الحَلاَّجُ الحُسَيْنُ بنُ مَنْصُوْرِ بنِ مَحْمِيٍّ ت
 
دَمَهُ، فَلْيَحْضُرْ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الصَّمَدِ صَاحِبُ الشُّرطَةِ، وَيَتَقَدَّمْ بِتَسلِيمِهِ وَضَربِهِ أَلفَ سَوْطٍ، فَإِنْ هَلَكَ، وَإِلاَّ ضُرِبَتْ عُنُقُه.
فَسُرَّ حَامِدٌ، وَأَحضَرَ صَاحِبَ الشُّرطَةِ، وَأَقرَأَه ذَلِكَ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ بِتَسْلِيمِ الحَلاَّجِ، فَامْتَنَعَ، وَذَكَرَ أَنَّهُ يَتَخَوَّفُ أَنْ يُنْتَزَعَ مِنْهُ.
فَبَعَثَ مَعَهُ غِلمَانَهُ حَتَّى يُصَيِّرُوهُ إِلَى مَجْلِسِه، وَوَقَعَ الاتِّفَاقُ عَلَى أَنْ يُحْضَرَ بَعْدَ عِشَاءِ الآخِرَةِ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِه، وَقَوْمٌ عَلَى بِغَالٍ مُوكفَةٍ مَعَ سُيَّاسٍ، فَيُحمَلَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا، وَيُدخَلَ فِي غِمَارِ القَوْمِ.
وَقَالَ حَامِدٌ لَهُ:إِنْ قَالَ لَكَ:أُجرِي لَكَ الفُرَاتَ ذَهَباً، فَلاَ تَرفَعْ عَنْهُ الضَّربَ.
فلَمَّا كَانَ بَعْدَ العِشَاءِ، أَتَى مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الصَّمَدِ إلى حَامِدٍ، وَمَعَهُ الرِّجَالُ وَالبِغَالُ، فَتَقَدَّمَ إِلَى غِلمَانِهِ بِالرُّكوبِ مَعَهُ إِلَى دَارِه، وَأَخرجَ لَهُ الحَلاَّجَ، فَحكَى الغُلاَمُ:أَنَّهُ لَمَّا فَتَحَ البَابَ عَنْهُ وَأَمرَه بِالخُرُوجِ، قَالَ:مَنْ عِنْدَ الوَزِيْرِ؟
(27/386)

قَالَ:مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الصَّمَدِ.(14/341)
قَالَ:ذَهبنَا وَاللهِ.
وَأُخرجَ، فَأُركبَ بَغلاً، وَاختلطَ بِجُمْلَةِ السَّاسَةِ، وَركبَ غِلمَانُ حَامِدٍ حَوْلَهُ حَتَّى أَوْصَلُوهُ، فَبَاتَ عِنْدَ ابْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ، وَرِجَالُه حولَ المَجْلِسِ.
فَلَمَّا أَصْبَحَ، أُخرجَ الحَلاَّجُ إِلَى رَحْبَةِ المَجْلِسِ، وَأَمرَ الجلاَّدَ بِضَرْبِه، وَاجْتَمَعَ خَلاَئِقُ، فَضُرِبَ تَمَامَ أَلفِ سوطٍ، وَمَا تَأَوَّهَ، بَلَى لَمَّا بَلغَ سِتَّ مائَةِ سَوْطٍ، قَالَ لاِبْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ:ادْعُ بِي إِلَيْكَ، فَإِنَّ عِنْدِي نَصيحَةً تَعدِلُ فتحَ قُسْطَنْطِيْنِيَّةَ.
فَقَالَ لَهُ مُحَمَّدٌ:قَدْ قِيْلَ لَي:إِنَّك سَتَقُولُ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْ هَذَا، وَلَيْسَ إِلَى رَفعِ الضَّربِ سَبِيْلٌ.
ثمَّ قُطِعَتْ يَدُه، ثُمَّ رِجلُه، ثُمَّ حُزَّ رَأْسُه، وَأُحرِقَتْ جُثَّتُه.
وَحَضَرتُ فِي هَذَا الوَقْتِ رَاكِباً وَالجُثَّةُ تُقلَّبُ عَلَى الجمرِ، وَنُصبَ الرَّأْسُ يَوْمِيْنِ بِبَغْدَادَ، ثُمَّ حُمِلَ إِلَى خُرَاسَانَ، وَطيفَ بِهِ.
وَأَقبلَ أَصْحَابُه يَعِدُوْنَ أَنفسَهُم برُجُوعِه بَعْدَ أَرْبَعِيْنَ يَوْماً.
وَاتَّفَقَ زِيَادَةُ دِجْلَةَ تِلْكَ السَّنَّةَ زِيَادَةً فِيْهَا فضلٌ، فَادَّعَى أَصْحَابُه أَنَّ ذَلِكَ بِسَبِبِهِ، لأَنَّ رَمَادَهُ خَالطَ المَاءَ.
وَزعمَ بَعْضُهُم:أَنَّ المَقْتُولَ عدوٌّ لِلْحلاَّجِ أُلقيَ عَلَيْهِ شبهُه.
وَادَّعَى بَعْضُهُم أَنَّهُ - فِي ذَلِكَ اليَوْمِ بَعْدَ قَتلِهِ - رَآهُ رَاكباً حِمَاراً فِي طَرِيْقِ النَّهْرَوَانِ، وَقَالَ:لَعلَّكُم مِثْلَ هَؤُلاَءِ البقرِ الَّذِيْنَ ظنُّوا أَنِّي أَنَا المضروبُ المَقْتُولُ.
وَزعمَ بَعْضُهُم أَنَّ دَابَّةً حُوِّلَتْ فِي صُورتِه.
(27/387)

وَأُحضرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الورَّاقينَ، فَأُحلِفُوا أَنْ لاَ يَبيعُوا مِنْ كُتبِ الحَلاَّجِ شَيْئاً وَلاَ يَشتروهَا.(14/342)
عَنْ فَارِسٍ البَغْدَادِيِّ، قَالَ:قُطعتْ أَعضَاءُ الحَلاَّجِ وَمَا تَغيَّرَ لَونُه.
وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ العَطُوفِيِّ، قَالَ:قُطعتْ يَدَا الحَلاَّجِ وَرِجْلاَهُ، وَمَا نَطَقَ.
السُّلَمِيُّ:سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ عَبْدِ اللهِ بنِ شَاذَانَ:سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ عَلِيٍّ الكَتَّانِيَّ يَقُوْلُ:
سُئِلَ الحَلاَّجُ عَنِ الصَّبرِ، فَقَالَ:أَنْ تُقطعَ يَدَا الرَّجُلِ وَرجلاَهُ، وَيُسمَّرَ وَيُصلَبَ عَلَى هَذَا الجِسْرِ.
قَالَ:فَفُعِلَ بِهِ كُلُّ ذَلِكَ.
وَعَنْ أَبِي العَبَّاسِ بنِ عَبْدِ العَزِيْزِ - رَجُلٍ مَجْهُوْلٍ - قَالَ:
كُنْتُ أَقربَ النَّاسِ مِنَ الحَلاَّجِ حِيْنَ ضُربَ، فَكَانَ يَقُوْلُ مَعَ كُلِّ سَوطٍ:أَحَدٌ أَحَدٌ.
السُّلَمِيُّ:سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بنَ عَلِيٍّ:سَمِعْتُ عِيْسَى القَصَّارَ يَقُوْلُ:
آخرُ كلمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا الحُسَيْنُ بنُ مَنْصُوْرٍ عِنْد قَتلِه:حَسبُ الوَاحِدِ إِفرَادُ الوَاحِدِ لَهُ.
فَمَا سَمِعَ بِهَذِهِ الكَلِمَةِ فَقِيْرٌ إِلاَّ رَقَّ لَهُ، وَاسْتَحْسَنَهَا مِنْهُ.
قَالَ السُّلَمِيُّ:وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ رُؤيَ وَاقفاً فِي الموقفِ، وَالنَّاسُ فِي الدُّعَاءِ، وَهُوَ يَقُوْلُ:أُنزِّهك عَمَّا قَرَفَكَ بِهِ عبَادُك، وَأَبرأُ إِلَيْكَ مِمَّا وَحَّدكَ بِهِ الموحِّدُوْنَ.(14/343)
قُلْتُ:هَذَا عينُ الزَّنْدَقَةِ، فَإِنَّهُ تَبَرَّأَ مِمَّا وَحَّدَ اللهَ بِهِ الموحِّدُوْنَ الَّذِيْنَ هُمُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابعُوْنَ وَسَائِرُ الأُمَّةِ، فَهَلْ وَحَّدُوهُ تَعَالَى إِلاَّ بِكلمَةِ الإِخْلاَصِ التِي قَالَ رَسُوْلُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :(مَنْ قَالَهَا مِنْ قَلْبِهِ، فَقَدْ حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ).
(27/388)

وَهِيَ:شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُوْلُ اللهِ.
فَإِذَا برِئَ الصُّوْفِيُّ مِنْهَا، فَهُوَ ملعُوْنٌ زِنْدِيْقٌ، وَهُوَ صُوفِيُّ الزَّيِّ وَالظَّاهِرِ، مُتستِّرٌ بِالنَّسَبِ إِلَى العَارفينَ، وَفِي البَاطنِ فَهُوَ مِنْ صُوفيَّةِ الفَلاَسِفَةِ أَعدَاءِ الرُّسُلِ، كَمَا كَانَ جَمَاعَةٌ فِي أَيَّامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منتسبُوْنَ إِلَى صُحْبَتِهِ وَإِلَى ملَّتِهِ، وَهُم فِي البَاطنِ مِنْ مَرَدَةِ المُنَافقينَ، قَدْ لاَ يَعْرِفُهُم نَبِيُّ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلاَ يَعْلَمُ بِهِم.
(27/389)

قَالَ الله - تَعَالَى - :{وَمِنْ أَهْلِ المَدِيْنَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ، لاَ تَعْلَمُهُمْ، نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ، سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} [التَّوبَةُ:101]، فَإِذَا جَازَ عَلَى سَيِّدِ البشرِ أَنْ لاَ يَعْلَمَ ببَعْضِ المُنَافِقينَ وَهُم مَعَهُ فِي المَدِيْنَةِ سنوَاتٍ، فَبِالأَوْلَى أَنْ يَخفَى حَالُ جَمَاعَةٍ مِنَ المُنَافِقينَ الفَارغينَ عَنْ دينِ الإِسْلاَمِ بَعْدَهُ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - عَلَى العُلَمَاءِ مِنْ أُمَّتِه، فَمَا يَنْبَغِي لَكَ يَا فَقِيْهُ أَنْ تُبَادرَ إِلَى تكفيرِ المُسْلِمِ إِلاَّ ببُرْهَانٍ قَطعِيٍّ، كَمَا لاَ يسوَغُ لَكَ أَنْ تعتقدَ العِرفَانَ وَالوِلاَيَةَ فِيْمَنْ قَدْ تَبرهنَ زَغَلُهُ، وَانْهَتَكَ بَاطنُهُ وَزَنْدَقَتُه، فَلاَ هَذَا وَلاَ هَذَا، بَلِ العَدلُ أَنَّ مَنْ رَآهُ المُسْلِمُوْنَ صَالِحاً مُحسِناً، فَهُوَ كَذَلِكَ، لأَنَّهُم شهدَاءُ اللهِ فِي أَرضِهِ، إِذِ الأُمَّةُ لاَ تَجتمعُ عَلَى ضَلاَلَةٍ، وَأَنَّ مَنْ رَآهُ المُسْلِمُوْنَ فَاجراً أَوْ مُنَافقاً أَوْ مُبْطِلاً، فَهُوَ كَذَلِكَ، وَأَنَّ مَنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنَ الأُمَّةِ تُضَلِّلُه، وَطَائِفَةٌ مِنَ الأُمَّةِ تُثْنِي عَلَيْهِ وَتبجِّلُهُ، وَطَائِفَةٌ ثَالثَةٌ تقِفُ فِيْهِ وَتتورَّعُ مِنَ الحطِّ عَلَيْهِ، فَهُوَ مِمَّنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَضَ عَنْهُ، وَأَنْ يفوَّضَ أَمرُه إِلَى اللهِ، وَأَنَّ يُسْتَغْفَرَ لَهُ فِي الجُمْلَةِ؛لأَنَّ إِسْلاَمَهُ أَصْليٌّ بيقينٍ، وضلالُه مشكوكٌ فِيْهِ، فَبِهَذَا تَسْتريحُ، وَيصفُو قَلْبُكَ مِنَ الغِلِّ لِلْمُؤْمِنينَ.(14/344)
(27/390)

ثمَّ اعْلمْ أَنَّ أَهْلَ القِبْلَةِ كلَّهُم، مُؤْمِنَهُم وَفَاسقَهُم، وَسُنِّيَهُم وَمُبْتَدِعَهُم - سِوَى الصَّحَابَةِ - لَمْ يُجمعُوا عَلَى مُسْلِمٍ بِأَنَّهُ سَعِيْدٌ نَاجٍ، وَلَمْ يُجمعُوا عَلَى مُسْلِمٍ بِأَنَّهُ شقيٌّ هَالكٌ، فَهَذَا الصِّدِّيقُ فردُ الأُمَّةِ، قَدْ علمتَ تَفَرُّقَهُم فِيْهِ، وَكَذَلِكَ عُمَرُ، وَكَذَلِكَ عُثْمَانُ، وَكَذَلِكَ عَلِيٌّ، وَكَذَلِكَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَكَذَلِكَ الحجَّاجُ، وَكَذَلِكَ المَأْمُوْنُ، وَكَذَلِكَ بشرٌ المَرِيسِيُّ، وَكَذَلِكَ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالبُخَارِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَهَلُمَّ جَرّاً مِنَ الأَعيَانِ فِي الخَيْرِ وَالشَّرِّ إِلَى يَوْمكَ هَذَا، فَمَا مِنْ إِمَامٍ كَامِلٍ فِي الخَيْرِ، إِلاَّ وَثَمَّ أُنَاسٌ مِنْ جهلَةِ المُسْلِمِيْنَ وَمُبْتَدِعِيهِم يذمُّونَه، وَيحطُّونَ عَلَيْهِ، وَمَا مِنْ رَأْسٍ فِي البدعَةِ وَالتَّجَهُّمِ وَالرَّفضِ إِلاَّ وَلَهُ أُنَاسٌ يَنْتصرُوْنَ لَهُ، وَيَذُبُّونَ عَنْهُ، وَيدينُوْنَ بِقَولِه بِهوَىً وَجهلٍ، وَإِنَّمَا العِبْرَةُ بِقَولِ جُمْهُوْرِ الأُمَّةِ الخَالينَ مِنَ الهوَى وَالجَهْلِ، المتَّصِفِينَ بِالوَرَعِ وَالعِلْمِ، فَتَدبّرْ - يَا عَبْدَ اللهِ - نحْلَةَ الحَلاَّجِ الَّذِي هُوَ مِنْ رُؤُوْسِ القرَامِطَةِ، وَدعَاةِ الزَّنْدَقَةِ، وَأَنِصْفْ، وَتَوَرَّعْ، وَاتَّقِ ذَلِكَ، وَحَاسِبْ نَفْسكَ، فَإِنْ تبرهَنَ لَكَ أَنَّ شَمَائِلَ هَذَا المَرْءِ شَمَائِلُ عدوٍّ لِلإِسْلاَمِ، مُحبٍّ للرِّئاسَةِ، حريصٍ عَلَى الظُهُوْرِ بباطلٍ وَبحقٍّ، فَتبرَّأْ مِنْ نِحْلتِه، وَإِنْ تبرهنَ لَكَ - وَالعيَاذُ بِاللهِ - أَنَّهُ كَانَ - وَالحَالَةِ هَذِهِ - مُحقّاً هَادِياً مهدِيّاً، فَجِدِّدْ إِسْلاَمَكَ، وَاسْتغثْ بربِّكَ أَنْ يُوَفِّقَكَ لِلْحقِّ، وَأَنْ يُثَبِّتَ قَلْبَكَ عَلَى دِيْنِهِ، فَإِنَّمَا
(27/391)

الهُدَى نُورٌ يقذِفُهُ اللهُ فِي قلبِ عبدِه المُسْلِمِ، وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ، وَإِن شككتَ وَلَمْ تَعْرِفْ حقيقتَه، وَتبرَّأَتَ مِمَّا رُمِي بِهِ، أَرحتَ نَفْسكَ، وَلَمْ يَسْأَلْكَ اللهُ عَنْهُ أَصلاً.(14/345)
السُّلَمِيُّ:سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ أَحْمَدَ بنِ الحَسَنِ الوَرَّاقَ:سَمِعْتُ إِبْرَاهِيْمَ بنَ عَبْدِ اللهِ القلاَنسِيَّ الرَّازِيَّ يَقُوْلُ:
لَمَّا صُلبَ الحَلاَّجُ - يَعْنِي:فِي النَّوبَةِ الأُوْلَى - وَقفتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ:إِلَهِي!أَصبحتُ فِي دَارِ الرَّغَائِبِ أَنظرُ إِلَى العَجَائِبِ، إِلَهِي!إِنَّك تَتَوَدَّدُ إِلَى مَنْ يُؤذيكَ، فَكَيْفَ لاَ تَتَوَدَّدُ إِلَى مَنْ يُؤذَى فِيكَ.(14/346)
السُّلَمِيُّ:سَمِعْتُ أَبَا العَبَّاسِ الرَّازِيَّ يَقُوْلُ:كَانَ أَخِي خَادِماً لِلْحلاَّجِ، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ التِي يُقتلُ فِيْهَا مِنَ الغَدِ، قُلْتُ:أَوصِنِي يَا سَيِّدِي.
فَقَالَ:عَلَيْكَ نَفْسَكَ، إِنْ لَمْ تَشغلْهَا شَغَلَتْكَ.
فَلَمَّا أُخرجَ، كَانَ يَتبخترُ فِي قَيْدِه، وَيَقُوْلُ:
نَدِيْمِي غَيْرُ مَنْسُوبٍ*إِلَى شَيْءٍ مِنَ الحَيْفِ
سَقَانِي مِثْلَ مَا يَشْرَ*بُ فِعْلَ الضَّيْفِ بِالضَّيْفِ
فَلَمَّا دَارَتِ الكَأْسُ*دَعَا بِالنِّطْعِ وَالسَّيْفِ
كَذَا مَنْ يَشْرَبُ الكَأْسَ*مَعَ التِّنِّينِ فِي الصَّيْفِ
ثُمَّ قَالَ:{يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِيْنَ لاَ يُؤمنُوْنَ بِهَا، وَالَّذِيْنَ آمنُوا مُشْفِقُوْنَ مِنْهَا، وَيَعْلَمُوْنَ أَنَّهَا الحَقُّ} [الشُّوْرَى:18]، ثُمَّ مَا نطقَ بَعْدُ.
وَلهُ أَيْضاً:
يَا نَسِيمَ الرِّيْحِ قُوْلِي للرَّشَا:*لَمْ يَزِدْنِي الوَرْدُ إِلاَّ عَطَشَا
رُوحُهُ رُوحِي وَرُوحِي فَلَهُ*إِنْ يَشَا شِئْتُ، وَإِنْ شِئْتُ يَشَا
(27/392)

وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بنُ حَيُّوْيَه:لَمَّا أُخرجَ الحَلاَّج لِيُقتلَ، مَضَيتُ وَزَاحمتُ حَتَّى رَأَيْتهُ، فَقَالَ لأَصْحَابِهِ:لاَ يُهْولنَّكُم، فَإِنِّي عَائِدٌ إِلَيْكُم بَعْدَ ثَلاَثِيْنَ يَوْماً.
فَهَذِهِ حِكَايَةٌ صَحِيْحَةٌ تُوضِّحُ لَكَ أَنَّ الحَلاَّجَ مُمَخْرِقٌ كَذَّابٌ، حَتَّى عِنْدَ قتلِه.
وَقِيْلَ:إِنَّهُ لَمَّا أُخرجَ لِلْقتلِ، أَنْشَدَ:
طَلَبْتُ المُسْتَقَرَّ بِكُلِّ أَرْضِ*فَلَمْ أَرَ لِي بِأَرْضٍ مُسْتَقَرَّا
أَطَعْتُ مَطَامِعِي فَاسْتَعْبَدَتَنِي*وَلَوْ أَنِّي قَنَعْتُ لَكُنْتُ حُرّاً
قَالَ أَبُو الفَرَجِ ابْنُ الجَوْزِيِّ:جَمعتُ كِتَاباً سَمَّيْتُه:(القَاطِعُ بِمحَال المُحَاج بِحَالِ الحَلاَّجِ).(14/347)
وَبلغَ مِنْ أَمرِه أَنَّهُم قَالُوا:إِنَّهُ إِلهٌ، وَإِنَّهُ يُحْيَي المَوْتَى.
قَالَ الصُّوْلِيُّ:أَوَّلُ مَنْ أَوقعَ بِالحَلاَّجِ الأَمِيْرُ أَبُو الحُسَيْنِ عَلِيُّ بنُ أَحْمَدَ الرَّاسِبِيُّ، وَأَدخلَه بَغْدَادَ وَغُلاَماً لَهُ عَلَى جَمَلَينِ قَدْ شَهَرَهُمَا فِي سَنَةِ إِحْدَى وَثَلاَثِ مائَةٍ، وَكَتَبَ مَعَهُمَا كِتَاباً:إِنَّ البيِّنَةَ قَامتْ عِنْدِي أَنَّ الحَلاَّجَ يَدَّعِي الرُّبوبيَّةَ وَيَقُوْلُ بالحلولِ، فَحُبسَ مُدَّةً.
قَالَ الصُّوْلِيُّ:قِيْلَ:إِنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ أَمرِهِ يدعُو إِلَى الرِّضَى مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ، وَكَانَ يُرِي الجَاهِلَ أَشيَاءً مِنْ شَعْبَذَتِهِ، فَإِذَا وَثقَ مِنْهُ، دَعَاهُ إِلَى أَنَّهُ إِلهٌ.
(27/393)

وَقِيْلَ:إِنَّ الوَزِيْرَ حَامِداً وَجدَ فِي كُتُبِه:إِذَا صَامَ الإِنْسَانُ وَوَاصلَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَأَفطرَ فِي رَابعِ يَوْمٍ عَلَى وَرقَاتِ هِنْدَبا، أَغنَاهُ عَنْ صومِ رَمَضَانَ، وَإِذَا صَلَّى فِي لَيْلَةٍ رَكْعَتَيْنِ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ إِلَى الغدَاةِ، أَغنتْه عَنِ الصَّلاَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِذَا تَصدَّقَ بكذَا وَكَذَا، أَغنَاهُ عَنِ الزَّكَاةِ.
ذَكرَ ابْنُ حَوقلٍ، قَالَ:ظَهرَ مِنْ فَارس الحَلاَّج يَنْتحلُ النُّسكَ وَالتَّصَوُّفَ، فَمَا زَالَ يترقَّى طَبقاً عَنْ طَبَقٍ حَتَّى آلَ بِهِ الحَالُ إِلَى أَنْ زَعَمَ:أَنَّهُ مَنْ هَذَّبَ فِي الطَّاعَةِ جِسمَه، وَشغلَ بِالأَعمَالِ قلبَه، وَصبرَ عَنِ اللَّذَّاتِ، وَامْتَنَعَ مِنَ الشَّهَوَاتِ، يَتَرَقَّ فِي درجِ المصَافَاةِ، حَتَّى يصفُوَ عَنِ البشريَةِ طَبعُه، فَإِذَا صَفَا، حَلَّ فِيْهِ روحُ اللهِ الَّذِي كَانَ مِنْهُ إِلَى عِيْسَى، فَيَصِيْرُ مُطَاعاً، يَقُوْلُ لِلشَّيءِ:كُنْ، فَيَكُوْنُ.
فَكَانَ الحَلاَّجُ يتعَاطَى ذَلِكَ، وَيدعُو إِلَى نَفْسِهِ، حَتَّى اسْتمَال جَمَاعَةً مِنَ الأُمَرَاءِ وَالوُزَرَاءِ وَمُلُوْكِ الجَزِيْرَة وَالجِبَالِ وَالعَامَّةِ، وَيُقَالُ:إِنَّ يَدهُ لَمَّا قُطعتْ، كَتبَ الدَّمُ عَلَى الأَرْضِ:الله الله.
قُلْتُ:مَا صَحَّ هَذَا، وَيُمكنُ أَنْ يَكُوْنَ هَذَا مِنْ فِعلِه بِحركَةِ زَنْدِه.(14/348)
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ عَلِيٍّ الصُّوْرِيُّ، الحَافِظُ:سَمِعْتُ إِبْرَاهِيْمَ بنَ مُحَمَّدِ بنِ جَعْفَرٍ البَزَّازَ يَقُوْلُ:سَمِعْتُ أَبَا مُحَمَّدٍ اليَاقوتِيَّ يَقُوْلُ:
رَأَيْتُ الحَلاَّجَ عِنْد الجِسْرِ عَلَى بقرَةٍ، وَوجهُهُ إِلَى ذَنَبِهَا، فَسَمِعْتُهُ يَقُوْلُ:مَا أَنَا الحَلاَّجُ، أَلقَى الحَلاَّجُ شَبَهَهُ عَلَيَّ وَغَابَ.
(27/394)

فَلَمَّا أُدنِيَ مِنَ الخشبَةِ التِي يُصلَبُ عَلَيْهَا، سَمِعْتُهُ يَقُوْلُ:
يَا مُعِيْنَ الضَّنَّا عَلَيَّ أَعنِي عَلَى الضَّنَّا*
قَالَ أَبُو الحُسَيْنِ بنُ سَالِمٍ:جَاءَ رَجُلٌ إِلَى سَهْلِ بنِ عَبْدِ اللهِ، وَبِيَدِهِ محبرَةٌ وَكِتَابٌ، فَقَالَ لسهلٍ:أَحْبَبْتُ أَنْ أَكتبَ شَيْئاً ينفعُنِي اللهُ بِهِ.
فَقَالَ:اكتبْ:إِنِ اسْتطعتَ أَنْ تلقَى اللهَ وَبيدكَ المحبرَةُ، فَافعلْ.
فَقَالَ:يَا أَبَا مُحَمَّدٍ!فَائِدَةٌ.
فَقَالَ:الدُّنْيَا كُلُّهَا جهلٌ، إِلاَّ مَا كَانَ عِلْماً، وَالعِلْمُ كُلُّه حُجَّةٌ، إِلاَّ مَا كَانَ عَمَلاً، وَالعَملُ مَوْقُوْفٌ، إِلاَّ مَا كَانَ عَلَى السُّنَّةِ، وَتقومُ السُّنَّةُ علَى التَّقْوَى.
وَعَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ المُرْتَعِشِ، قَالَ:مَنْ رَأَيْتهُ يَدَّعِي حَالاً مَعَ اللهِ باطنَةً، لاَ يَدُلُّ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْهَدُ لَهَا حِفظٌ ظَاهِرٌ، فَاتَّهِمْهُ عَلَى دِيْنِهِ.
قِيْلَ:إِنَّ الحَلاَّجَ كَتَبَ مَرَّةً إِلَى أَبِي العَبَّاسِ بنِ عَطَاءٍ:
كَتَبْتُ وَلَمْ أَكْتُبْ إِلَيْكَ وَإِنَّمَا*كَتَبْتُ إِلَى رُوْحِي بِغَيْرِ كِتَابِ
وَذَاكَ لأَنَّ الرُّوحَ لاَ فَرْقَ بَيْنَهَا*وَبَيْنَ مُحبِّيهَا بِفصلِ خِطَابِ
فُكُلُّ كِتَابٍ صَادرٍ مِنْكَ وَاردٍ*إِلَيْكَ بِلاَ رَدِّ الجَوَابِ جَوَابِي
وَقَدْ ذَكَرَ الحَلاَّجَ أَبُو سَعِيْدٍ النَّقَّاشُ فِي(طَبَقَاتِ الصُّوْفِيَّةِ)لَهُ، فَقَالَ:مِنْهُم مَنْ نَسَبَه إِلَى الزَّنْدَقَةِ، وَمِنْهُم مِنْ نَسَبهُ إِلَى السِّحرِ وَالشَّعْوذَةِ.(14/349)
وَقفتُ عَلَى تَأْلِيْفِ أَبِي عَبْدِ اللهِ بنِ بَاكويه الشيرَازيِّ فِي حَالِ الحَلاَّجِ، فَقَالَ:حَدَّثَنِي حَمدُ بنُ الحَلاَّجِ:
(27/395)

أَنَّ نَصراً القُشُورِيَّ لَمَّا اعتُقِلَ أَبِي، اسْتَأَذنَ المُقْتَدِر أَنْ يَبنِيَ لَهُ بَيْتاً فِي الحَبْسِ، فَبنَى لَهُ دَاراً صَغِيْرَةً بجنبِ الحَبْسِ، وَسدُّوا بَابَ الدَّارِ، وَعملُوا حوَالِيه سُوراً، وَفَتحُوا بَابَه إِلَى الحَبْسِ، وَكَانَ النَّاسُ يَدْخُلُوْنَ عَلَيْهِ سنَةً، ثُمَّ مُنعُوا، فَبقيَ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ لاَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ أَحَدٌ إِلاَّ مرَّةً رَأَيْتُ أَبَا العَبَّاسِ بنَ عَطَاءٍ دَخَلَ عَلَيْهِ بِالحِيْلَةِ، وَرَأَيْتُ مرَّةً أَبَا عَبْدِ اللهِ بنَ خَفيفٍ وَأَنَا بَرّاً عِنْد وَالدِي، ثُمَّ حَبَسُونِي مَعَهُ شَهْرَيْنِ، وَلِي يَوْمَئِذٍ ثَمَانيَةَ عَشَرَ عَاماً، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ التِي أُخرجَ مِنْ صَبِيْحَتهَا، قَامَ، فَصَلَّى ركعَاتٍ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَقُوْلُ:مَكْرٌ مَكْرٌ، إِلَى أَنْ مَضَى أَكْثَرُ اللَّيْلِ.
ثُمَّ سَكتَ طَوِيْلاً، ثُمَّ قَالَ:حَقٌّ حَقٌّ، ثُمَّ قَامَ قَائِماً وَتَغَطَّى بِإِزَارٍ، وَاتَّزرَ بِمئزرٍ، وَمدَّ يَدَيْهِ نَحْوَ القِبْلَةِ، وَأَخَذَ فِي المنَاجَاةِ يَقُوْلُ:نَحْنُ شوَاهدُك نَلُوذُ بِسَنَا عِزَّتك، لِتبديَ مَا شِئْت مِنْ مَشِيئتِكَ، أَنْتَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلهٌ، يَا مُدهِّرَ الدُّهورِ، وَمُصوِّرَ الصُّوَرِ، يَا مَنْ ذَلَّت لَهُ الجَوَاهِرُ، وَسَجَدتْ لَهُ الأَعْرَاضُ، وَانعقدَتْ بِأَمرِه الأَجسَامُ، وَتَصَوَّرتْ عِنْدَهُ الأَحْكَامُ، يَا مَنْ تَجَلَّى لِمَا شَاءَ، كَمَا شَاءَ، كَيْفَ شَاءَ، مِثْلَ التَجَلِّي فِي المَشِيْئَةِ لأَحسن الصُّورَةِ.
وَفِي نُسْخَةٍ:مِثْلُ تَجَلِّيكَ فِي مَشيئتكَ كَأَحسنِ الصُّورَةِ.
وَالصُّورَةُ هِيَ الرُّوحُ النَّاطقَةُ الَّتِي أَفردتْهُ بِالعِلْمِ وَالبيَانِ وَالقُدرَةِ.
(27/396)

ثُمَّ أَوعزتَ إِلَيَّ شَاهدَكَ لأَنِي فِي ذَاتِكَ الهُوِيِّ لَمَّا أَردتَ بدَايتِي، وَأَبديتَ حَقَائِقَ عُلُوْمِي وَمُعجزَاتِي، صَاعِداً فِي مَعَارجِي إِلَى عروشِ أَوليَائِي عِنْد القَوْلِ مِنْ بريَاتِي.
إِنِّيْ أَحتضِرُ وَأُقتَلُ وَأُصلَبُ وَأُحرقُ، وَأُحملُ عَلَى السَّافيَاتِ الذَّاريَاتِ، وَإِنَّ الذَّرَةَ مَنْ يَنْجُوْجَ مظَانَّ هَيكلِ مُتَجَلِّيَاتِي لأَعْظَم مِنَ الرَّاسيَاتِ.(14/350)
ثُمَّ أَنشَأَ يَقُوْلُ:
أَنعَى إِلَيْكَ نُفُوساً طَاحَ شَاهِدُهَا*فِيْمَا وَرَا الغَيْبِ أَوْ فِي شَاهِدِ القِدَمِ
أَنعَى إِلَيْكَ عُلُوماً طَالَمَا هَطَلَتْ*سَحَائِبُ الوَحْيِ فِيْهَا أَبْحُرَ الحِكَمِ
أَنْعَى إِلَيْكَ لِسَانَ الحَقِّ مُذْ زَمَنٍ*أَودَى وَتَذْكَارُهُ كَالوَهمِ فِي العَدَمِ
أَنعَى إِلَيْكَ بَيَاناً تَسْتَسِرُّ لَهُ*أَقوَالُ كُلِّ فَصِيْحٍ مِقْوَلٍ فَهِمِ
أَنعَى إِلَيْكَ إِشَارَاتِ العُقُوْلِ مَعاً*لَمْ يَبْقَ مِنْهُنَّ إِلاَّ دَارِسُ العَلَمِ
أَنعَى - وَحَقِّكَ - أَحْلاماً لِطَائِفَةٍ*كَانَتْ مَطَايَاهُمُ مِنْ مَكْمَدِ الكِظَمِ
مَضَى الجَمِيْعُ فَلاَ عَيْنٌ وَلاَ أَثَرُ*مُضِيَّ عَادٍ وَفِقْدَانَ الأُولَى إِرَمِ
وَخَلَّفُوا مَعْشَراً يَجْدُوْنَ لِبسَتَهُم*أَعمَى مِنَ البَهمِ بَلْ أَعمَى مِنَ النَّعَمِ
ثُمَّ سَكتَ، فَقَالَ لَهُ خَادمُه أَحْمَدُ بنُ فَاتِكٍ:أَوصِنِي.
(27/397)

قَالَ:هِيَ نَفْسُكَ إِنْ لَمْ تَشغَلْهَا، شَغَلَتْكَ.
ثُمَّ أُخرجَ، وَقُطعتْ يَدَاهُ وَرِجلاَهُ بَعْدَ أَنْ ضُربَ خَمْسَ مائَةِ سَوطٍ، ثُمَّ صُلبَ، فسَمِعْتُهُ وَهُوَ عَلَى الجذعِ يُنَاجِي، وَيَقُوْلُ:أَصبحتُ فِي دَارِ الرَّغَائِبِ أَنظرُ إِلَى العَجَائِبِ.
فَهَكَذَا هَذَا السِّيَاقُ أَنَّهُ صُلبَ قَبْلَ قَطعِ رَأْسِه.
فَلَعَلَّ ذَلِكَ فُعلَ بَعْضَ نَهَارٍ.
قَالَ:ثُمَّ رَأَيْتُ الشِّبلِيَّ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْتَ الجِذعِ، صَاحَ بِأَعْلَى صَوتِه يَقُوْلُ:أَوْ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ العَالَمِينَ.
ثُمَّ قَالَ لَهُ:مَا التَّصَوُّفُ؟
قَالَ:أَهوَنُ مِرقَاةٍ فِيْهِ مَا تَرَى.
قَالَ:فَمَا أَعلاَهُ؟
قَالَ:لَيْسَ لَكَ إِلَيْهِ سَبِيْلٌ، وَلَكِنْ سَترَى غَداً مَا يَجرِي، فَإِنَّ فِي الغيبِ مَا شَهِدتَه وَغَابَ عَنْكَ.
فَلَمَّا كَانَ العَشِيُّ جَاءَ الإِذنُ مِنَ الخَلِيْفَةِ أَنْ تُضربَ رَقبَتُه، فَقَالُوا:قَدْ أَمسَيْنَا وَيُؤخَّرُ إِلَى الغدَاةِ.
فَلَمَّا أَصبَحنَا أُنزِلَ، وَقُدِّمَ لِتُضرَبَ عُنُقُه، فَسمِعتُه يَصيحُ بِأَعْلَى صَوتِه:حَسْبُ الوَاحِدِ إِفرَادُ الوَاحِدِ لَهُ.(14/351)
ثُمَّ تَلاَ:{يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِيْنَ لاَ يُؤْمنُوْنَ بِهَا، وَالَّذِيْنَ آمَنُوا مُشْفِقُوْنَ مِنْهَا} [الشُّوْرَى:18]، فَهَذَا آخِرُ كَلاَمِهِ.
ثُمَّ ضُرِبَتْ رَقبتُه، وَلُفَّ فِي بارِيَّةٍ، وَصُبَّ عَلَيْهِ النَّفْطُ، وَأُحرقَ، وَحُمِلَ رَمَادُه إِلَى رَأْسِ المنَارَةِ لِتَسفِيْهِ الرِّيَاحُ.
فَسَمِعْتُ أَحْمَدَ بنَ فَاتكٍ - تِلْمِيْذِ وَالدِي - يَقُوْلُ بَعْدَ ثَلاَثٍ، قَالَ:
(27/398)

رَأَيْتُ كَأَنِّيْ وَاقفٌ بَيْنَ يَدِيْ رَبِّ العزَّةِ، فَقُلْتُ:يَا رَبِّ مَا فعلَ الحُسَيْنُ بنُ مَنْصُوْرٍ؟
فَقَالَ:كَاشَفْتُهُ بِمَعْنَىً، فَدَعَا الخَلْقَ إِلَى نَفْسِهِ، فَأَنْزَلْتُ بِهِ مَا رَأَيْتَ.
قَالَ ابْنُ بَاكوَيْه:سَمِعْتُ ابْنَ خَفِيْفٍ يَسْأَلُ:مَا تَعْتَقِدُ فِي الحَلاَّجِ؟
قَالَ:أَعْتَقِدُ أَنَّهُ رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِيْنَ فَقَطْ.
فَقِيْلَ لَهُ:قَدْ كَفَّرهُ المَشَايِخُ وَأَكْثَرُ المُسْلِمِيْنَ.
فَقَالَ:إِنْ كَانَ الَّذِي رَأَيْتُهُ مِنْهُ فِي الحَبْسِ لَمْ يَكُنْ تَوْحِيداً، فَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا تَوحِيدٌ.
قُلْتُ:هَذَا غَلَطٌ مِنِ ابْنِ خَفِيْفٍ، فَإِنَّ الحَلاَّجَ عِنْدَ قَتلِه مَا زَالَ يُوَحِّدُ الله وَيَصِيْحُ:اللهَ اللهَ فِي دَمِي، فَأَنَا عَلَى الإِسْلاَمِ.
وَتَبَرَّأَ مِمَّا سِوَى الإِسْلاَمِ، وَالزِّنْدِيقُ فَيُوَحِّدُ اللهَ عَلاَنيَةً، وَلَكِنَّ الزَّندقَةَ فِي سِرِّهِ.
وَالمُنَافِقُوْنَ فَقَدْ كَانُوا يُوَحِّدُوْنَ، وَيصومُوْنَ، وَيُصلُّوْنَ علاَنيَةً، وَالنِّفَاقُ فِي قُلُوْبِهُم، وَالحَلاَّجُ فَمَا كَانَ حِمَاراً حَتَّى يُظهرَ الزَّندقَةَ بِإِزَاءِ ابْنِ خَفِيْفٍ وَأَمثَالِه، بَلْ كَانَ يَبوحُ بِذَلِكَ لِمَنِ اسْتوثقَ مِنْ رباطه، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُوْنَ تزَنْدَقَ فِي وَقتٍ، وَمَرَقَ، وَادَّعَى الإِلهيَّةَ، وَعملَ السِّحرَ وَالمخَاريقَ البَاطلَةَ مُدَّةً، ثُمَّ لَمَّا نَزَلَ بِهِ البلاَءُ وَرَأَى المَوْتَ الأَحْمَرَ، أَسلمَ، وَرَجَعَ إِلَى الحَقِّ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِسِرِّهِ، وَلَكِنَّ مَقَالَتَهُ نَبْرَأُ إِلَى اللهِ مِنْهَا، فَإِنَّهَا مَحْضُ الكُفرِ - نَسْأَلُ اللهَ العَفْوَ وَالعَافيَةَ - فَإِنَّهُ يَعْتَقِدُ حُلُولَ البَارِئِ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي بَعْضِ الأَشرَافِ، تَعَالَى الله عَنْ ذَلِكَ.
(27/399)

كَانَ مَقْتَلُ الحَلاَّجِ:فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَثَلاَثِ مائَةٍ، لِسِتٍّ بَقِيْنَ مِنْ ذِي القَعْدَةِ.(14/352)
قَرَأْتُ بِخَطِّ العَلاَّمَةِ تَاجِ الدِّيْنِ الفَزَارِيِّ، قَالَ:
رَأَيْتُ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَسِتِّيْنَ وَسِتِّ مائَةٍ كِتَاباً فِيْهِ قِصَّةُ الحَلاَّجِ، مِنْهُ عَنْ إِبْرَاهِيْمَ الحُلْوَانِيِّ، قَالَ:
دَخَلْتُ عَلَى الحُسَيْنِ بنِ مَنْصُوْرٍ بَيْنَ المَغْرِبِ وَالعَتَمَةِ، فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي، فَجَلَسْتُ كَأَنَّهُ لَمْ يَحِسَّ بِي، فَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ سُوْرَةَ البَقَرَةِ، فَلَمَّا خَتَمَهَا، رَكَعَ، وَقَامَ فِي الرُّكُوْعِ طَوِيْلاً، ثُمَّ قَامَ إِلَى الثَّانِيَةِ، قَرَأَ الفَاتِحَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، فَلَمَّا سَلَّمَ، تَكَلَّمَ بِأَشْيَاءَ لَمْ أَسْمَعْهَا، ثُمَّ أَخَذَ فِي الدُّعَاءِ، وَرَفَعَ صَوْتَهُ كَأَنَّهُ مَأْخُوْذٌ مِنْ نَفْسِهِ، وَقَالَ:يَا إِلَهَ الآلِهَةِ!وَرَبَّ الأَرْبَابِ!وَيَا مَنْ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ!رُدَّ إِلَيَّ نَفْسِي، لِئَلاَّ يُفْتَتَنَ بِي عِبَادُكَ، يَا مَنْ هُوَ أَنَا وَأَنَا هُوَ!وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ إِنِّيَّتِي وَهُوِّيَتِكَ إِلاَّ الحَدَثَ وَالقِدَمَ.
ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، وَنَظَرَ إِلَيَّ، وَضَحِكَ فِي وَجْهِي ضَحِكَاتٍ، ثُمَّ قَالَ لِي:يَا أَبَا إِسْحَاقَ!أَمَا تَرَى إِلَى رَبِّي ضَرَبَ قِدَمَهُ فِي حَدَثِي حَتَّى اسْتَهْلَكَ حَدَثِي فِي قِدَمِهِ، فَلَمْ تَبْقَ لِي صِفَةٌ إِلاَّ صِفَةُ القِدَمِ، وَنُطْقِي مِنْ تِلْكَ الصِّفَةِ، فَالخَلْقُ كُلُّهُم أَحْدَاثٌ، يَنْطِقُوْنَ عَنْ حَدَثٍ، ثُمَّ إِذَا نَطَقْتُ عَنِ القِدَمِ، يُنْكِرُوْنَ عَلَيَّ، وَيَشْهَدُوْنَ بِكُفْرِي، وَسَيَسْعَوْنَ إِلَى قَتْلِي، وَهُمْ فِي ذَلِكَ مَعْذُوْرُوْنَ، وَبِكُلِّ مَا يَفْعَلُوْنَ مَأْجُوْرُوْنَ.
(27/400)

وَعَنْ عُثْمَانَ بنِ مُعَاوِيَةَ - قَيِّمِ جَامِعِ الدِّيْنَوَرِ - قَالَ:
بَاتَ الحُسَيْنُ بنُ مَنْصُوْرٍ فِي هَذَا الجَامِعِ وَمَعهُ جَمَاعَةٌ، فَسَأَلَهُ وَاحِدٌ مِنْهُم، فَقَالَ:يَا شَيْخُ!مَا تَقُوْلُ فِيْمَا قَالَ فِرْعَوْنُ؟
قَالَ:كَلِمَةَ حَقٍّ.
قَالَ:فَمَا تَقُوْلُ فِيْمَا قَالَ مُوْسَى - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - ؟
قَالَ:كَلِمَةُ حَقٍّ؛لأَنَّهُمَا كَلِمَتَانِ جَرَتَا فِي الأَبَدِ كَمَا أُجْرِيَتَا فِي الأَزَلِ.
وَعَنِ الحُسَيْنِ، قَالَ:الكُفْرُ وَالإِيْمَانُ يَفْتَرِقَانِ مِنْ حَيْثُ الاسْمُ، فَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الحَقِيْقَةُ، فَلاَ فَرْقَ بَيْنَهُمَا.(14/353)
عَنْ جُنْدُبِ بنِ زَاذَانَ - تِلْمِيْذِ الحُسَيْنِ - قَالَ:
كَتَبَ الحُسَيْنُ إِلَيَّ:بِسْمِ اللهِ المتجلِّي عَنْ كُلِّ شَيْءٍ لِمَنْ يشَاءُ، وَالسَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا وَلدِي، سَتَرَ اللهُ عَنْكَ ظَاهِرَ الشَّرِيعَةِ، وَكَشَفَ لَكَ حَقِيْقَةَ الكُفْرِ، فَإِنَّ ظَاهِرَ الشَّريعَةِ كُفْرٌ، وَحَقِيْقَةَ الكُفْرِ مَعْرِفَةٌ جَلِيَّةٌ، وَإِنِّيْ أُوصِيكَ أَنْ لاَ تَغتَرَّ بِاللهِ، وَلاَ تَأْيَسْ مِنْهُ، وَلاَ تَرْغَبْ فِي مَحَبَّتِه، وَلاَ تَرضَى أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مُحِبٍّ، وَلاَ تَقُلْ بِإِثبَاتِه، وَلاَ تَمِلْ إِلَى نَفيِهِ، وَإِيَّاكَ وَالتَّوحِيدَ، وَالسَّلاَمَ.
وَعَنْهُ، قَالَ:مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الإِيْمَانِ وَالكُفْرِ، فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ لَمْ يُفرِّقْ بَيْنَ المُؤْمِنِ وَالكَافِرِ، فَقَدْ كَفَرَ.
وَعَنْهُ قَالَ:مَا وَحَّدَ اللهَ غَيْرُ اللهِ.
آخِرُ مَا نَقَلتُه مِنْ خطِّ الشَّيْخِ تَاجِ الدِّيْنِ.
(27/401)

ذَكَرَ مُحَمَّدُ بنُ إِسْحَاقَ النَّدِيمُ الحُسَيْنَ الحَلاَّجَ، وَحَطَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ سَرَدَ أَسْمَاءَ كُتُبِه:كِتَابُ(طَاسِين الأَوَّلُ)، كِتَابُ(الأَحرفِ المُحْدَثَةِ وَالأَزليَّةِ)، كِتَابُ(ظلٌّ مَمْدُوْدٌ)، كِتَابُ(حَملُ النُّوْرِ وَالحَيَاةِ وَالأَروَاحِ)، كِتَابُ(الصُّهورِ)، كِتَابُ(تَفْسِيْرُ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)، كِتَابُ(الأَبدُ وَالمأْبودُ)، كِتَابُ(خَلقُ الإِنْسَانِ وَالبيَانِ)، كِتَابُ(كَيدُ الشَّيْطَانِ)، كِتَابُ(سِرُّ العَالِمِ وَالمَبْعُوثِ)، كِتَابُ(العَدلُ وَالتَّوحيدُ)، كِتَابُ(السِّيَاسَةُ)، كِتَابُ(عِلمُ الفَنَاءِ وَالبَقَاءِ)، كِتَابُ(شَخص الظُّلمَاتِ)، كِتَابُ(نُور النُّوْرِ)، كِتَابُ(الهَيَاكل وَالعَالَم)، كِتَابُ(المَثَل الأَعْلَى)، كِتَابُ(النُّقطَة وَبَدوّ الخَلقِ)، كِتَابُ(القِيَامَات)، كِتَابُ(الكِبر وَالعَظمَة)، كِتَابُ(خَزَائِن الخيرَاتِ)، كِتَابُ(مَوَائِد العَارفينَ)، كِتَابُ(خَلق خَلاَئِقِ القُرْآنِ)، كِتَابُ(الصِّدْق وَالإِخْلاَص)، كِتَابُ(التَّوحيد)، كِتَابُ(النَّجم إِذَا هَوَى)، كِتَابُ:(الذَّاريَات ذَرُواً)، كِتَابُ(هُوَ هُوَ)، كِتَابُ(كَيْفَ كَانَ وَكَيْفَ يَكُوْنُ)، كِتَابُ:(الوُجُود الأَوَّلِ)، كِتَابُ(لاَ كَيْفَ)، كِتَابُ(الكِبريت الأَحْمَرِ)، كِتَابُ(الوُجُود الثَّانِي)، كِتَابُ(الكَيفيَّةُ وَالحَقِيْقَةُ)، وَأَشيَاء غَيْرُ ذَلِكَ.(14/354)