المُقْتَدِرُ بِاللهِ أَبُو الفَضْلِ جَعْفَرُ ابنُ المُعْتَضِدِ بِاللهِ أَحْمَدَ
 
الخَلِيْفَةُ المُقْتَدِر بِاللهِ، أَبُو الفَضْلِ جَعْفَرُ ابنُ المعتضِد بِاللهِ أَحْمَدَ ابنِ أَبِي أَحْمَدَ طَلْحَةَ ابنِ المُتَوَكِّل عَلَى اللهِ الهَاشِمِيُّ، العَبَّاسِيُّ، البَغْدَادِيُّ.
بُوْيِعَ بَعْد أَخِيْهِ المكْتَفِي فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَتِسْعِيْنَ وَمائَتَيْنِ، وَهُوَ ابْنُ ثَلاَثَ عَشْرَةَ سَنَةً.
وَمَا وَلِيَ أَحَدٌ قبله أَصغر مِنْهُ، وَانخرم نظَامُ الإِمَامَةِ فِي أَيَّامه، وَصَغُر منصِب الخِلاَفَة، وَقَدْ خُلع فِي أَوَائِل دَوْلته، وَبَايعُوا ابْنَ المُعْتَز، ثُمَّ لَمْ يتمَّ ذَلِكَ.
وَقُتِلَ ابْنُ المُعْتَزّ، وَجَمَاعَةٌ، ثُمَّ إِنَّهُ خُلِع ثَانياً فِي سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ.
وَبَذَلَ خَطَّه بعزلِ نَفْسه، وَبَايعُوا أَخَاهُ القَاهرَ، ثُمَّ بَعْد ثَلاَثٍ، أُعيد المُقْتَدِرُ، ثُمَّ فِي المَرَّة الثَّالِثَة قُتل.
وَكَانَ رَبْعَةً، مليحَ الوَجْه، أَبيضَ بحمرَة، نَزَلَ الشَّيب بعَارضَيْه، وَعَاشَ ثَمَانِياً وَثَلاَثِيْنَ سنَةً.
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ التَّنُوخي:كَانَ جَيِّد العقل، صَحِيْحَ الرَّأْي، وَلَكِنَّهُ كَانَ مُؤْثِراً لِلشَّهَوَاتِ، لَقَدْ سَمِعْتُ عَلِيَّ بنَ عِيْسَى الوَزِيْر يَقُوْلُ:مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ يترُكَ هَذَا الرَّجُل - يَعْنِي المُقْتَدِر - النَّبِيذَ خَمْسَةَ أَيَّام، فَكَانَ رُبَّمَا يَكُوْنُ فِي أَصَالَةِ الرَّأْي كَالمَأْمُوْنِ وَالمعتضِد.(15/44)
(29/40)

قُلْتُ:كَانَ منهوماً بِاللَّعِبِ، وَالجَوَارِي، لاَ يلتفتُ إِلَى أَعباءِ الأُمُور، فَدَخَلَ عَلَيْهِ الدَّاخل، وَوَهَنَ دَسْتُه، وَفَارقَه مُؤنِسٌ الخَادِم مُغَاضِباً إِلَى المَوْصِل، وَتمَلَّكهَا، وَهَزَمَ عسكَرَهَا فِي صَفَرٍ سَنَةَ عِشْرِيْنَ.
وَوصَلَتِ القَرَامِطَةُ إِلَى الكُوْفَةِ، فَهَرَبَ أَهلُهَا.
وَدخَلَت الدَّيْلَمُ، فَاسْتبَاحُوا الدِّينَوَر، وَوَصَلَ أَهلُهَا، فَرَفَعُوا المَصَاحِفَ عَلَى القَصَب، وَضَجّوا يَوْمَ الأَضحى مِنْ سنَة تِسْعَ عَشْرَةَ، وَأَقبلَتْ جيوشُ الرُّوْم وَبدَّعُوا وَأَسرُوا.
ثُمَّ تَجَهَّزَ نسيم الخَادِم فِي عَشْرَة آلاَف فَارس، وَعشرَة آلاَف رَاجل، حَتَّى بلغُوا عَمُّوريَة، فَقتلُوا وَسبوا، وَتَمَّ بِبَغْدَادَ الوبَاءُ الكَبِيْر، وَالقَحط حَتَّى سَوَّدَ الشُّرفَاء وُجُوْههُم، وَصَاحُوا:الجوعَ الجوعَ.
وَقَطَعَ الجَلْبَ عَنْهُم مُؤنسٌ وَالقرَامطَة.
وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ، وَتَسَلَّل الجَيْشُ إِلَى مُؤنس، فتَهَيَّأَ لقصد المقْتَدر، فَبرَزَ المُقْتَدِرُ، وَتخَاذَلَ جُندُه.
فَرَكِبَ، وَبِيَدِهِ القَضِيْبُ، وَعَلَيْهِ البُردُ النَّبوِي، وَالمَصَاحِف حَوْلَهُ، وَالقُرَّاء.
وَخلفَه الوَزِيْر الفَضْلُ بنُ الفُرَاتِ، فَالتحم القِتَال.
وَصَارَ المُقْتَدِرُ فِي الوَسَط، فَانكشَفَ جمعُه، فيرمِيه برْبرِيٌ بحربَةٍ مِنْ خلفِه.
فَسقَطَ وَحُزَّ رَأْسُه، وَرُفَع عَلَى قَنَاة، ثُمَّ سُلِب ثُمَّ طُمِر فِي مَوْضِعه، وَعُفِي أَثره كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، لثَلاَث بَقِيْنَ مِنْ شَوَّال سنَةَ عِشْرِيْنَ وَثَلاَثِ مائَةٍ.
وَكَانَ سَمْحاً مِتلاَفاً لِلأَمْوَال، مَحَقَ مَا لاَ يُعدُّ وَلاَ يُحصَى.
وَمَاتَ صَافِي، وَتَفَرَّدَ مُؤنس بِأَعباءِ الأُمُورِ.
(15/45)
(29/41)

قَالَ مُحَمَّدُ بنُ يُوْسُفَ القَاضِي:لمَا تَمَّ أَمر المُقْتَدِر اسْتصباهُ الوَزِيْر العَبَّاس، وَخَاض النَّاسُ فِي صِغَرِهِ، فَعَمِلَ الوَزِيْرُ عَلَى خَلْعِه، وَإِقَامَة أَخِيْهِ مُحَمَّد.
ثُمَّ إِنَّ مُحَمَّداً، وَصَاحِبَ الشُرْطَة، تنَازعَا فِي مَجْلِسِ الوَزِيْر، فَاشتطَّ صَاحِب الشُّرْطَة فَاغتَاظ مُحَمَّد كَثِيْراً، فَفُلِجَ لوقته، وَمَاتَ بَعْد أَيَّام.
ثُمَّ اتَّفَقَ جَمَاعَةٌ عَلَى تَوْليَةِ ابْن المُعْتز، فَأَجَابهُم بِشَرْطِ أَنْ لاَ يسفَكَ دَمٌ.
وَكَانَ رَأْسهُم مُحَمَّدُ بنُ دَاوُدَ بنِ الجَرَّاحِ، وَأَبُو المُثَنَّى أَحْمَدُ بنُ يَعْقُوْبَ القَاضِي وَالحُسَيْن بنُ حَمْدَانَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى الفَتْك بِالمُقْتَدِر، وَوَزِيْرِه، وَفَاتك.
فَفِي العِشْرِيْنَ مِنْ ربيع الأَوَّل سنَةَ سِتّ، رَكِبَ الملأُ، فَشَدَّ الحُسَيْنُ عَلَى الوَزِيْر فَقَتَلَهُ.
فَأَنْكَرَ فَاتك، فَعَطَفَ عَلَيْهِ الحُسَيْنُ فَقَتَلَهُ، وَسَاقَ إِلَى المُقْتَدِرِ، وَهُوَ يلعبُ بِالصَّوَالِجَة، فسَمِعَ الضَّجَّةَ فَدَخَلَ الدَّارَ، فَرُدَّ ابْنُ حَمْدَانَ إِلَى المُخَرَّم، فَنَزَلَ بِدَارِ سُلَيْمَانَ بن وَهْبٍ، وَأَتَى ابْنُ المُعْتَزّ، وَحضَرَ الأُمَرَاءُ وَالقُضَاةُ سِوَى حَاشيَةِ المُقْتَدِر، وَابْنِ الفُرَاتِ، وَبَايعُوا عَبْدَ اللهِ بنَ المُعْتَزّ، وَلقبوهُ الغَالِبَ بِاللهِ.
فوَزَرَ ابْنُ الجَرَّاح، وَنُفِّذت الكُتُب، وَبعثَوا إِلَى المُقْتَدِرِ، ليتحوَّل مِنْ دَارِ الخِلاَفَة، فَأَجَابَ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ سِوَى غَريبٍ خَالِه، وَمُؤنس الخَازن، وَبَاكِر بنِ حَمْدَانَ، وَطَائِفَةٍ، وَأَحَاطُوا بِالدَّار ثُمَّ اقْتَتَلُوا.(15/46)
فَذَهَبَ ابْنُ حَمْدَانَ إِلَى المَوْصِل، وَاسْتظهر خوَاصُّ المُقْتَدِر، وَخَارتْ قوَى ابْن المعتَز، وَأَصْحَابِهِ، وَانهزمُوا نَحْو سَامَرَّا.
(29/42)

ثُمَّ نَزَلَ ابْنُ المُعْتَز عَنْ فرسه، وَأَغمد سيفَه، وَاخْتَفَى وَزِيْرُه، وَقَاضيه، وَنُهبتْ دورُهُمَا.
وَقَتَلَ المُقْتَدِر جَمَاعَةً مِنَ الأَعيَان، وَوزر لَهُ أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بنُ الفُرَاتِ، وَأُخِذَ ابْنُ المُعْتَزّ، فَقُتِلَ سرّاً، وَصُودِرَ ابْنُ الجَصَّاص.
فَقِيْلَ:أُخِذَ مِنْهُ أَزيدَ مِنْ سِتَّة آلاَف أَلف دِيْنَار.
وَتَضَعْضَعَ حَاله.
وَسَاسَ ابْنُ الفُرَاتِ الأُمُورَ.
وَتَمَكَّنَ، وَانصَلَحَ أَمرُ الرَّعيَة، وَالتَّقَى الحُسَيْنُ بنُ حَمْدَانَ وَأَخُوْهُ أَبُو الهيجَاءَ عَبْدُ اللهِ، فَانكسَرَ أَبُو الهيجَاءَ، وَقَدِمَ أَخوهُمَا إِبْرَاهِيْمُ فَأَصلَحَ حَالَ الحُسَيْن، وَكَتَبَ لَهُ المُقْتَدِر أَمَاناً.
وَقَدِمَ فَقُلِّدَ قُمَّ وَقَاشَان.
وَقَدِمَ صَاحِبُ أَفْرِيْقيَّةَ زِيَادَةُ الله الأَغْلَبِيّ، وَأَخذَهَا مِنْهُ الشِّيْعِيُّ وَبُوْيِع المَهْدِيُّ بِالمَغْرِب، وَظَهَرَ أَمرُهُ وَعَدَل، وَتَحَبَّبَ إِلَى الرَّعيَة أَوَّلاً، وَوَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ دَاعِييه الأَخوين فَوَقَعَ بينهُمَا القِتَال، وَعظُمَ الخَطْبُ، وَقُتِلَ خَلْقٌ، حَتَّى ظَفِرَ بِهِمَا وَقتلهُمَا.
وَتَمَكَّنَ، وَبنَى المَهْدِيَّة.(15/47)
وَقَدِمَ الحُسَيْن بنُ حَمْدَانَ مِنْ قُمّ فولِي دِيَارَ بكْر.
وَفِي سَنَةِ 299، أَمْسكَ الوَزِيْر بنَ الفُرَاتِ، وَادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ كَاتَبَ الأَعرَابَ أَنْ يكبِسُوا بَغْدَادَ.
وَوزر أَبُو عَلِيٍّ الخَاقَانِيُّ وَوَرَدت هدَايَا مِنْ مِصْرَ مِنْهَا:خَمْس مائَة أَلْف دِيْنَار، وضِلَع آدمِي عرضُه شِبر، وَطولُه أَرْبَعَةَ عَشَرَ شِبْراً، وَتَيْسٌ لَهُ بِز يدُرُّ اللَّبن، وَقدِمَتْ هدَايَا صَاحِبِ مَا وَرَاء النَّهر، وَهدَايَا ابْن أَبِي السَّاج مِنْهَا:بِسَاط رُومِيّ، طُوله سَبْعُوْنَ ذِرَاعاً فِي سِتِّيْنَ.
نسجَه الصُّنَّاع فِي عَشْرِ سِنِيْنَ.
(29/43)

وفِي سَنَةِ ثَلاَثِ مائَة عظُم الوبَاء بِالعِرَاقِ، وَوَزَرَ عَلِيُّ بنُ عِيْسَى بنِ الجَرَّاحِ، وَوَلِيَ القَضَاءَ أَبُو عُمَرَ القَاضِي، وَفِيْهَا ضُرِبَ الحَلاَّج، وَنُوديَ عَلَيْهِ:هَذَا أَحَدُ دُعَاة القرَامطَة، ثُمَّ سجن مُدَّة، وَظَهَرَ عَنْهُ أَنَّهُ حُلولِي.
وَقُلِّد جَمِيْعَ المَغْرِب وَلدُ المُقْتَدِر صَغِيْر، لَهُ أَرْبَع سِنِيْنَ، فَاسْتنَاب مُؤنساً الخَادِم.(15/48)
وَفِي سَنَةِ إِحْدَى وَثَلاَثِ مائَةٍ أَقبل ابْنُ المَهْدِيّ صَاحِبُ المَغْرِب فِي أَرْبَعِيْنَ أَلفاً برّاً وَبَحْراً ليملِكَ مِصْر، وَوَقَعَ القِتَال غَيْرَ مَرَّةٍ، وَاسْتَوْلَى العُبَيْديُّ عَلَى الإِسْكَنْدَرِيَّة، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَرْقَة.
وَمَاتَ الرَّاسِبِيُّ أَمِيْرُ فَارس، فَخلَّف أَلف فَرَس، وَأَلفَ جمل، وَأَلفَ أَلفِ دِيْنَار.
وَفِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَثَلاَثِ مائَةٍ أَقبل العُبَيْديُّ، فَالتقَاهُ جَيْشُ الخَلِيْفَة فَانكسرَ العُبَيْديُّ وَقُتِلَ مُقَدَّم جَيْشه حَبَاسَة، وَغرِمَ الخَلِيْفَةُ عَلَى خِتَان أَوْلاَدِه الخمسَة سِتّ مائَة أَلْف دِيْنَار.
وَقلَّد المُقْتَدِرُ الجَزِيْرَة أَبَا الهيجَاءَ بنَ حَمْدَان، وَأَخذتْ طِّيئ رَكْبَ العِرَاق، وَهلكَ الخَلْقُ جُوعاً وَعَطَشاً.
وَفِي سَنَةِ 303 رَاسل الوَزِيْر ابْنُ الجَرَّاح القَرَامطَة، وَأَطلقَ لَهُم، وَتَأَلَّفهُم.
وَكَانَ الجَيْشُ مشغولين مَعَ مُؤنس بحرب البْربر، فنزَعَ الطَّاعَة الحُسَيْن بنُ حَمْدَانَ، فَسَارَ لِحَرْبِهِ رَائِق، فكسره ابْنُ حَمْدَانَ، ثُمَّ أَقبل مُؤنس فَالتَقَى الحُسَيْنَ، فَأَسرَه، وَأُدخِلَ بَغْدَاد عَلَى جمل، ثُمَّ غَزَا مُؤنسٌ بلاَد الرُّوْم، وَافتَتَح حصوناً، وَعظُم شَأْنُه.(15/49)
(29/44)

و فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ عُزِلَ ابْن الجَرَّاحِ مِنَ الوَزَارَة، وَخَرَجَ بِأَذْرَبِيْجَانَ يُوْسُفُ بنُ أَبِي السَّاج، فَأَسره مُؤنس بَعْد حُرُوب.
وَفِي سَنَةِ خَمْس، قدِمَت رُسلُ طَاغيَة الرُّوْم، يطلبُ الُهدنَة، فَزُيِّنَتْ دُورُ الخِلاَفَة، وَعرَضَ المُقْتَدِر جيوشَه مُلْبَسْين فَكَانُوا مائَةً وَسِتِّيْنَ أَلْفاً، وَكَانَ الخدَّام سَبْعَة آلاَف، وَالحُجَّاب سبعَ مائَة، وَالسُّتور ثَمَانيَةً وَثَلاَثِيْنَ أَلف سِتْر، وَمائَة أَسد مُسلسلَة، وَفِي الدِّهَاليز عَشْرَةُ آلاَف جَوْشَن مُذْهَبَة.
وَفِي سَنَةِ سِتّ فُتِحَ مَارَسْتَان أُمِّ المُقْتَدِر، أَنفقَ عَلَيْهِ سبعَ مائَة أَلْف دِيْنَار.
وَذُبحَ الحُسَيْنُ بنُ حَمْدَانَ فِي الحَبْسِ، وَأُطلق أَخُوْهُ أَبُو الهيجَاءَ.
وَكَانَ قَدْ أُعيد إِلَى الوِزَارَة ابْنُ الفُرَاتِ، فَقُبضَ عَلَيْهِ، وَوزَرَ حَامِدُ بنُ العَبَّاسِ، فقدِمَ مِنْ وَاسِط وَخَلْفَهُ أَرْبَع مائَة مَمْلُوْك فِي السِّلاَح.
وَولِيَ نَظَر مِصْر وَالشَّام المَادَرَائِيُّ، وَقُرِّر عَلَيْهِ خَرَاجهُمَا فِي السَّنَة سِوَى رِزق الجُنْد ثَلاَثَة آلاَف أَلف دِيْنَار، وَاسْتقلَّ بِالأَمْرِ وَالنَّهْي السَّيِّدَةُ أُمُّ المُقْتَدِر، وَأَمرتِ القَهْرمَانَةُ ثملَ أَنْ تِجلِس بِدَارِ العَدْل، وَتنظر فِي القِصَص، فَكَانَتْ تجلِس، وَيحضُر القُضَاةُ وَالأَعيَان، وَتوقِّع ثمل عَلَى المرَاسم.(15/50)
وفِي سَنَةِ سَبْعٍ وَلَّى المُقْتَدِر نَازُوك إِمرَة دِمَشْق، وَدخَلَت القَرَامِطَة البَصْرَة.
فَقتلُوا وَسبَوْا، وَأَخَذَ القَائِمُ العُبَيْديُّ الإِسْكَنْدَرِيَّة ثَانياً.
وَمَرِضَ وَوقَع الوبَاء فِي جُنْده.
(29/45)

وَتجمَّع فِي سَنَةِ ثَمَانٍ مِنَ الغوْغَاء ببغدَاد عَشْرَةُ آلاَف، وَفتحُوا السُّجُون، وَقَاتَلُوا الوَزِيْرَ وَولاَة الأُمُور، وَدَامَ القِتَال أَيَّاماً، وَقُتِلَ عِدَّة، وَنُهبتْ أَمْوَال النَّاس، وَاختلَّتْ أَحْوَالُ الخِلاَفَة جِدّاً، وَمُحِقَتْ بُيُوْتُ الأَمْوَال.
واشْتَدَّ البلاَء بِالبربر، وَكَادُوا أَنْ يملِكُوا إِقلِيمَ مِصْر، وَضَجَّ الخَلْق بِالبكَاء، ثُمَّ هزَمهُم المُسْلِمُوْنَ، وَسَارَ ثمل الخَادِم مِنْ طَرَسُوْس فِي البَحْر فَأَخَذَ الإِسْكَنْدَرِيَّة مِنَ البَرْبر.
وَفِي سَنَةِ تِسْعٍ قتل الحَلاّج عَلَى الزَّندقَة.
وَفِي سَنَةِ 311 عُزِل حَامِد وَأُهلِكَ، وَوزَرَ ابْنُ الفُرَاتِ الوِزَارَة الثَّالِثَة.
وَأَخذتْ فِي سَنَةِ 312 القرَامطَة رَكْبَ العِرَاق.
وَكَانَ فِيْمَنْ أَسرُوا أَبُو الهيجَاءَ بنُ حَمْدَانَ، وَعمُّ السَّيِّدَة وَالِدَة الخَلِيْفَة.
ثُمَّ إِنَّ المُقْتَدِر سلَّم ابْنَ الفُرَاتِ إِلَى مُؤنس فصَادره، وَأَهلكَه، وَكَانَ جَبَّاراً ظَالماً، وَافتَتَحَ عَسْكَرُ خُرَاسَان فَرْغَانَة.(15/51)
وَفِي سَنَةِ 313 نهَبَ القِرْمِطِي الكُوْفَة، وَعُزل الخَاقَانِيُّ مِنَ الوِزَارَة بِأَحْمَدَ بنِ الخَصِيب.
وَفِي سَنَةِ 314 اسْتبَاحَتِ الرُّوْم مَلْطيَة بِالسَّيْف، وَقُبضَ عَلَى أَحْمَدَ بنِ الخَصيب، وَوَزَرَ عَلِيُّ بنُ عِيْسَى، وَأَخذت الرُّوْم سُمَيْسَاط، وَجرت وَقعَةٌ كَبِيْرَة بَيْنَ القَرَامطَة وَالعَسْكَر، وَأَسرت القَرَامطَةُ قَائِد العَسْكَر يُوْسُفَ بن أَبِي السَّاج.
(29/46)

ثُمَّ أَقبل أَبُو طَاهِرٍ القِرْمِطِي فِي أَلف فَارس وَسَبْع مائَة رَاجل، وَقَاربَ بَغْدَاد، وَكَادَ أَنْ يملِك وَضَجَّ الخَلْق بِالدُّعَاء، وَقُطِعَتِ الجسور مَعَ أَنَّ عَسْكَرَ بَغْدَاد كَانُوا أَرْبَعِيْنَ أَلفاً، وَفيهم مُؤنسٌ، وَأَبُو الهيجَاءَ بنُ حَمْدَانَ، وَإِخوتُه، وَقربَ القِرْمِطِي حَتَّى بَقِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ البَلَدِ فَرْسَخَان، ثُمَّ أَقبل، وَحَاذَى العَسْكَر، وَنَزَلَ عَبْدٌ يُجسُّ المخَائِض، فَبقِي كَالقُنْفُد مِنَ النُّشَّاب، وَأَقَامَت القَرَامطَة يَوْمِيْنِ، وَترحَّلُوا نَحْو الأَنْبَار، فَمَا جسر العَسْكَر أَنْ يَتْبَعُوهُم، فَانظْر إِلَى هَذَا الخِذلاَن.
قَالَ ثَابِتُ بنُ سِنَانٍ:انهزَم معظُم عَسْكَر المُقْتَدِر إِلَى بَغْدَادَ قَبْل المُعَاينَة لشِدَّة رُعبهم، وَنَازل القِرمطِي هِيت مُدَّة فَرُدَّ إِلَى البريَّة.(15/52)
وَفِي سَنَةِ 316 دَخَلَ أَبُو طَاهِرٍ القِرْمِطِيُّ الرَّحبَة بِالسَّيْف، ثُمَّ قَصَدَ الرَّقَّة، وَبدَّع، عمِلَ العَظَائِم، وَاسْتعفى عَليُّ بنُ عِيْسَى مِنَ الوِزَارَة، فوزَرَ أَبُو عَلِيٍّ بنُ مُقْلَة، وَبنَى القِرمِطِيُّ دَاراً، سمَاهَا دَار الهِجْرَة، وَكَثُرَ أَتْبَاعه، وَكَاتَبَه المَهْدِيُّ مِنَ المَغْرِب، فَدَعَا إِلَيْهِ، وَتفَاقَم البَلاَء، وَأَقبلَ الدُمستق فِي ثَلاَث مائَة أَلْف مِنَ الرُّوْم، فَقصَدَ أَرْمِينَية، فَقَتَل وَسَبَى، وَاسْتَوْلَى عَلَى خِلاَط.
(29/47)

وفَى سنَة 317 جَرَتْ خَبْطَة بِبَغْدَادَ، وَاقتتل الجَيْشُ، وَتَّم مَا لاَ يُوْصَف، وَهمُّوا بعَزْل المُقْتَدِر، وَاتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ مُؤنسٌ، وَأَبُو الهيجَاءَ، وَنَازُوك، وَأَتَوا دَارَ الخِلاَفَة، فَهَرَبَ الحَاجِبُ، وَالوَزِيْر ابْنُ مُقلَة، فَأُخْرِجَ المُقْتَدِرُ وَأُمّه وَخَالته وَحرَمُه إِلَى دَار مُؤنس، فَأَحضرُوا مُحَمَّدَ بنَ المُعْتَضِد مِنَ الحريم، وَكَانَ مَحْبُوْساً، وَبَايعُوهُ، وَلقَّبوهُ بِالقَاهر.
وَأَشهَدَ المُقْتَدِر عَلَى نَفْسه بِالخَلْع.
وَجَلَسَ القَاهر فِي دَسْت الخِلاَفَة.
وَكَتَبَ إِلَى الأَمصَار، ثُمَّ طَلَب الجَيْش رسمَ البَيْعَة، وَرِزْقَ سنَة، وَارْتَفَعت الضَّجَّة، وَهجمُوا فَقتلُوا نَازوك وَالخَادِم عَجِيْباً، وَصَاحُوا:المُقْتَدِر يَا مَنْصُوْر.
فَهَرَبَ الوَزِيْرُ وَالحُجَّابُ.
وَصَارَ الجُنْد إِلَى دَار مُؤنس، وَطَلَبُوا المُقْتَدِرَ ليعيدُوهُ.وَأَرَادَ أَبُو الهيجَاءَ الخُرُوجَ فتعلَّقَ بِهِ القَاهر، وَقَالَ:تسلمنِي؟
فَأَخَذتْهُ الحَمِيِّةُ، وَقَالَ:لاَ وَاللهِ، وَدخلاَ الفِرْدَوْس، وَخرجَا إِلَى الرَّحبَة.(15/53)
وَذَهَبَ أَبُو الهيجَاءَ عَلَى فَرَسه، فَوَجَد نَازوك قَتِيلاً، وَسُدَّت المسَالكُ عَلَيْهِ وَعَلَى القَاهر، وَأَقبلتْ خوَاصُّ المُقْتَدِر فِي السِّلاَح، فَدَخَلَ أَبُو الهيجَاءَ كَالجَمَل، ثُمَّ صَاح:يَال يخلت أَأُقتل بَيْنَ الحِيْطَان؟أَيْنَ الكُمَيْت؟أَيْنَ الدَّهْمَاء؟فرمُوهُ بِسهم فِي ثَدْيه، وَبآخر فِي تَرْقُوته.
فَنَزَع مِنْهُ الأَسْهُم، وقَتَلَ وَاحِداً مِنْهُم، ثُمَّ قَتَلُوهُ.
(29/48)

وَجِيْء بِرَأْسِهِ إِلَى المُقْتَدِرِ، فتَأَسَّفَ عَلَيْهِ، وَجِيْء إِلَيْهِ بِالقَاهر فَقبَّله وَقَالَ:يَا أَخِي أَنْتَ وَاللهِ لاَ ذنب لَكَ، وَهُوَ يَبْكِي وَيَقُوْلُ:اللهَ فِي دمِي يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ، وَطيفَ برَأْس نَازُوك، وَأَبِي الهيجَاءَ.
ثُمَّ أَتَى مُؤنسٌ وَالقُوَّاد وَالقُضَاة، وَبَايعُوا المُقْتَدِرَ.
وَأَنفقَ فِي الجُنْد مَالاً عَظِيْماً.
وَحَجَّ النَّاس فَأَقبل أَبُو طَاهِرٍ القِرمِطِي، وَوَضَعَ السَّيْفَ بِالحرَم فِي الوفْد، وَاقتلعَ الحجرَ الأَسود.
وَكَانَ فِي سَبْع مائَة رَاكب فَقتلُوا فِي المَسْجَدِ أَزيد مِنْ أَلف.
وَلَمْ يَقِفْ أَحَد بعرَفَة، وَصَاح قِرْمطِيُّ:يَا حَمِير، أَنْتُم قُلتُم:(وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمناً)فَأَيْنَ الأَمن؟
وَأَمَّا الرُّوْم فَعَاثُوا فِي الثُّغُوْر، وَفَعَلُوا العَظَائِمَ، وَبَذَلَ لَهُم المُسْلِمُوْنَ الإِتَاوَة.(15/54)
ووزر فِي سَنَةِ ثَمَانِ عَشْرَةَ لِلْمُقْتَدِر سُلَيْمَانُ بنُ الحَسَن، ثُمَّ قُبض عَلَيْهِ فِي سَنَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ، وَاسْتَوْزَرَ عُبَيْد اللهِ بن مُحَمَّدٍ الكَلْوَذَانِي.
وَظهر مَردَاوِيج فِي الدَّيْلَم، وَملكُوا الجبلَ بِأَسره إِلَى حُلْوَان، وَهَزمُوا العَسَاكر.
ثُمَّ عُزِل الكَلْوذَانِي بِالحُسَيْن بنِ القَاسِمِ بن عُبَيْدِ اللهِ.
وَقَلَّت الأَمْوَال عَلَى المُقْتَدِر، وَفسَدَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُؤنس، فَذَهَبَ مغَاضباً إِلَى المَوْصِل.
وَقبض الوَزِيْرُ عَلَى أَمْوَاله، وَهَزَمَ مُؤنسٌ بنِي حَمْدَان، وَتَمَلَّك المَوْصِل فِي سَنَةِ عِشْرِيْنَ وَثَلاَثِ مائَةٍ.
وَالتَقَى وَالِي طَرَسُوْس الرُّوْم، فَهَزَمهُم أَوَّلاً، ثُمَّ هَزَمُوهُ.
(29/49)

وَفِي سَنَةِ عِشْرِيْنَ وَثَلاَثِ مائَةٍ عُزِلَ الوَزِيْر الحُسَيْنُ بِأَبِي الفَتْح بن الفُرَاتِ، وَلاَطفَ المُقْتَدِر الدَّيْلَم، وَبَعَثَ بولاَيَة أَذْرَبِيْجَان وَأَرْمِيْنِيَةَ وَالعجم إِلَى مَردَاوِيج.
وَتسحَّبَ أُمرَاءٌ إِلَى مُؤنسٍ، وَخَافَ المُقْتَدِر، وَتَهَيَّأَ لِلْحَرْب، فَأَقبل مُؤنس فِي جَمْعٍ كَبِيْر.
وَقِيْلَ لِلْمُقْتَدِر:إِن جُندكَ لاَ يقَاتِلُوْنَ إِلاَّ بِالمَالِ، وَطُلِبَ مِنْهُ مئتَا أَلف دِيْنَار، فتَهَيَّأَ لِلْمضيّ إِلَى وَاسِط، فَقِيْلَ لَهُ:اتَّقِ الله، وَلاَ تسلِّمْ بَغْدَاد بِلاَ حَرْبٍ، فَتَجلَّد وَرَكِبَ فِي الأُمَرَاء وَالخَاصَّة وَالقُرَّاء، وَالمَصَاحِفُ منشورَةٌ.
فَشَقَّ بَغْدَاد، وَخَرَجَ إِلَى الشَّمَّاسيَّة، وَالخَلْقُ يَدْعُونَ لَهُ.
وَأَقبلَ مُؤنسٌ، وَالْتَحَمَ الحَرْب، وَوقَفَ المُقْتَدِر عَلَى تلٍّ، فَألحُّو عَلَيْهِ بِالتقَدُّم لينصَحَ جَمْعَه فِي القِتَال فَاسْتدرَجُوهُ حَتَّى توسط، وَهُوَ فِي طَائِفَةٍ قَلِيْلَة، فَانكشفَ جمعُه، فيرمِيه بربرِيٌ فَسقَطَ فذُبِحَ، وَرُفع رأْسُه عَلَى رمح وَسلَبُوهُ، فَسُترت عورتُه بحشيش، ثُمَّ طُمَّ وَعُفِي أَثره.(15/55)
وَنَقَل الصُّوْلِيُّ أَنَّ قَاتله غُلاَمٌ لبُلَيق، كَانَ مِنَ الأَبطَال.
تعجَّبَ النَّاس مِنْهُ مِمَّا عَمِلَ يَوْمَئِذٍ مِنْ فنُوْن الفروسية، ثُمَّ شَدَّ عَلَى المُقْتَدِر بحربَته، أَنفذهَا فِيْهِ، فصَاح النَّاسُ عَلَيْهِ، فسَاقَ نَحْو دَار الخِلاَفَة ليخرِجَ القَاهرَ فصَادَفَه حِمْل شَوْك، فزحَمَتْه إِلَى قِنَّار لحَّام فعلَّقَه كُلاَّب، وَخَرَجَ مِنْ تَحْته فَرَسُه فِي مِشوَاره، فحطَّه النَّاس وَأَحرقوهُ بحمل الشَّوْك.
وَقِيْلَ:كَانَ فِي دَارِ المُقْتَدِر أَحَدَ عشرَ أَلف غُلاَم خِصيَان غَيْرُ الصَّقَالبَة وَالرُّوْم.
(29/50)

وَكَانَ مُبذِّراً لِلْخزَائِن حَتَّى احْتَاجَ، وَأَعطَى ذَلِكَ لِحظَايَاهُ، وَأَعطَى وَاحِدَةً الدُّرَّةَ اليَتيمَة الَّتِي كَانَ زِنَتُهَا ثَلاَثَة مثَاقيل.
وَأَخَذَتْ قَهْرَمَانَة سُبْحَةَ جَوْهر مَا سُمِعَ بِمثلهَا.
وَفرَّق سِتِّيْنَ حُبّاً مِنَ الصِّينِي مملوءةٌ غَاليَة.
قَالَ الصُّوْلِيُّ:كَانَ المُقْتَدِر يفرِّق يَوْمَ عَرَفَة مِنَ الضَّحَايَا تِسْعِيْنَ أَلفَ رَأْس.
وَيُقَالُ:إِنَّهُ أَتلفَ مِنَ المَال ثَمَانِيْنَ أَلف ألف دِيْنَار، عثَّر نَفْسَه بِيَدِهِ.
وَأَوْلاَده:مُحَمَّد الرَّاضِي، وَإِبْرَاهِيْم المتَّقِي، وَإِسْحَاق، وَالمُطِيع فَضْل، وَإِسْمَاعِيْل، وَعِيْسَى، وَعَبَّاس، وَطَلْحَة.
وَقَالَ ثَابِت بنُ سِنَان طبيبُه:أَتلفَ المُقْتَدِرُ نَيِّفاً وَسَبْعِيْنَ أَلف أَلف دِيْنَار.
وَلَمَّا قُتِلَ قُدِّمَ رَأْسُه إِلَى مُؤنس فَنَدِمَ وَبَكَى، وَقَالَ:وَاللهِ لنُقْتَلنَّ كلُّنَا، وَهمَّ بِإِقَامَة وَلده، ثُمَّ اتفقُوا عَلَى أَخِيْهِ القَاهر.(15/56)
(29/51)