المُكْتَفِي بِاللهِ الخَلِيْفَةُ عَلِيُّ ابنُ المُعْتَضِد بِاللهِ
 
الخَلِيْفَةُ، أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيٌّ ابنُ المُعْتَضِد بِاللهِ أَبِي العَبَّاسِ أَحْمَدَ ابنِ المُوَفَّقِ طَلْحَةَ ابنِ المُتَوَكِّلِ العَبَّاسِيُّ.
مَوْلِدُهُ: فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسِتِّيْنَ وَمائَتَيْنِ.
وَكَانَ يُضْرَبُ بحسْنه المَثَلُ فِي زَمَانِهِ.
كَانَ مُعتدلَ القَامَة، دُرِّيَّ اللَّوْنَ، أَسْوَدَ الشَّعر، حَسَنَ اللِّحْيَة.
بُوْيِع بِالخِلاَفَة عِنْد موت وَالده بِعَهْدٍ مِنْهُ، فِي جُمَادَى الأُوْلَى، سَنَة تِسْعٍ وَثَمَانِيْنَ، فَاسْتَخلف سِتَّةَ أَعْوَامٍ وَنِصْفاً.
(25/485)

وَتُوُفِّيَ أَبُوْهُ وَهَذَا غَائِبٌ، فَقَامَ لَهُ بِالبَيْعَة الوَزِيْر أَبُو الحُسَيْنِ القَاسِم بن عُبَيْدٍ الله، وَضَبَطَ لَهُ مَا خَلَّف أَبُوْهُ فِي بُيوت المَال، فَكَانَ مِنْ ذَلِكَ مِنَ الذَّهَب المِصْرِيّ عَشْرَة آلاَف أَلف دِيْنَار، وَمن الجَوَاهِر مَا قيمتُه مِثْلُ ذَلِكَ، وَمن الدَّرَاهِم وَالخيل وَالثِّيَاب نسبَةُ ذَلِكَ، وَقَسَّم القَاسِم فِي الجُنْد العَطَاء، فَسَكَنُوا، وَقَدِمَ المكتفِي بَغْدَادَ مُنْحدراً فِي سُمَيْرِيَّة، وَكَانَ يَوْماً مشهوداً، سَقَط طَائِفَةٌ مِنَ الجِسْر فِي دِجْلَة، مِنْهُم: أَبُو عُمَرَ القَاضِي، فَأُخْرِجَ سَالماً، وَنَزَلَ المُكْتَفِي بِقَصْر الخِلاَفَة، وَتَكَلَّمْتِ الشُّعَرَاء، فَخَلَع عَلَى القَاسِم سبعَ خِلع، وَقَلَّده سيفاً، وَهَدَمَ المَطَامِير الَّتِي عَمِلهَا أَبُوْهُ، وَصَيَّرهَا مَسَاجِد، وَرَدَّ أَملاَك النَّاس إِلَيْهِم، وَكَانَ أَبُوْهُ قَدْ أَخذهَا لعمل قَصْر، وَأَحُسْن السِّيْرَةِ، فَأَحَبَّه النَّاس. (13/480)
وَفِيْهَا: عَسْكَرَ مُحَمَّد بن هَارُوْنَ وَبيض، وَالتُّقَى مُتَوَلِّي الرَّيّ، فَهَزم جَيْشه وَقَتَله، وَقَتَلَ وَلَدَيْهِ وَقُوَّاده، وَتملك.
وَدَامت الزَّلزلَة بِبَغْدَادَ أَيَّاماً.
وهَبَّت بِالبَصْرَةِ رِيْحٌ قَلَعت أَكْثَر نخلهَا.
وظهر زَكْرَوَيْه القِرْمطي، وَاسْتَغْوَى عَرب السَّوَاد، وَأَخَاف السُّبُل، وَقَطَع الطُّرُق.
وَأَمَّا ابْن هَارُونَ: فَاشتَدَّ بِأَسُه، وَبلغ عسكرُه مائَةَ أَلْف، فَسَارَ لِحَرْبِهِ عَسْكَرُ خُرَاسَان، فَهَزمُوهُ إِلَى الدَّيْلَم، وَتفلَّلَّ ذَلِكَ الجمع، فَالتَجَأَ فِي نَحْوٍ مِنْ أَلفٍ إِلَى الدَّيْلَم.
وقوي أَمر أَبِي عَبْدِ اللهِ الشِّيْعِيّ، دَاعِي العُبَيْدِيَّة بِالمَغْرِب.
وَصَلَّى المكتفِي بِالنَّاسِ يَوْم الأَضحَى بِالمصَلَّى. (13/481)
(25/486)

وَقُتِلَ الأَمِيْر بدر، وَكَانَ المعتضدُ يُحِبُّه، وَكَانَ شُجَاعاً جَوَاداً، وَقَدْ كَانَ القَاسِمُ الوَزِيْر هَمَّ عِنْد موت المعتضد بنقلِ الخِلاَفَة إِلَى غَيْر ابْنه، وَنَاظَرَ بَدْراً فِي ذَلِكَ، فَأَبَى عَلَيْهِ، ثُمَّ خَافَ مِنْهُ، وَمَاتَ المعتضد، وَاتَّفَقَ غَيْبَة بَدْر بفَارِس، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ المكتفِي شَيْء، فَأَشَار القَاسِم عَلَى المكْتَفِي أَنْ يَأْمر بِإِقَامَة بَدْرٍ هُنَاكَ، وَخَوَّف المكتفِي مِنْهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ مَعَ يَانس الموفقي، وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِخِلَعٍ وَعَشْرَةِ آلاَف أَلف دِرْهَم، فَقَالَ: لاَ بُدَّ مِنَ القُدُوم لأُشَاهد مَوْلاَيَ.
فَقَالَ الوَزِيْر للمكتفِي: قَدْ جَاهَرَك، وَلاَ نَأْمَنه.
وَكَاتَبَ الوَزِيْر الأُمَرَاء الَّذِيْنَ مَعَ بَدْر بِالمجِيْء، فَأَرُوا بدراً الكُتُبَ، وَقَالُوا: قُمْ مَعَنَا حَتَّى نَجْمَعَ بَيْنَكُمَا، ثُمَّ فَارقوهُ وَقدمُوا، ثُمَّ جَاءَ بدرٌ، فَنَزَلَ وَاسطاً، فَبَعَثَ إِلَيْهِ أَبُو خَازم القَاضِي، وَقَالَ: اذهبْ إِلَى بدرٍ بِالأَمَان وَالعُهُود.
فَامْتَنَعَ أَبُو خَازم، وَقَالَ: لاَ أُؤَدِّي عَنِ الخَلِيْفَة إِلاَّ مَا أَسمَعُه مِنْهُ.
فَنَدَب الوَزِيْر أَبَا عُمر القَاضِي، فسَارعَ وَاجتَمَعَ بِبَدْرٍ، وَأَعطَاهُ الأَمَان عَنِ المُكْتَفِي، فَنَزَلَ فِي طيَار ليَأْتِي، فَتَلَقَّاهُ لُؤْلُؤ غُلاَمُ الوَزِيْر فِي جَمَاعَةٍ، فَأَصعدُوهُ إِلَى جَزِيْرَة، فَلَمَّا عَايَنَ المَوْتَ، قَالَ: دعُونِي أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَأَوصي، فَذَبحوهُ وَهُوَ فِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة لَيْلَةَ الجُمُعَةِ، السَّابع وَالعِشْرِيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَذَمَّ النَّاسُ أَبَا عُمَر.
وَفِيْهَا: دَخَلَ عُبَيْد اللهِ المَهْدِيّ إِلَى المَغْرِب مُتَنَكِّراً، فَقَبَض عَلَيْهِ مُتَوَلِّي سِجِلْمَاسَة. (13/482)
(25/487)

وَسَارَ يَحْيَى بن زَكْرَويه القِرْمِطي، وَحَاصَرَ دِمَشْق، وَبِهَا طُغج، فضعف عَنِ القرَامطَة، فَقُتل يَحْيَى فِي الحِصَار، وَقَامَ بَعْدَهُ أَخُوْهُ الحُسَيْن، وَسَارَ المكتفِي بجيوشه إِلَى المَوْصِل، وَتقدَّمه إِلَى حلب أَبُو الأَغَر، فَبيَّتهُم القِرْمطي، فَقتل مِنَ المُسْلِمِيْنَ تسعَة آلاَف، وَوصل المكتفِي إِلَى الرَّقَّةِ، وَعظُم البلاَءُ بِالقَرَامطَة، ثُمَّ أَوقع بِهِم العَسْكَر، وَهَرَبُوا إِلَى البَادِيَة يَعيثُونَ وَيَنهبُون، وَتَبعهُم الحُسَيْن بن حَمدَان، وَعِدَّة أُمرَاء يطردونَهُم، وَكَانَ يَحْيَى المَقْتُول يَدَّعِي أَنَّهُ حُسَينِي.
رمَاهُ بَرْبَرِيٌ بِحَرْبَةٍ، ثُمَّ قتل أَخُوْهُ الحُسَيْن صَاحِب الشَّامَة.
وَفِي سَنَةِ إِحْدَى وَتِسْعِيْنَ وَمائَتَيْنِ: زوَّج المكتفِي وَلدَه ببنتِ الوَزِيْر عَلَى مائَة أَلْف دِيْنَار، وَخَلَعَ الوَزِيْر يَوْمَئِذٍ عَلَى الأَعيَان أَرْبَعَ مائَة خِلْعَة.
وَفِيْهَا: أَقبلت جُموع التُّرْكِ، فَبيتهُم وَالِي خُرَاسَان إِسْمَاعِيْل، وَقتلُوا مِنْهُم مَقْتَلَةً عَظِيْمَةً، وَأَقبلتِ الرُّوْم فِي مائَةِ أَلْفٍ، وَأَتُوا إِلَى الحَدَث فَأَحرقوهُ، وَقَتلُوا وَسَبوا. (13/483)
وَفِيْهَا: سَارَ عَسْكَرُ طَرَسُوْس، فَافتتحُوا أَنطَاكيَة، وَحَصَّل سَهْم الفَارِس أَلْفَ دِيْنَار، وَأُسِرَ صَاحِب الشَّامَة وَقرَابتُه المدثر، وَعِدَّة، فَقُتلُوا وَأُحْرِقُوا.
(25/488)

وَفِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِيْنَ: سَارَ مُحَمَّد بن سُلَيْمَانَ بجيوش المُكْتَفِي إِلَى مِصْرَ، فَالتَقَوا غَيْرَ مَرَّةٍ، ثُمَّ اختلف جَيْشُ مِصْر، فَخَرَجَ مَلِكهُم هَارُوْنَ بن خُمَارويه ليسكِّنهُم، فرمَاهُ مغربِي بِسَهْم قَتَلَه، وَاسْتَوْلَى مُحَمَّد بن سُلَيْمَانَ عَلَى مِصْرَ، وَأَسَرَ بَضْعَةَ عشرَ قَائِداً، وَدَانت البِلاَد للمكتفِي، وَزَادتْ دجلَة حَتَّى بلغتْ أَحَداً وَعِشْرِيْنَ ذرَاعاً، وَأَخرجت مَا لاَ يُعَبَّر عَنْهُ.
وفِي آخرهَا: خَرَجَ بِمِصْرَ الخَلَنْجِي، وَتَمَكَّنَ، فتَجَهَّز فَاتك لِحَرْبِهِ.
وفِي سَنَةِ ثَلاَثٍ: التقى الخَلَنْجِي وَجيش المكتفِي بِالعَرِيْش، فَهَزمَهُم أَقبحَ هَزيمَة، وَنَازَل دِمَشْقَ أَخُو القِرْمطي، وَاسْتبَاح طَبَرَيَّة، وَسَارُوا عَلَى السَّمَاوَة، فنهبُوا هِيْتَ، وَوثَبتِ القَرَامِطَة يَوْمَ النَّحْر عَلَى الكُوْفَةِ، فَحَارَبهُم أَهلُهَا، ثُمَّ حَاربُوا عَسْكَر المكْتَفِي أَيْضاً وَهَزَمُوهُ. (13/484)
وَالتَقَى فَاتك المُعْتَضِدي وَالخَلَنْجِي، فَانهزم عَسْكَرُ الخَلَنْجِي، وَاخْتَفَى هُوَ، ثُمَّ أُسِرَ هُوَ وَعِدَّة.
وفِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَتِسْعِيْنَ وَمائَتَيْنِ: أَخذ زكْرَوَيْه القِرْمِطي رَكْبَ العِرَاق، وَكُنَّ نسَاء العَرب يُجْهِزْنَ عَلَى الجرحَى، فيُقَال: قَتلُوا عِشْرِيْنَ أَلْفاً، وَأَخَذُوا مَا قيمتُه أَلْفَا أَلفِ دِيْنَار، وَوقع النَّوح فِي المدن، وَجَهَّزَ المكتفِي جيشاً لِحَرْبِهِ، فَلاَ تسأَل مَا فَعَلَ هَذَا الكَلْبُ بِالوَفْد! ثُمَّ التَقَوا فَقُتل عَامَّةُ أَصْحَاب زَكْرَوَيْه، وَأُسِرَ هُوَ وَعِدَّة، ثُمَّ مَاتَ مِنْ جِرَاحه، وَأُحْرِقَ هُوَ وَجَمَاعَة.
وفِي سَنَة خَمْسٍ وَتِسْعِيْنَ: كَانَ الفِدَاء بَيْنَ المُسْلِمِيْنَ وَالرُّوْم، فَافْتُكَّ نَحْو ثَلاَثَة آلاَف نَفَر.
(25/489)

وَمَاتَ المكتفِي شَابّاً: فِي سَابع ذِي القَعْدَةِ مِنَ السَّنَة.
ذَكَرَ أَبُو مَنْصُوْرَ الثعَالبِي، قَالَ: حَكَى إِبْرَاهِيْم بن نُوْح:
أَنَّ المكتفِي خَلَّف مِنَ الذَّهب مائَة أَلْف أَلف دِيْنَار، - هَكَذَا قَالَ وَهُوَ بعيد جِدّاً -.
قَالَ: وَخَلَّفَ ثَلاَثَة وَسِتِّيْنَ أَلْفَ ثَوْب، وَبُوْيِع بَعْدَهُ أَخُوْهُ المقتدر.
واسم أُمّ المكتفِي: جنجق التُّرْكية.
مَاتَ: فِي ثَالث عشر ذِي القَعْدَةِ، وَعَاشَ إِحْدَى وَثَلاَثِيْنَ سنَةً وَأَشهراً.
وَخلَّف مِنَ الأَولاَد: مُحَمَّداً، وَجَعْفَراً، وَالفَضْل، وَعَبْد اللهِ، وَعَبْد المَلِكِ، وَعبدَ الصَّمَدِ، وَمُوْسَى، وَعِيْسَى.
وَمَاتَ وَزيره القَاسِم بن عُبَيْدِ اللهِ بنِ سُلَيْمَانَ بنِ وَهْب: فِي ذِي القَعْدَةِ، سَنَة إِحْدَى وَتِسْعِيْنَ وَمائَتَيْنِ، فَوَزَرَ لَهُ العَبَّاس بن الحَسَنِ.
وَكَانَ عَلَى شُرْطَته مُؤْنس وَالوَاثقي ثُمَّ سُوسن مَوْلاَهُ وَحَاجِبه، وَعَلَى قَضَاء بَغْدَاد يُوْسُف بن يَعْقُوْبَ القَاضِي، وَابْنُهُ مُحَمَّد، وَأَبُو خَازم عبد الحمِيد، وَعَبْد اللهِ بن عَلِيِّ بنِ أَبِي الشَّوَارِبِ بَعْد أَبِي خَازم. (13/485)
(25/490)