أَلْب آرْسَلاَنَ مُحَمَّدُ بنُ جَغْرِيْبَكَ دَاوُدَ التُّرُكْمَانِيُّ
 
السُّلْطَانُ الكَبِيْرُ، المَلِكُ العَادِلُ، عَضُدُ الدَّوْلَةِ، أَبُو شُجَاعٍ أَلْب آرْسَلاَنَ مُحَمَّدُ ابْنُ السُّلْطَانِ جَغْرِيْبَكَ دَاوُدَ بنِ مِيْكَائِيْلَ بنِ سَلْجُوْق بنِ تُقَاقَ بنِ سَلْجُوْق التُّرُكْمَانِيُّ، الغُزِّيُّ.
مِنْ عظمَاء مُلُوْك الإِسْلاَم وَأَبْطَالهم.
وَلَمَّا مَاتَ عَمُّه طُغْرَلْبَك، عَهِدَ بِالملكِ إِلَى سُلَيْمَان أَخِي أَلب آرسلاَن، فَحَارَبَهُ أَلب آرسلاَن وَعَمّه قُتُلْمِش، فَتلاشَى أَمرُ سُلَيْمَان، وَتسلطن أَلب آرسلاَن.
وَقِيْلَ:نَازعه فِي المُلك أَيْضاً قُتُلْمِش، وَأَقْبَلَ فِي تِسْعِيْنَ أَلْفاً، وَكَانَ أَلب آرسلاَن فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفاً، فَهَزم قُتُلْمِش، وَوُجد بَعْد الهَزِيْمَة ميتاً.
قِيْلَ:رَمَتْهُ الدَّابَة.
وَحُمِلَ فَدُفِنَ بِالرَّيّ، وَكَانَ حَاكماً عَلَى الدَّامغَان وَغَيْرهَا.(18/415)
(35/383)

وَعَظُمَ أَمر السُّلْطَان أَلب آرسلاَن، وَخُطِبَ لَهُ عَلَى مَنَابِر العِرَاق وَالعجم وَخُرَاسَان، وَدَانت لَهُ الأُمَم، وَأَحَبَّته الرَّعَايَا، وَلاَ سِيَّمَا لمَا هزم العَدُوِّ، فَإِنَّ الطَّاغِيَة عَظِيْم الرُّوْم أَرمَانوس حشدَ، وَأَقْبَلَ فِي جمعٍ مَا سُمِعَ بِمِثْلِهِ، فِي نَحْو مِنْ مائَتَيْ أَلف مقَاتل مِنَ الرُّوْم وَالفِرَنْج وَالكُرْج وَغَيْر ذَلِكَ وَصل إِلَى مَنَازْكِرْد، وَكَانَ السُّلْطَان بخُوَيّ قَدْ رَجَعَ مِنَ الشَّام فِي خَمْسَةَ عَشَرَ أَلف فَارِس، وَبَاقِي جُيوشه فِي الأَطرَاف، فَصمَّم عَلَى المَصَافّ، وَقَالَ:أَنَا أَلتقيهُم - وَحَسْبِي الله - فَإِن سَلِمْتُ، وَإِلاَّ فَابْنِي مَلِكْشَاه وَلِيُّ عهدي.
وَسَارَ، فَالتَقَى يَزَكُه وَيَزَكُ القَوْم، فَكسرهم يَزَكُه، وَأَسرُوا مَقَدَّمَهُم، فَقَطَع السُّلْطَانُ أَنفَه.
وَلَمَّا التَقَى الجمعَان، وَترَاءى الكُفْرُ وَالإِيْمَان، وَاصطدم الجبلاَن، طلب السُّلْطَانُ الهُدْنَةَ، قَالَ أَرمَانوس:لاَ هُدْنَةَ إِلاَّ بِبذل الرَّيّ، فَحمِي السُّلْطَانُ، وَشَاط، فَقَالَ إِمَامُه:إِنَّك تُقَاتِلُ عَنْ دينٍ وَعَدَ اللهُ بِنصره، وَلَعَلَّ هَذَا الفَتْح باسمك، فَالْقهم وَقتَ الزَّوَال - وَكَانَ يَوْم جُمُعَة - .
قَالَ:فَإِنَّهُ يَكُوْن الخُطَبَاءُ عَلَى المَنَابِر، وَإِنَّهم يَدعُوْنَ لِلمُجَاهِدين.
فَصلّوا، وَبَكَى السُّلْطَانُ، وَدَعَا وَأَمَّنُوا، وَسجد، وَعَفَّر وَجهَه، وَقَالَ:يَا أُمَرَاء!مَنْ شَاءَ فَلينصرف، فَمَا هَا هُنَا سُلْطَان.(18/416)
(35/384)

وَعَقَدَ ذَنَبَ حِصَانه بِيَدِهِ، وَلَبِسَ البيَاض وَتَحنَّط، وَحَمَلَ بجَيْشه حملَة صَادِقَة، فَوَقَعُوا فِي وَسط العَدُوّ يَقتلُوْنَ كَيْفَ شَاؤُوا، وَثبت العَسْكَرُ، وَنَزَلَ النَّصْر، وَوَلَّتِ الرُّوْم، وَاسْتَحَرَّ بِهِم القتل، وَأُسِرَ طَاغِيَتهم أَرمَانوس، أَسره مَمْلُوْكٌ لِكوهرَائِين، وَهَمَّ بِقَتْلِهِ، فَقَالَ إِفرنجِي:لاَ لاَ، فَهَذَا الملك.
وَقَرَأْت بخطّ القِفْطِيّ أَنَّ أَلب آرسلاَن بِالغ فِي التَّضَرُّع وَالتذلل، وَأَخلص للهِ.
وَكَيْفِيَةُ أسر الطَّاغِيَة أَنَّ مَمْلُوْكاً وَجد فَرساً بلجَام مجَوْهَر وَسرج مَذْهَب مَعَ رَجُلٍ، بَيْنَ يَدَيْهِ مِغفرٌ مِنَ الذَّهَبِ، وَدرع مَذْهَّب، فَهَمَّ الغُلاَم، فَأَتَى بِهِ إِلَى بَيْنَ يَدي السُّلْطَان، فَقنَّعه بِالمِقرعَة، وَقَالَ:وَيْلَك!أَلَمْ أَبعثَ أَطلب مِنْكَ الهُدنَة؟
قَالَ:دعنِي مِنَ التَّوبيخ.
قَالَ:مَا كَانَ عَزْمُك لَوْ ظفرتَ بِي؟
قَالَ:كُلُّ قبيح.
قَالَ:فَمَا تُؤَمِّلُ وَتَظُنُّ بِي؟
قَالَ:القتلُ أَوْ تُشهّرُنِي فِي بلاَدك، وَالثَّالِثَة بعيدَةٌ:العفوُ وَقبولُ الفِدَاء.
قَالَ:مَا عَزمتُ عَلَى غَيْرهَا.
فَاشْتَرَى نَفْسه بِأَلفِ أَلفِ دِيْنَار وَخَمْسِ مائَة أَلْف دِيْنَار، وَإِطلاَقِ كُلّ أَسير فِي بلاَده، فَخلع عَلَيْهِ، وَبَعَثَ مَعَهُ عِدَّة، وَأَعْطَاهُ نَفَقَة تُوصلُه.
وَأَمَّا الرُّوْم فَبَادرُوا، وَملَّكُوا آخر، فَلَمَّا قرب أَرمَانوس، شعر بزوَال ملكه، فَلَبِسَ الصُّوف، وَترهَّب، ثُمَّ جمع مَا وَصلتْ يَدُه إِلَيْهِ نَحْو ثَلاَث مائَة أَلْف دِيْنَار، وَبَعَثَ بِهَا، وَاعْتَذَرَ، وَقِيْلَ:إِنَّهُ غلب عَلَى ثغور الأَرمن.
وَكَانَتِ المَلْحَمَة فِي سَنَةِ ثَلاَثٍ وَسِتِّيْنَ.
(35/385)

وَقَدْ غَزَا بلاَد الرُّوْم مرَّتين، وَافتَتَح قلاعاً، وَأَرعب المُلُوْكَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى أَصْبَهَانَ، وَمِنْهَا إِلَى كِرْمَان وَبِهَا أَخُوْهُ حَاروت، وَذَهَبَ إِلَى شيرَاز، ثُمَّ عَادَ إِلَى خُرَاسَانَ، وَكَادَ أَنْ يَتملّك مِصْر.(18/417)
ثُمَّ فِي سَنَةِ خَمْسٍ عبر السُّلْطَانُ بجيوشه نَهْر جَيْحُون، وَكَانُوا مائَتَيْ أَلف فَارِس، فَأُتِي بِعِلْج يُقَالَ لَهُ:يُوْسُف الخُوَارِزْمِيّ.
كَانَتْ بِيَدِهِ قَلْعَة، فَأَمر أَنْ يُشْبَحَ فِي أَرْبَعَة أَوتَاد، فَصَاح:يَا مخنثُ:مِثْلِي يُقتل هَكَذَا؟
فَاحتدَّ السُّلْطَانُ، وَأَخَذَ القوس، وَقَالَ:دعُوْهُ.
وَرمَاهُ فَأَخطَأَه فَطَفَرَ يُوْسُفُ إِلَى السَّرِيْر، فَقَامَ السُّلْطَانُ، فَعَثر عَلَى وَجهه، فَبرك العِلْجُ عَلَى السُّلْطَان، وَضَرَبَه بِسكِّين، وَتَكَاثر المَمَالِيْكُ، فَهبرَّوهُ، وَمَاتَ مِنْهَا السُّلْطَان، وَذَلِكَ فِي جُمَادَى الآخِرَة سَنَة خَمْسٍ وَسِتِّيْنَ وَأَرْبَعِ مائَة، وَلَهُ أَرْبَعُوْنَ سَنَةً.
(35/386)

قَالَ مُؤيد الدَّوْلَة ابْنُ مُنْقِذ:سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ النَّجَّار رسولَ نَاصِرِ الدَّوْلَة ابْنِ حَمْدَان المتغلب عَلَى مِصْرَ إِلَى أَلب آرسلاَن يَسْتَدعيه، وَيطلبُ عَسَاكِره ليتسلم ديَارَ مِصْر، لمَا وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السودَان، وَكَانَتِ المرَاسلَة فِي سَنَةِ(463)، فَوردت عَلَيْهِ بِخُرَاسَانَ، فَجَهَّزَ جَيْشاً كَثِيْراً، وَوصل هُوَ إِلَى ديَار بكر، ثُمَّ نَازل الرُّهَا، وَحَاصرهَا وَسيَّر رَسُوْلهَ إِلَى مُتَوَلِّي حلب مَحْمُوْد بن نَصْر، يَسْتَمده، وَيَأْمرُه أَنْ يَطَأَ بِسَاطه أُسْوَة غَيْره مِنَ المُلُوْك، فَلَمْ يَفْعَلْ وَخَافَ، فَأَقْبَل هُوَ، فَنَازل حلب، وَانتشرت عَسَاكِرُه بِالشَّامِ، ثُمَّ خَرَجَ مَحْمُوْد إِلَى خدمته، فَأَكْرَمَه، وَصَالِحه، ثُمَّ فَتر السُّلْطَانُ عَنْ مِصْر، فَحرَّكه طَاغِيَة الرُّوْم أَرمَانوس، وَمَاتَ أَبُوْهُ صَاحِبُ خُرَاسَان بسَرْخَس فِي رَجَب فِي سَنَةِ إِحْدَى وَخَمْسِيْنَ وَأَرْبَعِ مائَة، وَلَهُ سَبْعُوْنَ سَنَةً، وَكَانَ فِي مُقَابلَة أَوْلاَد مَحْمُوْد بن سُبُكْتِكِين، وَكَانَ يَنطوِي عَلَى بَعْض عَدْلٍ وَدين، وَيُنْكِر عَلَى أَخِيْهِ طُغْرُلْبَك ظُلمه.
وَمَاتَ مَعَهُ فِي السَّنَةِ:آرسلاَن البَسَاسيرِيّ الأَمِيْر، صَاحِبُ الفِتْنَة العُظْمَى، الَّذِي أَخَذَ بَغْدَاد، وَخَطَبَ بِهَا لصَاحِب مِصْر المُسْتنصر الرَّافضِيّ، وَهَرَبَ خَلِيْفَةُ بَغْدَاد، وَاسْتجَار بِالعَرَب.(18/418)
(35/387)