بَقِيُّ بنُ مَخْلَدِ بنِ يَزِيْدَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَنْدَلُسِيُّ |
الإِمَامُ، القُدْوَةُ، شَيْخُ الإِسْلاَمِ، أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَنْدَلُسِيُّ، القُرْطُبِيُّ، الحَافِظُ، صَاحِبُ (التَّفْسِيْرِ) وَ(المُسْنَدِ) اللَّذَيْنِ لاَ نَظِيْرَ لَهُمَا.
وُلِدَ: فِي حُدُوْدِ سَنَةِ مائَتَيْنِ، أَوْ قَبْلَهَا بِقَلِيْلٍ. وَسَمِعَ مِنْ: يَحْيَى بنِ يَحْيَى اللَّيْثِيِّ، ويَحيَى بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ بُكَيْرٍ، وَمُحَمَّدِ بنِ عِيْسَى الأَعْشَى، وَأَبِي مُصْعَبٍ الزُّهْرِيِّ، وَصَفْوَانَ بنِ صَالِحٍ، وَإِبْرَاهِيْمَ بنِ المُنْذِرِ الحِزَامِيِّ، وَهِشَامِ بنِ عَمَّارٍ، وَزُهَيْرِ بنِ عَبَّادٍ الرُّؤَاسِيِّ، وَيَحْيَى بنِ عَبْدِ الحَمِيْدِ الحِمَّانِيِّ، وَمُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ نُمَيْرٍ، وَأَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ - مَسَائِلَ وَفَوَائِدَ - وَلَمْ يَرْوِ لَهُ شَيْئاً مُسْنَداً، لِكَوْنِهِ كَانَ قَدْ قَطَعَ الحَدِيْثَ. (13/286) (25/285) وَسَمِعَ مِنْ: أَبِي بَكْرٍ بنِ أَبِي شَيْبَةَ، فَأَكْثَرَ، وَمِنْ: جُبَارَةَ بنِ المُغَلَّسِ، وَيَحْيَى بنِ بِشْرٍ الحَرِيْرِي، وَشَيْبَانَ بنِ فَرُّوْخٍ، وَسُوَيْدِ بنِ سَعِيْدٍ، وَهُدْبَةَ بنِ خَالِدٍ، وَمُحَمَّدِ بنِ رُمْحٍ، وَدَاوُدَ بنِ رُشَيْدٍ، وَمُحَمَّدِ بنِ أَبَانٍ الوَاسِطِيِّ، وَحَرْمَلَةَ بنِ يَحْيَى، وَإِسْمَاعِيْلَ بنِ عُبَيْدٍ الحَرَّانِيِّ، وَيَعْقُوْبَ بنِ حُمَيْدِ بنِ كَاسِبٍ، وَعِيْسَى بنِ حَمَّادٍ زُغْبَةَ، وَسَحْنُوْنَ بنِ سَعِيْدٍ الفَقِيْهِ، وَهُرَيْمِ بنِ عَبْدِ الأَعْلَى، وَمِنْجَابِ بنِ الحَارِثِ، وَعُثْمَانَ بنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَعُبَيْدِ اللهِ القَوَارِيْرِيِّ، وَأَبِي كُرَيْبٍ، وَبُنْدَارٍ، وَهَنَّادٍ، وَالفَلاَّسِ، وَكَثِيْرِ بنِ عُبَيْدٍ، وَخَلْقٍ. وعُنِي بِهَذَا الشَّأْنِ عِنَايَةً لاَ مَزِيْدَ عَلَيْهَا، وَأَدْخَلَ جَزِيْرَةَ الأَنْدَلُسِ عِلْماً جَمّاً، وَبِهِ وَبِمُحَمَّدِ بنِ وَضَّاحٍ صَارَتْ تِلْكَ النَّاحِيَةَ دَارَ حَدِيْثٍ، وَعِدَّةُ مَشْيَخَتِهِ الَّذِيْنَ حَمَلَ عَنْهُم مائَتَانِ وَأَرْبَعَةٌ وَثَمَانُوْنَ رَجُلاً. حَدَّثَ عَنْهُ: ابْنُهُ؛ أَحْمَدُ، وَأَيُّوْبُ بنُ سُلَيْمَانَ المُرِّيُّ، وَأَحْمَدُ بنُ عَبْدِ اللهِ الأُمَوِيُّ، وَأَسْلَمُ بنُ عَبْدِ العَزِيْزِ، وَمُحَمَّدُ بنُ وَزِيْرٍ، وَمُحَمَّدُ بنُ عُمَرَ بنِ لُبَابَةَ، وَالحَسَنُ بنُ سَعْدٍ الكِنَانِيُّ، وَعَبْدُ اللهِ بنُ يُوْنُسَ المُرَادِيُّ القبْرِي، وَعَبْدُ الوَاحِدِ بنُ حَمْدُوْنَ، وَهِشَامُ بنُ الوَلِيْدِ الغَافِقيُّ، وَآخَرُوْنَ. وَكَانَ إِمَاماً مُجْتَهِداً صَالِحاً، رَبَّانِيّاً صَادِقاً مُخْلِصاً، رَأْساً فِي العِلْمِ وَالعَمَلِ، عَدِيْمَ المَثَلِ، مُنْقَطِعَ القَرِيْنِ، يُفْتِي بِالأَثَرِ، وَلاَ يُقَلِّدُ أَحَداً. (25/286) وَقَدْ تَفَقَّهَ بِإِفْرِيْقِيَّةَ عَلَى سَحْنُوْنَ بنِ سَعِيْدٍ. ذَكَرَهُ أَحْمَدُ بنُ أَبِي خَيْثَمَةَ، فَقَالَ: مَا كُنَّا نُسَمِّيْهِ إِلاَّ المِكْنَسَة، وَهَلْ احْتَاجَ بَلَدٌ فِيْهِ بَقِيٌّ إِلَى أَنْ يَرْحَلَ إِلَى هَا هُنَا مِنْهُ أَحَدٌ؟! (13/287) قَالَ طَاهِرُ بنُ عَبْدِ العَزِيْزِ الأَنْدَلُسِيُّ: حَمَلْتُ مَعِي جُزْءاً مِنْ (مُسْنَدِ) بَقِيِّ بنِ مَخْلَدٍ إِلَى المَشْرِقِ، فَأَرَيْتُهُ مُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيْلَ الصَّائِغَ، فَقَالَ: مَا اغْتَرَفَ هَذَا إِلاَّ مِنْ بَحْرٍ، وَعَجِبَ مِنْ كَثْرَةِ عِلْمِهِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيْمُ بنُ حَيُّوْنَ، عَنْ بَقِيِّ بنِ مَخْلَدٍ، قَالَ: لَمَّا رَجَعْتُ مِنَ العِرَاقِ، أَجْلَسَنِي يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ إِلَى جَنْبِهِ، وَسَمِعَ مِنِّي سَبْعَةَ أَحَادِيْثَ. وَقَالَ أَبُو الوَلِيْدِ بنِ الفَرَضِيِّ فِي (تَارِيْخِهِ): مَلأَ بَقِيُّ بنُ مَخْلَدٍ الأَنْدَلُسَ حَدِيْثاً، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ الأَنْدَلُسِيُّوْنَ: أَحْمَدُ بنُ خَالِدٍ، وَمُحَمَّدُ بنُ الحَارِثِ، وَأَبُو زَيْدٍ، مَا أَدْخَلَهُ مِنْ كُتُبِ الاختِلاَفِ، وَغَرَائِبِ الحَدِيْثِ، فَأَغْرُوا بِهِ السُّلْطَانَ وَأَخَافُوهُ بِهِ، ثُمَّ إِنَّ اللهَ أَظْهَرَهُ عَلَيْهِم، وَعَصَمَهُ مِنْهُم، فَنَشَر حَدِيْثَهُ وَقَرَأَ لِلنَّاسِ رِوَايَتَهُ. ثُمَّ تَلاَهُ ابْنُ وَضَّاحٍ، فَصَارَتِ الأَنْدَلُسُ دَارَ حَدِيْثٍ وَإِسْنَادٍ. (25/287) وَمِمَّا انْفَرَدَ بِهِ، وَلَمْ يُدْخِلْهُ سِوَاهُ (مُصَنَّفُ) أَبِي بَكْرٍ بنِ أَبِي شَيْبَةَ بِتَمَامِهِ، وَكِتَابُ (الفِقْهِ) لِلشَافِعِيِّ بِكَمَالِهِ -يَعْنِي: (الأَمّ)- وَ(تَارِيْخُ) خَلِيْفَة، وَ(طَبَقَاتُ) خَلِيْفَة، وَكِتَابُ (سِيْرَةِ عُمَرَ بنِ عَبْدِ العَزِيْزِ)، لأَحْمَدَ بنِ إِبْرَاهِيْمَ الدَّوْرَقِيِّ... وَلَيْسَ لأَحَدٍ مِثْلَ (مُسْنَدِهِ). وَكَانَ وَرِعاً فَاضِلاً زَاهِداً... قَدْ ظَهَرَتْ لَهُ إِجَابَاتُ الدَّعْوَةِ فِي غَيْرِ مَا شَيء. (13/288) قَالَ: وَكَانَ المَشَاهِيْرُ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ وَضَّاحٍ لاَ يَسْمَعُوْنَ مِنْهُ، لِلَّذِي بَيْنَهُمَا مِنَ الوَحْشَةِ... وُلِدَ: فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ إِحْدَى وَمائَتَيْنِ. وَقَالَ الحَافِظُ أَبُو القَاسِمِ الدِّمَشْقِيُّ: لَمْ يَقَعْ إِلِيَّ حَدِيْثٌ مُسْنَدٌ مِنْ حَدِيْثِ بَقِيٍّ. قُلْتُ: عَمِلَ لَهُ تَرْجَمَةً حَسَنَةً فِي (تَارِيْخِهِ). قَالَ الإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ بنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ: أَقْطَعُ أَنَّهُ لَمْ يُؤَلَّفْ فِي الإِسْلاَمِ مِثْلُ (تَفْسِيْرِ) بَقِيٍّ، لاَ (تَفْسِيْرِ) مُحَمَّدِ بنِ جَرِيْرٍ، وَلاَ غَيْرِهِ. (25/288) قَالَ: وَكَانَ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأُموِيُّ صَاحِبُ الأَنْدَلُس مُحِبّاً للعُلُوْمِ عَارِفاً، فَلَمَّا دَخَلَ بَقِيٌّ الأَنْدَلُسَ (بِمُصَنَّفِ) أَبِي بَكْرٍ بنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَقُرِئ عَلَيْهِ، أَنْكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الرَّأْي مَا فِيْهِ مِنَ الخِلاَفِ، وَاسْتَبْشَعُوهُ وَنَشَّطُوا العَامَّةَ عَلَيْهِ، وَمَنَعُوهُ مِنْ قِرَاءَتِهِ، فَاسْتَحْضَرَهُ صَاحِبُ الأَنْدَلُسِ مُحَمَّدٌ وَإِيَّاهُم، وَتَصَفَّحَ الكِتَابَ كُلَّهُ جُزْءاً جُزْءاً، حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِهِ، ثُمَّ قَالَ لخَازِنِ الكُتُبِ: هَذَا كِتَابٌ لاَ تَسْتغْنِي خِزَانَتُنَا عَنْهُ، فَانْظُرْ فِي نَسْخِهِ لَنَا. ثُمَّ قَالَ لَبَقِيٍّ: انشُرْ عِلْمَكَ وَاروِ مَا عِنْدَكَ. وَنَهَاهُم أَنْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ. قَالَ أَسْلَمُ بنُ عَبْدِ العَزِيْزِ: حَدَّثَنَا بَقِيُّ بنُ مَخْلَدٍ، قَالَ: لَمَّا وَضعْتُ (مُسْنَدِي)، جَاءنِي عُبَيْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بنِ يَحْيَى، وَأَخُوْهُ؛ إِسْحَاقُ، فَقَالاَ: بَلَغنَا أَنَّكَ وَضَعْتَ (مُسْنَداً)، قَدَّمْتَ فِيْهِ أَبَا مُصْعَبٍ الزُّهْرِيَّ، وَيَحْيَى بنَ بُكَيْرٍ، وَأَخَّرْتَ أَبَانَا؟ فَقَالَ: أَمَّا تَقْدِيْمِي أَبَا مُصْعبٍ، فَلِقَوْلِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدِّمُوا قُرَيْشاً، وَلاَ تَقَدَّمُوْهَا). (13/289) وَأَمَّا تَقْدِيْمِي ابْنَ بُكَيْرٍ، فَلِقُوْلِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (كَبِّرْ كَبِّرْ)- يُرِيْدُ السِّنَّ - وَمَعَ أَنَّهُ سَمِعَ (المُوَطَّأَ) مِنْ مَالِكٍ سَبْعَ عَشْرَةَ مَرَّةً، وَأَبُوْكُمَا لَمْ يَسْمَعْهُ إِلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً. قُلْتُ: وَلَهُ فِيْهِ فَوْتٌ مَعْرُوْفٌ. قَالَ: فَخَرَجَا وَلَمْ يَعُودَا، وَخَرَجَا إِلَى حَدِّ العَدَاوَةِ. (13/290) (25/289) وَأَلَّفَ أَبُو عَبْدِ المَلِكِ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ البَرِّ القُرْطُبِيُّ، المَيِّتُ فِي عَامِ ثَمَانِيَةٍ وَثَلاَثِيْنَ وَثَلاَثِ مائَةٍ كِتَاباً فِي أَخْبَارِ عُلَمَاءِ قُرْطُبَةَ، ذَكَرَ فِيْهِ بَقِيَّ بنَ مَخْلَدٍ، فَقَالَ: كَانَ فَاضِلاً تَقِيّاً، صَوَّاماً قَوَّاماً مُتَبَتِّلاً، مُنْقَطِعَ القَرِيْنِ فِي عَصْرِهِ، مُنْفَرِداً عَنِ النَّظِيْرِ فِي مِصْرِهِ، كَانَ أَوَّلُ طَلَبِهِ عِنْدَ مُحَمَّدِ بنِ عِيْسَى الأَعْشَى، ثُمَّ رَحَلَ، فَحَمَلَ عَنْ أَهْلِ الحَرَمَيْنِ، وَمِصْرَ، وَالشَّامِ، وَالجَزِيْرَةِ، وَخُلْوَانَ، وَالبَصْرَةِ، وَالكُوْفَةِ، وَوَاسِطَ، وَبَغْدَادَ، وَخُرَاسَانَ - كَذَا قَالَ، فَغَلِطَ، لَمْ يَصِلْ إِلَى خُرَاسَانَ، بَلْ وَلاَ إِلَى هَمَذَانَ، وَمَا أَدْرِي هَلْ دَخَلَ الجَزِيْرَةَ أَمْ لاَ؟ وَيَظْهَرُ ذَلِكَ لِمَنْ تَأَمَّلَ شُيُوْخَهُ - ثُمَّ قَالَ: وَعَدَنَ وَالقَيْرَوَانَ - قُلْتُ: وَمَا دَخَلَ الرَّجُلُ إِلَى اليَمَنِ -. قَالَ: وَذَكَرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ أَحْمَدَ، عَنْ أَبِيْهِ: أَنَّ امْرَأَةً جَاءت إِلَى بَقِيٍّ، فَقَالَتْ: إِنَّ ابْنِي فِي الأَسْرِ، وَلاَ حِيْلَةَ لِي، فَلَو أَشَرْتَ إِلَى مَنْ يَفْدِيهِ، فَإِنَّنِي وَالِهَةٌ. قَالَ: نَعَمْ، انصَرِفِي حَتَّى أَنْظُرَ فِي أَمْرِهِ. ثُمَّ أَطْرَقَ، وَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ، ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ جَاءتِ المَرْأَةُ بَابْنِهَا، فَقَالَ: كُنْتُ فِي يَدِ مَلِكٍ، فَبَيْنَا أَنَا فِي العَمَلِ، سَقَطَ قَيْدِي. قَالَ: فَذَكَرَ اليَوْمَ وَالسَّاعَةَ، فَوَافَقَ وَقْتَ دُعَاءِ الشَّيْخِ. (25/290) قَالَ: فَصَاحَ عَلَى المُرَسَّم بِنَا، ثُمَّ نَظَرَ وَتَحَيَّرَ، ثُمَّ أَحْضَرَ الحَدَّادَ وَقَيَّدَنِي، فَلَمَّا فرغه وَمَشَيْتُ سَقَطَ القَيْدُ، فَبُهِتُوا، وَدَعُوا رُهْبَانَهُم، فَقَالُوا: أَلَكَ وَالِدَةٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالُوا: وَافَقَ دُعَاءهَا الإِجَابَةُ. هَذِهِ الوَاقِعَةُ حَدَّثَ بِهَا الحَافِظُ حَمْزَةُ السَّهْمِيُّ، عَنْ أَبِي الفَتْحِ نَصْرِ بنِ أَحْمَدَ بنِ عَبْدِ المَلِكِ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا أَبِي.... فَذَكَرَهَا، وَفِيْهَا: ثُمَّ قَالُوا: قَدْ أَطلَقَكَ اللهُ، فَلاَ يُمْكِنُنَا أَن نُقَيِّدَكَ، فَزَوَّدُونِي، وَبَعَثَوا بِي. قَالَ: وَكَانَ بَقِيٌّ أَوَّلَ مَنْ كَثَّرَ الحَدِيْثَ بِالأَنْدَلُسِ وَنَشَرَهُ، وَهَاجَمَ بِهِ شُيُوْخَ الأَنْدَلُسِ، فَثَارُوا عَلَيْهِ، لأَنَّهُم كَانَ عِلْمُهُم بِالمَسَائِلِ وَمَذْهَبِ مَالِكٍ، وَكَانَ بَقِيٌّ يُفْتِي بِالأَثَرِ، فَشَذَّ عَنْهُم شُذُوذاً عَظِيْماً، فَعَقَدُوا عَلَيْهِ الشَّهَادَات، وَبَدَّعُوهُ، وَنَسَبُوا إِلَيْهِ الزَّنْدَقَة، وَأَشيَاء نَزَّهَهُ اللهُ مِنْهَا. (13/291) وَكَانَ بَقِيٌّ يَقُوْلُ: لَقَدْ غَرَسْتُ لَهُم بِالأَنْدَلُسِ غَرْساً لاَ يُقْلَعُ إِلاَّ بِخُرُوْجِ الدَّجَّالِ. قَالَ: وَقَالَ بَقِيٌّ: أَتَيْتُ العِرَاقَ، وَقَدْ مُنِعَ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ مِنَ الحَدِيْثِ، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يُحَدِّثَنِي، وَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ خُلَّةٌ، فَكَانَ يُحَدِّثُنِي بِالحَدِيْثِ فِي زِيِّ السُّؤَالِ، وَنَحْنُ خلوَةٌ، حَتَّى اجْتَمَعَ لِي عَنْهُ نَحْوٌ مِنْ ثَلاَثِ مائَةِ حَدِيْثٍ. قُلْتُ: هَذِهِ حِكَايَةٌ مُنْقَطِعَةٌ. (25/291) قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: وَ(مُسْنَدُ) بَقِيٍّ رَوَى فِيْهِ عَنْ أَلفٍ وَثَلاَثِ مائَةٍ صَاحِبٍ وَنَيِّفٍ، وَرَتَّبَ حَدِيْثَ كُلِّ صَاحِبٍ عَلَى أَبْوَابِ الفِقْهِ، فَهُوَ مُسْنَدٌ وَمُصَنَّفٌ، وَمَا أَعْلَمُ هَذِهِ الرُّتْبَةَ لأَحَدٍ قَبْلَهُ، مَعَ ثِقَتِهِ وَضَبْطِهِ، وَإتقَانِهِ وَاحتِفَالِهِ فِي الحَدِيْثِ. وَلَهُ مُصَنَّفٌ فِي فَتَاوَى الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِيْنَ فَمَنْ دُوْنَهُم، الَّذِي قَدْ أَرْبَى فِيْهِ عَلَى (مُصَنَّفِ) ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَلَى (مُصَنَّفِ) عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَعَلَى (مُصَنَّفِ) سَعِيْدِ بنِ مَنْصُوْرٍ... ثُمَّ إِنَّهُ نَوَّهُ بِذِكْرِ (تَفْسِيْرِهِ)، وَقَالَ: فَصَارَتْ تَصَانِيْفُ هَذَا الإِمَامِ الفَاضِلِ قَوَاعِدَ الإِسْلاَمِ، لاَ نَظِيْرَ لَهَا، وَكَانَ مُتَخَيِّراً لاَ يُقَلِّدُ أَحَداً، وَكَانَ ذَا خَاصَّةٍ مِنْ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ، وَجَارِياً فِي مِضْمَارِ البُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ، وَالنَّسَائِيِّ. (13/292) وَقَالَ أَبُو عَبْدِ المَلِكِ المَذْكُوْرُ فِي (تَارِيْخِهِ): كَانَ بَقِيُّ طُوَالاً أَقْنَى، ذَا لِحْيَةٍ مُضَبَّراً قَوِيّاً جَلْداً عَلَى المَشِي، لَمْ يُرَ رَاكِباً دَابَّةً قَطُّ، وَكَانَ مُلاَزِماً لِحُضُوْرِ الجَنَائِزِ، مُتَوَاضِعاً، وَكَانَ يَقُوْلُ: إِنِّيْ لأَعْرِفُ رَجُلاً، كَانَ تَمْضِي عَلَيْهِ الأَيَّامُ فِي وَقْتِ طَلَبِهِ العِلْم، لَيْسَ لَهُ عَيْشٌ إِلاَّ وَرَقُ الكُرُنْبِ الَّذِي يُرْمَى، وَسَمِعْتُ مِنْ كُلِّ مَنْ سَمِعْتُ مِنْهُ فِي البُلْدَانِ مَاشِياً إِلَيْهِم عَلَى قَدَمِي. (25/292) قَالَ ابْنُ لُبَابَةَ الحَافِظُ: كَانَ بَقِيٌّ مِنْ عُقَلاَءِ النَّاسِ وَأَفَاضِلِهِم، وَكَانَ أَسْلَمُ بنُ عَبْدِ العَزِيْزِ يُقَدِّمُهُ عَلَى جَمِيْعِ مَنْ لَقِيَهُ بِالمَشْرِقِ، وَيَصِفُ زُهْدَهُ، وَيَقُوْلُ: رُبَّمَا كُنْتُ أَمْشِي مَعَهُ فِي أَزِقَّةِ قُرْطُبَةَ، فَإِذَا نَظَرَ فِي مَوْضِعٍ خَالٍ إِلَى ضَعِيْفٍ مُحْتَاجٍ أَعطَاهُ أَحَدَ ثَوْبَيْهِ. وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ صَاحِبُ القِبْلَةِ، قَالَ: كَانَ بَقِيٌّ يَخْتِم القُرْآنَ كُلَّ لَيْلَةٍ، فِي ثلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَكَانَ يُصَلِّي بِالنَّهَارِ مائَةِ رَكْعَةٍ، وَيَصُوْمُ الدَّهْرَ. وَكَانَ كَثِيْرَ الجِهَادِ، فَاضِلاً، يُذْكَرُ عَنْهُ أَنَّهُ رَابَطَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِيْنَ غَزْوَةً. وَنَقَلَ بَعْضُ العُلَمَاءِ مِنْ كِتَابٍ لِحَفِيْدِ بَقِيٍّ؛ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ أَحْمَدَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُوْلُ: رَحَل أَبِي مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَغْدَادَ، وَكَانَ رَجُلاً بُغْيَتُهُ مُلاَقَاةُ أَحْمَدَ بنَ حَنْبَلٍ. قَالَ: فَلَمَّا قَرُبْتُ بَلَغَتْنِي المِحْنَةُ، وَأَنَّهُ مَمْنُوْعٌ، فَاغتَمَمْتُ غَمّاً شَدِيْداً، فَاحتَلَلْتُ بَغْدَادَ، وَاكتَرَيْتُ بَيْتاً فِي فُنْدُقٍ، ثُمَّ أَتَيْتُ الجَامِعَ وَأَنَا أُرِيْدُ أَنْ أَجْلِسَ إِلَى النَّاسِ، فدُفِعْتُ إِلَى حَلْقَةٍ نَبِيْلَةٍ، فَإِذَا بِرَجُلٍ يَتَكَلَّمُ فِي الرِّجَالِ، فَقِيْلَ لِي: هَذَا يَحْيَى بنُ مَعِيْنٍ. (13/293) فَفُرِجَتْ لِي فُرْجَةً، فَقُمْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا زَكَرِيَّا: - رَحِمَكَ اللهُ - رَجُلٌ غَرِيْبٌ نَاءٍ عَنْ وَطَنِهِ، يُحِبُّ السُّؤَالَ، فَلاَ تَسْتَجْفِنِي. فَقَالَ: قُلْ. فَسَأَلْتُ عَنْ بَعْضِ مَنْ لَقِيْتُهُ، فَبَعْضاً زَكَّى، وَبَعْضاً جَرَحَ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ هِشَامِ بنِ عَمَّارٍ. (25/293) فَقَالَ لِي: أَبُو الوَلِيْدِ، صَاحِبُ صَلاَةِ دِمَشْقَ، ثِقَةٌ، وَفَوْق الثِّقَةِ، لَوْ كَانَ تَحْتَ رِدَائِهِ كِبْرٌ، أَوْ مُتَقَلِّداً كِبْراً، مَا ضَرَّهُ شَيْئاً لِخَيْرِهِ وَفَضْلِهِ، فَصَاحَ أَصْحَابُ الحَلْقَةِ: يَكْفِيْكَ - رَحِمَكَ اللهُ - غَيْرُكَ لَهُ سُؤَالٌ. فَقُلْتُ: وَأَنَا وَاقِفٌ عَلَى قَدَمٍ: اكشِفْ عَنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ: أَحْمَدَ بنَ حَنْبَلٍ، فَنَظَرَ إِليَّ كَالمُتَعَجِّبِ، فَقَالَ لِي: وَمِثْلُنَا، نَحْنُ نَكْشفُ عَنْ أَحْمَدَ؟! ذَاكَ إِمَامُ المُسْلِمِيْنَ، وَخَيْرُهُم وَفَاضِلُهُم. فَخَرَجْتُ أَستَدِلُّ عَلَى مَنْزِلِ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ، فَدُلِلْتُ عَلَيْهِ، فَقَرَعْتُ بَابَهُ، فَخَرَجَ إِليَّ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ رَجُلٌ غَرِيْبٌ، نَائِي الدَّارِ، هَذَا أَوَّلُ دُخُوْلِي هَذَا البَلَد، وَأَنَا طَالِبُ حَدِيْثٍ، وَمُقَيِّدُ سُنَّةٍ، وَلَمْ تَكُنْ رِحْلَتِي إِلاَّ إِلَيْكَ. فَقَالَ: ادْخُلِ الأَصطوَانَ وَلاَ يَقَعُ عَلَيْكَ عَيْنٌ. فَدَخَلْتُ، فَقَالَ لِي: وَأَيْنَ مَوْضِعُكَ؟ قُلْتُ: المَغْرِبُ الأَقْصَى. فَقَالَ: إِفْرِيْقِيَّة؟ قُلْتُ: أَبْعَدُ مِنْ إِفْرِيْقِيَّةَ، أَجُوْزُ مِنْ بَلَدِي البَحْرَ إِلَى إِفْرِيْقِيَّةَ، بَلَدِي الأَنْدَلُسَ. قَالَ: إِنَّ مَوْضِعَكَ لَبَعِيْدٌ، وَمَا كَانَ شَيْءٌ أَحَبُّ إليَّ مِنْ أَنْ أُحْسِنَ عَوْنَ مِثْلِكَ، غَيْرَ أَنِّي مُمْتَحَنٌ بِمَا لَعَلَّهُ قَدْ بَلَغَكَ. (25/294) فَقُلْتُ: بَلَى، قَدْ بَلَغَنِي، وَهَذَا أَوَّلُ دُخُولِي، وَأَنَا مَجْهُوْلُ العَيْن عِنْدَكُم، فِإِنْ أَذِنْتَ لِي أَنْ آتِيَ كُلَّ يَوْمٍ فِي زَيِّ السُّؤَّالِ، فَأَقُولُ عِنْدَ البَابِ مَا يَقُوْلُهُ السُّؤَّالُ، فَتَخْرُجُ إِلى هَذَا المَوْضِعِ، فَلَو لَمْ تُحَدِّثْنِي كُلَّ يَوْمٍ إِلاَّ بِحَدِيْثٍ وَاحِدٍ، لَكَانَ لِي فِيْهِ كِفَايَةً. فَقَالَ لِي: نَعَمْ، عَلَى شَرْطِ أَنْ لا تَظْهَرَ فِي الخَلْقِ، وَلا عِنْدَ المُحَدِّثِيْنَ. (13/294) فَقُلْتُ: لَكَ شَرْطُكَ، فَكُنْتُ آخُذُ عَصاً بِيَدِي، وَأَلُفُّ رَأْسِي بِخِرْقَةٍ مُدَنَّسَةٍ، وَآتِي بَابَهُ فَأَصِيْحُ: الأَجْرَ - رَحِمَكَ اللهُ - وَالسُّؤَّالُ هُنَاكَ كَذَلِكَ، فَيَخْرُجُ إِليَّ، وَيُغْلِقُ، وَيُحَدِّثُنِي بِالحَدِيْثَيْنِ وَالثَّلاثَةِ وَالأَكْثَر، فَالْتَزَمْتُ ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ المُمْتَحِنُ لَهُ، وَوُلِّيَ بَعْدَهُ مَنْ كَانَ عَلَى مَذْهَبِ السُّنَّةِ، فَظَهَرَ أَحْمَدُ، وَعَلَتْ إِمَامَتُهُ، وَكَانَتْ تُضَرَبُ إِلَيْهِ آباطُ الإِبلِ، فَكَانَ يَعْرِفُ لِي حَقَّ صَبْرِي، فَكُنْتُ إِذَا أَتَيْتُ حَلْقَتَهُ فَسَحَ لِي، وَيَقُصُّ عَلَى أَصْحَابِ الحَدِيْثِ قِصَّتِي مَعَهُ، فَكَانَ يُنَاوِلُنِي الحَدِيْثَ مُنَاوَلَةً، وَيَقْرَؤُهُ عَلَيَّ، وَأَقرَؤُهُ عَلَيْهِ، وَاعتَلَلْتُ فِي خَلْقٍ مَعَهُ. ذَكَرَ الحِكَايَةَ بِطُوْلِهَا. (25/295) نَقَلَهَا القَاسِمُ بنُ بَشْكُوَالَ فِي بَعْضِ تَآلِيْفِهِ، وَنَقَلْتُهَا أَنَا مِنْ خَطِّ شَيْخِنَا؛ أَبِي الوَلِيْدِ بنِ الحَاج، وَهِيَ مُنْكَرَةٌ، وَمَا وَصَلَ ابْنُ مَخْلَدٍ إِلى الإِمَامِ أَحْمَدَ إِلاَّ بَعْدَ الثَّلاثِيْنَ وَمائَتَيْنِ، وَكَانَ قَدْ قَطَعَ الحَدِيْثَ مِنْ أَثْنَاءِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِيْنَ، وَمَا رَوَى بَعْدَ ذَلِكَ وَلاَ حَدِيْثاً وَاحِداً، إِلَى أَنْ مَاتَ، وَلَمَّا زَالَتِ المِحْنَةُ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلاثِيْنَ، وَهَلَكَ الوَاثِقُ، وَاسْتُخْلِفَ المُتَوَكِّلُ، وَأَمَرَ المُحَدِّثِيْنَ بِنَشْرِ أحَادِيْثَ الرُّؤْيَةِ وَغَيْرِهَا، امتَنَعَ الإِمَامُ أَحْمَدُ مِنَ التَّحْدِيْثِ، وَصَمَّمَ عَلَى ذَلِكَ، مَا عَمِلَ شَيْئاً غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ يُذَاكِرُ بِالعِلْمِ وَالأَثَرِ، وَأَسْمَاءِ الرِّجَالِ وَالفِقْهِ، ثُمَّ لَوْ كَانَ بَقِيٌّ سَمِعَ مِنْهُ ثَلاثَ مائَةِ حَدِيْثٍ، لكَانَ طَرَّزَ بِهَا (مُسْنَدَهُ) وَافتَخَرَ بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ. فَعِنْدِي مُجَلَدَانِ مِنْ (مُسْنَدِهِ)، وَمَا فِيْهِمَا عَنْ أَحْمَدَ كَلِمَةً. (13/295) ثُمَّ بَعْدَهَا حِكَايَةٌ أَنْكَرُ مِنْهَا، فَقَالَ: نَقَلْتُ مِنْ خَطِّ حَفِيْدِهِ؛ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ أَحْمَدَ بنِ بَقِيٍّ، حَدَّثَنِي أَبِي، أَخْبَرَتْنِي أُمِّي أَنَّهَا رَأَتْ أَبِي مَعَ رَجُلٍ طُوَالٍ جِدّاً، فَسَأَلَتْهُ عَنْهُ، فَقَالَ: أَرْجُو أَنْ تَكُوْنِي امْرَأَةً صَالِحَةً، ذَاكَ الخَضِرُ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ-. (25/296) وَنَقَلَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ هَذَا عَنْ جَدِّهِ أَشْيَاءً، اللهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهَا، ثُمَّ قَالَ: كَانَ جَدِّي قَدْ قَسَّمَ أَيَّامَهُ عَلَى أَعْمَالِ البِرِّ: فَكَانَ إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ قَرَأَ حِزْبَهُ مِنَ القُرْآنِ فِي المُصْحَفِ، سُدْسَ القُرْآنِ، وَكَانَ أَيْضاً يَخْتِمُ القُرْآنَ فِي الصَّلاَةِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَيَخْرُجُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي الثُّلُثِ الأَخِيْرِ إِلَى مَسْجِدِهِ، فَيَخْتِمُ قُرْبَ انصِدَاعِ الفَجْرِ، وَكَانَ يُصَلِّي بَعْدَ حِزْبِهِ مِنَ المُصْحَفِ صَلاَةً طَوِيْلَةً جِدّاً، ثُمَّ يَنْقَلِبُ إِلَى دَارِهِ - وَقَدِ اجتَمَع فِي مَسْجِدِهِ الطَّلَبَةُ - فَيُجَدِّدُ الوُضُوْءَ، وَيَخْرُجُ إِلَيْهِم، فَإِذَا انقَضَتِ الدُّولُ، صَارَ إِلَى صَوْمَعَةِ المَسْجَدِ، فَيُصَلِّي إِلَى الظُّهْرِ، ثُمَّ يَكُوْنُ هُوَ المُبْتَدِئ بِالأَذَانِ، ثُمَّ يَهْبِطُ ثُمَّ يُسمِعُ إِلَى العَصْرِ، وَيُصَلِّي وَيُسمِعُ، وَرُبَّمَا خَرَجَ فِي بَقِيَّةِ النَّهَارِ، فَيَقْعُدُ بَيْنَ القُبُوْرِ يَبْكِي وَيَعْتَبِرُ، فَإِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ أَتَى مَسْجِدَهُ، ثُمَّ يُصَلِّي، وَيَرْجِعُ إِلَى بَيْتِهِ فيُفْطِرُ، وَكَانَ يَسْرُدُ الصَّوْمَ إِلاَّ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وَيَخْرُجُ إِلَى المَسْجَدِ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ جِيْرَانُهُ، فَيَتَكَلَّمُ مَعَهُم فِي دِيْنِهِم وَدُنيَاهُم، ثُمَّ يُصَلِّي العِشَاءَ، وَيَدْخُلُ بَيْتَهُ، فيُحَدِّثُ أَهلَهُ، ثُمَّ يَنَامُ نَوْمَةً قَدْ أَخَذَتْهَا نَفْسُهُ، ثُمَّ يَقُومُ، هَذَا دَأْبُهُ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ. وَكَانَ جَلداً، قَوِيّاً عَلَى المَشْيِ، قَدْ مَشَى مَعَ ضَعِيْفٍ فِي مَظْلَمَةٍ إِلَى إِشْبِيلِيَةَ، وَمَشَى مَعَ آخَرَ إِلَى إِلْبِيْرَةَ، وَمَعَ امْرَأَةٍ ضَعِيْفَةٍ إِلَى جَيَّانَ. (13/296) (25/297) قُلْتُ: وَهِمَ بَعْضُ النَّاسِ، وَقَالَ: مَاتَ سَنَةَ ثَلاَثٍ وَسَبْعِيْنَ وَمائَتَيْنِ. بَلِ الصَّوَابُ أَنَّهُ تُوُفِّيَ: لِلَيْلَتَيْنِ بَقَيَتَا مِنْ جُمَادَى الآخِرَةِ، سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِيْنَ وَمائَتَيْنِ. وَرَّخَهُ: عَبْدُ اللهِ بنُ يُوْنُسَ، وَغَيْرُهُ. وَمِنْ مَنَاقِبِهِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ كِبَارِ المُجَاهِدِيْنَ فِي سَبِيْلِ اللهِ، يُقَالُ: شَهِدَ سَبْعِيْنَ غَزْوَةً. وَمِنْ حَدِيْثِهِ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بنُ عَطَاءِ اللهِ بِالإِسْكَنْدَرِيَّةِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ مَكِّيٍّ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَأَرْبَعِيْنَ وَسِتِّ مائَة، أَنْبَأَنَا خَلَفُ بنُ عَبْدِ المَلِكِ الحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ بنُ عَتَّابٍ، أَخْبَرَنَا الحَافِظُ أَبُو عُمَرَ النَّمَرِي، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ المَلِكِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ يُوْنُسَ، حَدَّثَنَا بَقِيُّ بنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا هَانئُ بنُ المُتَوَكِّلِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بنَ صَالِحٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: لَوْلاَ أَنِّي أَنْسَى ذِكْرَ اللهِ، مَا تَقَرَّبْتُ إِلَى اللهِ إِلاَّ بِالصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُوْلُ: (قَالَ جِبْرِيْلُ: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّ اللهَ يَقُوْلُ: مَنْ صَلَّى عَلَيْكَ عَشْرَ مَرَّاتٍ اسْتَوْجَبَ الأَمَانَ مِنْ سَخَطِهِ). (13/297) (25/298) |