العَبَّاسُ بنُ الحَسَنِ بنِ أَيُّوْبَ أَبُو أَحْمَدَ الجَرْجرَائِيُّ
 
الوَزِيْرُ الكَبِيْرُ، أَبُو أَحْمَدَ العَبَّاسُ بنُ الحَسَنِ بنِ أَيُّوْبَ بنِ سُلَيْمَانَ الجَرْجرَائِيُّ - وَقِيْلَ:المَادَرَائِيُّ - .
اخْتَصَّ بِالوَزِيْرِ القَاسِمِ بنِ عُبَيْدِ اللهِ، وَغَلَبَ عَلَيْهِ بِحُسْنِ حَرَكَاتِهِ وَآدَابِهِ وَبَلاَغَتِهِ وَخَطِّهِ.
فَلَمَّا احْتُضِرَ، أَوْصَى بِهِ المُكْتَفِي، فَاسْتَكْتَبَهُ، وَقَرَّبَهُ، وَأَقْطَعَهُ مَغَلَّ خَمْسِيْنَ أَلْفَ دِيْنَارٍ، وَأَجْرَى عَلَيْهِ فِي كُلِّ شَهْرٍ خَمْسَةَ آلاَفِ دِيْنَارٍ.
قَالَ الصُّوْلِيُّ:مَوْلِدُهُ لَيْلَةَ قَتْلِ المُتَوَكِّلِ، فَعَمِلَ لَهُ أَبُو مَعْشَرٍ مَوْلِداً، وَقَالَ:مَا أَعْجَبَ هَذَا الوَلَدِ!لَوْ كَانَ هَاشِمِيّاً، لَحَكَمْتُ لَهُ بِالخِلاَفَةِ، لَكِنْ أَحْكُمُ لَهُ بِالوَزَارَةِ.
قَالَ:وَلَمْ يَزَلْ فِي ارْتِقَاءٍ.
وَمَرِضَ المُكْتَفِي، فَأَوْصَى إِلَيْهِ فِي وَلَدِهِ وَأَهْلِهِ.
وَكَانَ ذَا كَرَمٍ وَتَحَرٍّ لِلْحَقِّ، كَانَ يَصِلُ إِلَيْهِ رِقَاعُ أَصْحَابِ الأَخْبَارِ فِي أَصْحَابِهِ، فَيَرْمِيهَا إِلَى أُوْلَئِكَ، وَيَضْحَكُ.
وَعَنِ القَاسِمِ الوَزِيْرِ:أَنَّهُ كَانَ يُعْجَبُ مِنْ سُرْعَةِ قَلَمِ العَبَّاسِ، وَيَقُوْلُ:تَسْبِقُ يَدُهُ لَفْظِي.
قَالَ الصُّوْلِيُّ:وَأَنَا مَا رَأَيْتُ أَسْرَعَ مِنْ يَدِهِ!
وَقِيْلَ:أَسَرَّ سِرّاً إِلَى حَمَّادِ بنِ إِسْحَاقَ، فَلَمَّا وَلِيَ، قَالَ:أَوْكِ وِعَاءَكَ، وَعَمِّ طَرِيْقَكَ.
فَقَالَ:نَسِيْتُ سِقَائِي فَكَيْفَ أُوْكِيْهِ؟وَضَلَلْتُ طَرِيقَهُ فَكَيْفَ أُعَمِّيْهِ؟
(27/51)

وَمِنْ شِعْرِهِ:
يَا قَاتِلِي بِالصُّدُودِ مِنْهُ، وَلَوْ*يَشَاءُ بِالوَصْلِ كَانَ يُحْيِيْنِي
وَمَنْ يَرَى مُهْجَتِي تَسِيلُ عَلَى*تَقْبِيلِ فِيْهِ وَلاَ يُوَاتِيْنِي
وَاحَرَبَى لِلْخِلاَفِ مِنْهُ، وَمِن*خَلاَئِقَ فِيكَ ذَاتِ تَلْوِينِ
طَيْفُكَ فِي هَجْعَتِي يُصَافِيْنِي*وَأَنْتَ مُسْتَيْقِظاً تُعَادِينِي(14/53)
قَالَ الصُّوْلِيُّ:اشتَدَّ كِبْرُ العَبَّاسِ وَجَبَرِيَّتُهُ، ثُمَّ مَاتَ المُكْتَفِي، فَأَمَرَّ العَبَّاسُ أَمرَ بَيْعَةِ المُقْتَدِرِ، وَمَلَكَ الأُمُورَ، وَعَلَّمَ النَّاسَ أَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يُرِيْدُ، فَتَفَرَّغُوا لَهُ، وَأَلحَقُوا بِهِ اللَّوْمَ، وَقَدْ أَشَارُوا عَلَيْهِ بِأَنْ يَخْتَارَ لِلْخِلاَفَةِ رَجُلاً مَهِيْباً، وَإِنْ أَقَمْتَ مَن لَمْ يَخَفْهُ، لَمْ يَخَفْكَ، وَيَطْلُبُ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْكَ زِيَادَةَ رِزْقٍ، فَإِنْ مَنَعْتَهُ عَادَاكَ.
فَكَانَ الأَمْرُ كَذَلِكَ، وَفَسَدَ النَّاسُ، وَهُوَ مَعَ هَذَا ثَقِيْلٌ عَلَى قَلْبِ المُقْتَدِرِ وَأُمِّهِ وَحَاشِيَتِهَا؛لِمَنْعِهِ لَهُمْ مِنْ أَشْيَاءَ.
وَكَانَ الحُسَيْنُ بنُ حَمْدَانَ الأَمِيْرُ يَزْعُمُ أَنَّ العَبَّاسَ دَسَّ مَنْ يُفْسِدُ جَارِيَتَهُ المُغَنِّيَةَ وَيُمَنِّيهَا، وَكَانَ ابْنُ حَمْدَانَ شَغِفاً بِهَا، وَكَانَ مُحَمَّدُ بنُ دَاوُدَ بنِ الجَرَّاحِ مُتَوَلِّي دِيْوَانَ الجَيْشِ، وَكَانَ الأُمَرَاءُ يُطِيعُونَهُ، فَشَغَبَهُم عَلَى العَبَّاسِ، وَوَاطَأَ مَنْ يَثِقُ بِهِ أَنَّهُ يُرِيْدُ أَنْ يُبَايِعَ ابْنَ المُعْتَزِّ، وَأَنَّ اِلمُقْتَدِرَ صَبِيٌّ.
(27/52)

وَكَانَ لأَحْمَدَ بنِ إِسْمَاعِيْلَ مَمْلُوْكٌ قَدْ عَتِبَ عَلَيْهِ، فَقَدَّمَ كِتَاباً إِلَى العَبَّاسِ، يُعْلِمُهُ أَنَّهُ رَاغِبٌ فِي الطَّاعَةِ، فَبَعَثَ يَعِدُهُ بِإِمرَةِ الأُمَرَاءِ - أَعنِي:المَمْلُوْكَ - فَسَارَ يُرِيْدُ الحَضْرَةَ فِي أَلْفَي فَارِسٍ، وَعَلِمَ العَبَّاسُ بِاضْطِرَابِ الأَمْرِ، فَقَالَ لَهُ المَرْزُبَانِيُّ عَلَى رُؤُوْسِ المَلأِ:أَعَزَّ اللهُ الوَزِيْرَ، اسْتَفْسَدْتَ مِثْلَ أَحْمَدَ بنِ إِسْمَاعِيْلَ لأَجْلِ مَمْلُوكِهِ بَارِس، وَلأَحْمَدَ أَلفُ غُلاَمٍ مِثْلُ بَارِس؟!
قَالَ:أَصْطَنِعُهُ، وَأُؤَمِّرُهُ، فَيَعْظُمَ؛أَمَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجِيراً لِخَدِيْجَةَ، ثُمَّ كَانَ مِنْهُ مَا رَأَيْتَ.
قَالَ الصُّوْلِيُّ:لَوْلاَ أَنَّ أَحْمَدَ بنَ طُوْمَارٍ سَمِعَ هَذَا مِنْهُ، مَا صَدَّقْتُ.
فَخَرَجَ الحُسَيْنُ بنُ حَمْدَانَ يَقُوْلُ:أَوَجَدْتَنِي حُجَّةً؟وَاللهِ لأَقْتُلَنَّكَ.
فَلَمَّا قَرُبَ بَارِس، خَافَ أَعدَاءُ العَبَّاسِ، فَعَزَمُوا عَلَى قَتْلِهِ فِي المَاءِ، فَرَكِبَ مَعَهُ أَمِيْرٌ فِي طَيَّارٍ، وَرَكِبَ عِدَّةٌ فِي طَيَّارَاتٍ، لِيَقُومُوا لَهُ، فَيَفْتِكُونَ بِهِ، فَبَدَرَ طَيَّارُهُ، فَسَبَقَ، وَخَفِيَ عَلَيْهِ عَزْمُهُم.(14/54)
وَكَانَ عَلِيُّ بنُ عِيْسَى الوَزِيْرُ يُخَوِّفُهُ القَتْلَ، وَخَاطَبَهُ ابْنُ الفُرَاتِ الوَزِيْرُ بِبَعْضِ ذَلِكَ، فَكَانَ يَسْتَهِينُ قَوْلَهُم، وَلاَ يَقْبَلُ نُصْحاً، وَيُدِلُّ بِهَيْبَتِهِ.
وَحَذَّرُوهُ مِنِ ابْنِ حَمْدَانَ، فَقَالَ:مَا أُؤَمِّلُ دَفْعَ مَا أَخَافُ إِلاَّ بِهِ بَعْدَ اللهِ.
وَحَدَثَ فِيْهِ كِبْرٌ لَمْ يَكُنْ، كَانَ يَرْكَبُ إِلَى بَابِ عَمَّارٍ، وَالقُوَّادُ وَالوُجُوهُ مُشَاةٌ، فَلاَ يَأْمُرُهُم بِرُكُوبٍ!وَذَلِكَ مَسَافَةٌ بَعِيْدَةٌ.
(27/53)

وَحَصَّنَ دَارَهُ، وَزَخْرَفَهَا، وَسَمَّاهَا:دَارَ السُّرُورِ، فَلَمَّا كَانَ فِي جُمَادَى الأُوْلَى سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِيْنَ وَمائَتَيْنِ، رَكِبَ المُقْتِدِرُ، وَرَجَعَ الوَزِيْرُ إِلَى دَارِهِ، فَسَارَ بَعْضُ العَازِمِينَ عَلَى الفَتْكِ بِهِ قُدَّامَهُ وَخَلْفَهُ، فَجَذَبَ ابْنُ حَمْدَانَ سَيْفَهُ، وَضَرَبَ الوَزِيْرَ، فَصَاحَ فَاتِكٌ المُعْتَضِدِيُّ:مَا هَذَا يَا كِلاَبُ؟!
فَضَرَبَهُ وَصِيْفُ بْنُ صُوَارتِكِيْنَ قَتَلَهُ، وَضَرَبَ ابْنُ كَيَغْلَغَ ابْنَهُ أَحْمَدَ فِي وَجْهِهِ، فَبَادَرَ الوَزِيْرُ، فَرَمَى نَفْسَهُ فِي بُسْتَانٍ، وَثَنَّى عَلَيْهِ عَبْدُ الغَفَّارِ، فَتَلِفَ، فَبَادَرَ حَاجِبُهُ مَنْصُوْرٌ سَوْقاً، فَلَحِقَ المُقْتَدِرَ، فَأَخْبَرَهُ، فَأَجَازَهُ صَافِي إِلَى دَاخِلِ الحَلَبَةِ، وَسَارَ الجَيْشُ حَوْلَ سُورِهَا، وَاجتَمَعَ الَّذِيْنَ وَثَبُوا بِالعَبَّاسِ، فَدَخَلُوا بَغْدَادَ، وَصَارُوا كُلُّهُم إِلَى دَارِ مُحَمَّدِ بنِ دَاوُدَ بنِ الجَرَّاحِ، فَرَكِبَ مَعَهُم، فَأَجْلَسُوهُ فِي دِسْتِ الوَزَارَةِ، وَجَاءَ ابْنُ المُعْتَزِّ، فَتَلَقَّاهُ الكُلُّ، وَسَلَّمُوا عَلَيْهِ بِالخِلاَفَةِ، وَمَضَوْا بِهِ إِلَى دَارِ سُلَيْمَانَ بنِ وَهَبٍ عِنْدَ المَغْرِبِ، وَنَهَبَتِ الجُنْدُ دَارَ العَبَّاسِ، وَأَحْرَقُوْهَا، وَأَخَذَ ابْنُ الجَرَّاحِ البَيْعَةَ، وَأُنْشِئَتِ الكُتُبُ إِلَى النُّوَابِ طُوْلَ اللَّيْلِ، فَصَلَّى بِهِمُ ابْنُ المُعْتَزِّ الصُّبْحَ، وَأَتَاهُ القُضَاةُ وَالكِبَارُ، وَنَفَّذُوا إِلَى المُقْتَدِرِ:أَنَّ المُرْتَضِي بِاللهِ - أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ - قَدْ أَمَّنَكَ، وَأَمَرَكَ بِلُزُوْمِ دَارِ ابْنِ طَاهِرٍ مَعَ أُمِّكَ وَجَوَارِيْكَ.
فَأَقبلَ رَسُوْلٌ خَادِمٌ مِنَ المُقْتَدِرِ، فَقَالَ:سَلاَمٌ عَلَيْكُم.
(27/54)

فَصَاحَ بِهِ ابْنُ الجَرَّاحِ وَالقُوَّادُ:سَلِّمْ عَلَى أَمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ.
فَقَالَ:أَنَا رَسُوْلٌ، فَإِنْ سَمِعْتُمْ، وَإِلاَّ انْصَرَفْتُ!(14/55)
قَالَ ابْنُ المُعْتَزِّ:هَاتِ.
قَالَ:إِنَّ أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ المُقْتَدِرَ يَقُوْلُ:ارْجِعْ إِلَى مَنْزِلِكَ، وَأَبْقِ عَلَى نَفْسِكَ وَدَمِكَ، فَإِنِّي أُؤَمِّنُكَ، وَأُسَسِّي إِقْطَاعَكَ، فَلاَ تُلْهِبْ نَارَ الفِتْنَةِ.
فَقَالَ لِلْخَادِمِ:قُلْ لِمَولاَكَ يَا بُنَيَّ:هَذَا كِتَابِي إِلَيْكَ، فَاقْرَأْهُ، وَامْتَثِلْ مَا أَمَرْتُكَ فِيْهِ.
فَانْصَرَفَ الخَادِمُ بِالكِتَابِ، وَأَمَرَ ابْنُ المُعْتَزِّ ابْنَ حَمْدَانَ وَابْنَ عَمْرُوَيْه أَنْ يَصِيرَا إِلَى دَارِ المُقْتَدِرِ، فَبَرَزَ المَمَالِيْكُ المُقْتَدِرِيَّةُ، عَلَيْهِم مُؤْنِسٌ الخَادِمُ، وَغَرِيْبٌ الخَالُ، وَمُؤْنِسٌ الخَازِنُ، وَبَذَلُوا الأَمْوَالَ، فَالتَقَوْا هُمْ وَحِزْبُ ابْنِ المُعْتَزِّ، وَأَقْبَلَ ابْنُ حَمْدَانَ إِلَى بَابِ الحَلَبَةِ، فَرَمَتْهُ الأَترَاكُ، فَتَحَرَّجَ، وَانْهَزَمَ، وَرَمَتِ العَامَّةُ أَصْحَابَ ابْنِ المُعْتَزِّ مِنَ الأَسْطِحَةِ، فَضَجَّ أَصْحَابُ المُقْتَدِرِ، وَارْتَفَعَ التَّكْبِيرُ، وَقَصَدُوا ابْنَ المُعْتَزِّ، فَهَرَبَ مِنْ دَارِ ابْنِ وَهْبٍ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ يُرِيدُوْنَ سَامَرَّاءَ.
قَالَ عُبَيْدُ اللهِ بنُ أَبِي طَاهِرٍ:ضَرَبَ ابْنُ حَمْدَانَ العَبَّاسَ، فَطَيَّرَ قَحْفَ رَأْسِهِ، ثُمَّ ثَنَّاهُ، فَسَقَطَ، ثُمَّ قَطَّعُوهُ.
وَقِيْلَ:شَدَّ مَمْلُوكُهُ عَلَى ابْنِ حَمْدَانَ، فَأَشَارَ ابْنُ حَمْدَانَ إِلَى خَاتَمٍ فِي يَدِهِ، وَقَالَ:هَذَا خَاتَمُ أَمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ، أَمَرَنِي بِقَتْلِ العَبَّاسِ.
فَكَفَّ المَمْلُوْكُ عَنْهُ.
وكَانَتْ وِزَارَةُ العَبَّاسِ أَرْبَعِ سِنِيْنَ وَنِصْفاً، وَعَاشَ نَيِّفاً وَأَرْبَعِيْنَ سَنَةً.
قُلْتُ:ثُمَّ اسْتَقَامَ أَمَرُ المُقْتَدِرِ، وَأَمْسَكَ جَمَاعَةً، وَأُهلِكُوا، وَعَفَا عَنِ الحُسَيْنِ بنِ حَمْدَانَ، وَاسْتَوْزَرَ ابْنَ الفُرَاتِ، وَقُتِلَ ابْنُ المُعْتَزِّ.(14/56)
(27/55)