الخَبِيْثُ، وَاسْتَفْحَلَ بَلاَؤُهُ، وَطَوَى البِلاَدَ، وَأَبَادَ العِبَادَ، وَكَادَ أَنْ يَمْلِكَ بَغْدَادَ، وَجَرَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجَيْشِ عِدَّةُ مَصَافَّاتٍ، وَأَنْشَأَ مَدِينَةً سَمَّاهَا: المُخْتَارَةَ، فِي غَايَةِ الحَصَانَةِ، وَزَادَ جَيْشُهُ عَلَى مائَةِ أَلْفٍ، وَلَوْلاَ زَنْدَقَتُهُ وَمُرُوْقُهُ لاَسْتَوْلَى عَلَى المَمَالِكِ.
وَقَدْ سُقْتُ مِنْ فِتْنَتِهِ فِي دَوْلَةِ المُعْتَمِدِ، وَكَانَتْ أَيَّامُهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً.
(25/120)

قَالَ نِفْطَوَيْه: كَانَ أَوَّلاً بِوَاسِطَ، وَرُبَّمَا كَتَبَ العُوَذَ، فَأَخَذَهُ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي عَوْنٍ، فَحَبَسَهُ، ثُمَّ أَطْلَقَهُ، فَمَا لَبِثَ أَنْ خَرَجَ وَاسْتَغْوَى الزِّنْجَ -يَعْنِي: عَبِيْدَ النَّاسِ وَالَّذِيْنَ يَكْسَحُوْنَ وَيَزْبِلُوْنَ- فَصَارَ مِنْ أَمْرِهِ مَا صَارَ، وَخَافَتْهُ الخُلَفَاءُ، ثُمَّ أَظْفَرَهُمُ اللهُ بِهِ بَعْدَ حُرُوبٍ تُشَيِّبُ النَّوَاصِي.
وَقُتِلَ - وَللهِ الحَمْدُ -: فِي سَنَةِ سَبْعِيْنَ وَمائَتَيْنِ، فِي صَفَرٍ، وَلَهُ ثَمَانٌ وَأَرْبَعُوْنَ سَنَةً.
وَلَوْ أَفْرَدْتُ أَخْبَارَهُ وَوقَائِعَهُ لَبَلَغْتُ مُجَلَّداً.
وَكَانَ مُفْرِطَ الشَّجَاعَةِ، جَرِيّاً، دَاهِيَةً، قَدِ اسْتَوْعَبَ ابْنُ النَّجَّارِ سِيْرَتَهُ. (13/131)
رُئِيَ أَبُوْهُ أَنَّهُ بَالَ فِي مَسْجِدِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَوْلَةً أَحْرَقَتْ نِصْفَ الدُّنْيَا.
وكَانَتْ أُمُّ الخَبِيْثِ تَقُوْلُ: لَمْ يَدَعِ ابْنِي أَحَداً عِنْدَهُ عِلْمٌ بِالرَّيِّ حَتَّى خَالَطَهُم، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى خُرَاسَانَ، فَغَابَ عَنِّي سَنَتَيْنِ، وَجَاءَ، ثُمَّ غَابَ عَنِّي غَيْبَتَهُ الَّتِي خَرَجَ فِيْهَا، فَوَرَدَ عَلَيَّ كِتَابُهُ مِنَ البَصْرَةِ، وَبَعَثَ إِليَّ بِمَالٍ، فَلَمْ أَقْبَلْهُ، لِمَا صَحَّ عِنْدِي مِنْ سَفْكِهِ لِلدِّمَاءِ، وَخَرَابِهِ لِلْمُدُنِ.
قُلْتُ: وَكَانَ أَبُوْهُ دَاهِيَةً شَيطَاناً كَوَلَدِهِ.
فَقَالَ عَلِيٌّ: مَرِضْتُ وَأَنَا غُلاَمٌ، فَجَلَسَ أَبِي يَعُودُنِي، وَقَالَ لأُمِّي: مَا خَبَرُهُ؟
قَالَتْ: يَمُوتُ.
قَالَ: فَإِذَا مَاتَ، مَنْ يَخْرِبُ البَصْرَةَ؟
قَالَ: فَبَقِيَ ذَاكَ فِي قَلْبِي.
وَقِيْلَ: مَاتَ أَبُوْهُ بِسَامَرَّاءَ، سَنَةَ إِحْدَى وَثَلاَثِيْنَ وَمائَتَيْنِ.
(25/121)

فَقَالَ عَلِيٌّ الشِّعْرَ، وَمَدَحَ بِهِ، وَصَارَ كَاتِباً، وَدَخَلَ فِي ادِّعَاءِ الإِمَامَةِ، وَعِلْمِ المُغَيَّبَاتِ، وَخَافَ، فَنَزَحَ مِنْ سَامَرَّاءَ إِلَى الرَّيِّ لِمِيرَاثٍ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَأَرْبَعِيْنَ.
قُلْتُ: بَعْدَ مَصْرَعِ المُتَوَكِّلِ وَابْنِهِ، وَأُولَئِكَ الخُلَفَاءِ المُسْتَضْعَفِيْنَ المَقْتُولِيْنَ، نَقَضَ أَمْرُ الخِلاَفَةِ جِدّاً، وَطَمِعَ كُلُّ شَيطَانٍ فِي التَّوثُّبِ، وَخَرَجَ الصَّفَّارُ بِخُرَاسَانَ، وَاتَّسَعَتْ مَمَالِكُهُ، وَخَرَجَ هَذَا الخَبِيْثُ بِالبَصْرَةِ، وَفَعَلَ مَا فَعَلَ، وَهَاجَتِ الرُّوْمُ، وَعَظُمَ الخَطْبُ.
ثمَّ بَعْدَ سَنَواتٍ ثَارَتِ القَرَامِطَةُ وَالأَعرَابُ، وَظَهَرَ بِالمَغْرِبِ عُبَيْدُ اللهِ، المُلَقَّبُ بِالمَهْدِيِّ، وَتَمَلَّكَ. (13/132)
ثُمَّ دَامت الدَّوْلَةُ فِي ذُرِّيَّةِ البَاطِنِيَّةِ إِلَى دَوْلَةِ نُوْرِ الدِّيْنِ -رَحِمَهُ اللهُ-.
فَادَّعَى بَعْدَ الخَمْسِيْنَ هَذَا الخَبِيْثُ بِهَجَرَ أَنَّهُ عَلِيُّ بنُ مُحَمَّدِ بنِ الفَضْلِ بنِ حُسَيْنِ بنِ عَبْد اللهِ بنِ عَبَّاسِ بنِ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ.
(25/122)

وَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ، فَمَالَ إِلَيْهِ رَئِيْسُ هَجَرَ، وَنَابَذَهُ قَوْمٌ، فَاقْتَتَلُوا، فَتَحَوَّلَ إِلَى الأَحسَاءِ، وَاعْتَصَمَ بِبَنِي الشَّمَّاسِ، وَإِنَّمَا قَصَدَ البَحْرَيْنِ لِغَبَاوَةِ أَهْلِهَا، وَرَوَاجِ المَخَارِيْقِ عَلَيْهِم، فَحَلَّ مِنْهُم مَحَلَّ نَبِيٍّ، وَصَدَّقُوهُ بِمرَّةٍ، ثُمَّ تَنَكَّرُوا لَهُ لدبرِهِ، فَشَخَصَ إِلَى البَادِيَةِ يَسْتَغْوِي الأَعَارِيْبَ بِنُفُوْذِ حِيَلِهِ وَشَعْوَذَتِهِ، وَاعتَقَدُوا فِيْهِ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَنْطِقَ الطَّيْرِ، وَجَعَلَ يُغِيْرُ عَلَى النَّوَاحِي، ثُمَّ تَمَّتْ لَهُ وَقعَةٌ كَبِيْرَةٌ، هُزِمَ فِيْهَا وَقُتِلَ كُبَرَاءُ أَتْبَاعِهِ، وَكَرِهَتْهُ العَرَبُ، فَقَصَدَ البَصْرَةَ، فَنَزَلَ فِي بَنِي ضُبَيْعَةَ، وَالتَفَّ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَخَمْسِيْنَ، وَطَمِعَ فِي مَيْلِ البَصْرِيِّينَ إِلَيْهِ، فَأَمَرَ أَرْبَعَةً، فَدَخَلُوا الجَامعَ يَدْعُونَهُم إِلَى طَاعَتِهِ، فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، بَلْ وَثَبَ الجُنْدُ إِلَيْهِم، فَهَرَبَ، وَأُخِذَ أَتْبَاعُهُ وَابْنُهُ الكَبِيْرُ وَأُمُّهُ وَبِنْتُهُ، فَحُبِسُوا. (13/133)
(25/123)

وَذَهَبَ إِلَى بَغْدَادَ، فَأَقَامَ سَنَةً يَسْتَغوِي النَّاسَ وَيُضِلُّهُم، فَاسْتمَالَ عِدَّةً مِنَ الحَاكَةِ بِمخَارِيقِهِ، وَالجَهَلَةُ أَسْبَقُ شَيْءٍ إِلَى أَربَابِ الأَحْوَالِ الشَّيطَانِيَّةِ، وَمَاتَ مُتَوَلِّي البَصْرَةِ، وَهَاجَتِ الأَعرَابُ بِهَا، وَفَتَحُوا السُّجُونَ، فَتَخَلَّصَ قَوْمُهُ، فَبَادَرَ إِلَى البَصْرَةِ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ خَمْسٍ، وَحَوْلَهُ جَمَاعَةٌ، وَاسْتجَابَ لَهُ عَبِيْدٌ زُنُوجٌ لِلنَّاسِ، فَأَفْسَدَهُم وَجَسَّرَهُم، وَعَمَدَ إِلَى جَرِيْدَةٍ، فَكَتَبَ عَلَى خِرْقَةٍ عَلَيْهَا: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِيْنَ أَنْفُسَهُم وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ}[التَّوبَة: 111].
وَكَتَبَ اسْمَهُ، وَخَرَجَ بِهِم فِي السَّحَرِ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ رَمَضَانَ، فِي أَلْفِ نَفْسٍ، فَخَطَبَهُم، وَقَالَ: أَنْتُم الأُمَرَاءُ وَسَتَمْلِكُونَ... وَوَعَدَهُم، وَمَنَّاهُم، ثُمَّ طَلَبَ أُسْتَاذِيْهِم، وَقَالَ: أَرَدْتُ ضَرْبَ أَعنَاقِكُم لأَذِيَّتِكُم لِهَؤُلاَءِ الغِلْمَانِ.
قَالُوا: هَؤُلاَءِ أَبَقُوا، وَلاَ يُبقُوْنَ عَلَيْكَ وَلاَ عَلَيْنَا.
فَأَمَرَ غِلْمَانَهُم، فَبَطَحُوهُم، وَضَرَبُوا كُلَّ وَاحِدٍ خَمْسَ مائَةٍ، وَحَلَّفَهُم بِالطَّلاَق أَنْ لاَ يُعْلِمُوا أَحَداً بِمَوْضِعِهِ.
وَقِيْلَ: كَانَ ثَمَّ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفِ عَبْدٍ يَعْمَلُوْنَ فِي أَمْوَالِ مَوَالِيْهِم، فَأَنْذَرُوا سَادَاتِهِم بِمَا جَرَى، فَقَيَّدُوهُم، فَأَقْبَلَ حِزْبُهُ، فَكَسَرُوا قُيْودَهُم، وَضَمُّوهُم إِلَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الفِطْرِ رَكَزَ عَلَمَهُ، وَصَلَّى بِهِمُ العِيْدَ، وَخَطَبَهُم، وَأَعْلَمَهُم أَنَّ اللهَ يُرِيْدُ أَنْ يُمَكِّنَ لَهُم وَيُمَلِّكَهُم، وَحَلَفَ لَهُم عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ نَزَلَ، فَصَلَّى بِهِم.
(25/124)

ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَنْهَبُ وَيُغِيْرُ، وَيَكْثُرُ جَمْعُهُ مِنْ كُلِّ مَائِقٍ وَقَاطِعِ طَرِيْقٍ، حَتَّى اسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ، وَعَظُمَتْ فِتْنَتُهُ، وَغَنِمَ الخُيُولَ، وَالسِّلاَحَ، وَالأَمْتعَةَ، وَالأَمْوَالَ، وَالموَاشِي، وَصَارَ مِنَ المُلُوكِ. (13/134)
وَصَارَ كُلَّمَا حَارَبَهُ عَسْكَرٌ وَانْهَزَمُوا، فَرَّ إِلَيْهِ غِلمَانُ العَسْكَرِ.
فَحَشَدَ لَهُ أَهْلُ البَصْرَةِ فِي ذِي القَعْدَةِ مِنَ العَامِ، وَالْتَقَوا، فَهَزَمَهُم، وَقَتَلَ مِنْهُم مَقْتَلَةً، وَوَقَعَ رُعْبُهُ فِي النُّفُوْسِ، فَوَجَّهَ الخَلِيْفَةُ جَيْشاً، فَمَا نَفَعُوا.
ثمَّ أَوْقَعَ بِأَهْلِ الأُبُلَّةِ فِي سَنَةِ سِتٍّ، وَأَحْرَقَهَا، فَسَلَّمَ أَهْلُ عَبَّادَانِ بِأَيدِيهِم، وَسَالَمُوهُ، فَأَخَذَ عَبِيْدَهُم وَسِلاَحَهُم.
ثمَّ أَخَذَ الأَهْوَازَ، فَخَافَهُ أَهْلُ البَصْرَةِ، وَانْجَفَلُوا، فَأَخَذَهَا بِالسَّيْفِ فِي شَوَّالٍ، سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِيْنَ، وَقتَ صَلاَةِ الجُمُعَةِ، وَهَرَبَ جُنْدُهَا، فَأَحْرَقَ الجَامعَ بِمَنْ حَوَى، وَلَمْ تَزَلِ الحَرْبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ المُوَفَّقِ سِجَالاً.
وَاسْتَبَاحَ وَاسِطَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسِتِّيْنَ، وَحَصَلَ لِلْخَبِيْثِ جَوَاهِرُ وَأَمْوَالٌ، فَاسْتَأْثَرَ بِهَا، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ المُتَقَشِّفُوْنَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَذَكَرُوا لَهُ سِيْرَةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقَالَ: لَيْسَ فِيْهِمَا قُدْوَةٌ.
وَادَّعَى أَنَّهُ هُوَ عَبْدُ اللهِ المَذْكُوْرِ فِي: {قُلْ أُوْحِيَ} [الجِنُّ: 1] وَزَعَم أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا يَمْتَازُ عَلَيْهِ إِلاَّ بِالنُّبُوَّةِ.
وَزَعَمَ أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي المَهْدِ، صِيْحَ بِهِ: يَا عَلِيُّ!
فَقَالَ: يَا لَبَّيْكَ.
(25/125)

وَكَانَ يَجْمَعُ اليَهُوْدَ وَالنَّصَارَى، يَسْأَلُهُم عَمَّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيْلِ مِنْ ذِكْرِهِ، وَهُم يَسْخَرُوْنَ مِنْهُ، وَيَقْرَؤُونَ لَهُ فُصُولاً، فَيَدَّعِي أَنَّهَا فِيْهِ. (13/135)
وَزَادَ مِنَ الإِفْكِ، فَنَفَرَتْ مِنْهُ قُلُوْبُ خَلْقٍ مِنْ أَتْبَاعِهِ وَمَقَتُوهُ.
وَلَمْ يَجِدْ لِجَيْشِهِ لَمَّا كَثُرُوا بُدّاً مِنْ أَرْزَاقٍ، فَقَرَّرَ لِلْجُنْدِيِّ فِي الشَّهْرِ عَشْرَةَ دَنَانِيْرَ، فَحَسَدَ قُوَادَهُ الفُرْسَانُ، وَشُغِلَ بِإِنشَاءِ الأَبْنِيَةِ، وَفَتَرَ عَنِ الزِّنجِ، فَهَمُّوا بِالفَتْكِ بِهِ.
وَأَنْشَأَ القَائِدُ الشَّعْرَانِيُّ مَدِينَةً مَنِيْعَةً، فَأُخِذَتْ، وَهَرَبَ الشَّعْرَانِيُّ.
وَأَنْشَأَ سُلَيْمَانُ بنُ جَامِعٍ مَدِينَةً سَمَّاهَا (المَنْصُوْرَةَ)، وَحَصَّنَهَا بِخَمْسَةِ خَنَادِقَ، وَطُولُهَا فَرْسَخٌ، فَأُخِذَتْ، وَنَجَا ابْنُ جَامِعٍ.
وَبَقِيَ الموَفَّقُ يُكْرِمُ كُلَّ مَنْ فَرَّ إِلَيْهِ، وَيَخْلَعُ عَلَيْهِم.
وَكَتَبَ إِلَى الخَبِيْثِ يَدْعُوهُ إِلَى التَّوبَةِ مِنِ ادِّعَاءِ مُخَاطبَةِ المَلاَئِكَةِ، وَمِنْ تَحْرِيفِهِ القُرْآنَ وَضَلالَتِهِ، فَمَا أَجَابَ بِشَيْءٍ، وَحَصَّنَ مَدِينَتَهُ (المُخْتَارَةَ) الَّتِي بِنَهْرِ أَبِي الخَصِيبِ، حَتَّى بَقِيَتْ يُضْرَبُ بِهَا المَثَلُ، وَنَصَبَ فِيْهَا المَجَانِيْقَ وَالأَسْلِحَةَ بِمَا بَهَرَ العُقُولَ، وَبِهَا نَحْوُ مائَتَي أَلْفِ مُقَاتِلٍ، فَمَا قَدَرَ عَلَيْهَا الجَيْشُ إِلاَّ بِالمُطَاولَةِ، وَأَنْشَأَ تِلْقَاءهَا المُوَفَّقُ مَدِينَةً وَسَكَنَهَا، وَلَمْ يَزَلْ إِلَى أَنْ أَخَذَ (المُختَارَةَ)، فَهَرَبَ الخَبِيْثُ إِلَى مَضَائِقَ فِي نَهْرِ أَبِي الخَصِيبِ، لاَ تَصِلُ إِلَيْهَا سَفِيْنَةٌ وَلاَ فَارِسٌ، ثُمَّ بَرَزَ فِي أَبْطَالِهِ، وَقَاتَلَ أَشدَّ قِتَالٍ، وَهُوَ يَقُوْلُ:
(25/126)

وَعَزِيْمَتِي مِثْلُ الحُسَامِ، وَهِمَّتِي * نَفْسٌ أَصُوْلُ بِهَا كَنَفْسِ القَسْوَرِ
وَإِذَا تُنَازِعُنِي أَقُوْلُ لَهَا: اسْكُتِي * قَتْلٌ يُرِيْحُكِ أَوْ صُعُودِ المِنْبَرِ (13/136)
قَالَ أَحْمَدُ بنُ دَاوُدَ بنِ الجَرَّاحِ الكَاتِبُ: وَصَاحِبُ الزِّنجِ: هُوَ عَلِيُّ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الرَّحِيْمِ بنِ رَجَبٍ، مِنْ أَهْلِ الرَّيِّ، لَهُ حَظٌّ مِنَ الأَدَبِ، وَهُوَ القَائِلُ:
أَمَا وَالَّذِي أَسْرَى إِلَى رُكْنِ بَيْتِهِ * حَرَاجِيْجُ بِالرُّكْبَانِ مُقْوَرَّةٌ حُدْبا
لأَدَّرِعَنَّ الحَرْبَ حَتَّى يُقَالَ لِي * قَضَيْتَ ذِمَامَ الحَرْبِ فَاعْتَجِرِ الحَرْبَا
وَلَهُ إِلَى الخَلِيْفَةِ:
بَنِي عَمِّنَا إِنَّا وَأَنْتُم أَنَامِلٌ * تَضَمَّنَهَا مِنْ رَاحَتَيْهَا عُقُوْدُهَا
بَنِي عَمِّنَا لاَ تُوْقِدُوا نَارَ فِتْنَةٍ * بَطِيءٌ عَلَى مَرِّ الزَّمَانِ خُمُوْدُهَا
بَنِي عَمِّنَا وَلَّيْتُمُ التُّرْكَ أَمْرَنَا * وَنَحْنُ قَدِيْماً أَصْلُهَا وَعَدِيْدُهَا (13/137)
(25/127)