مَلِكْشَاه جلاَلُ الدَّوْلَة بنُ أَلب آرسلاَنَ السَّلْجُوْقِيُّ
 
السُّلْطَانُ الكَبِيْرُ، جلاَلُ الدَّوْلَةِ، أَبُو الفَتْحِ مَلِكْشَاه ابنُ السُّلْطَان أَلب أَرسلاَن مُحَمَّد بن جغرِيبَك السَّلْجُوْقِي، التُّركِي.
تَمَلَّك بَعْد أَبِيْهِ، وَدَبَّر دَوْلَته النّظَامُ الوَزِيْرُ بِوصيَةٍ مِنْ أَلب أرسلاَن إِلَيْهِ، فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّيْنَ، فَخَرَجَ عَلَيْهِ عَمُّه مَلِكُ كِرْمَان قَاروت، فَالْتَقَوا بِقُرْبِ هَمَذَان، فَانْكَسَرَ جَمعُهُ، وَأُتِي بعَمِّه أَسِيْراً، فَوبَّخه، فَقَالَ:أُمرَاؤك كَاتَبونِي، وَأَحضر خرِيطَةً فِيْهَا كُتُبُهُم، فَنَاوَلَهَا لنظَام الملك لِيقرَأهَا، فَرمَاهَا فِي مِنْقَلِ نَارٍ، فَفَرِحَ الأُمَرَاءُ، وَبَذَلُوا الطَّاعَةَ، وَخَنَقَ عَمَّهُ، ثُمَّ تَمَلَّكَ مِنَ المَدَائِن مَا لَمْ يَملكه سُلْطَان، فَمَنْ ذَلِكَ مَدَائِنُ مَا وَرَاءَ النَّهْر، وَبلاَدُ الهَيَاطِلَة، وَبَابُ الأَبْوَاب، وَبلاَدُ الرُّوْم، وَالجَزِيْرَة، وَكَثِيْرٌ مِنَ الشَّام، فَتملَّك مِنْ كَاشْغَرَ إِلَى القُدْس طُوْلاً، وَمِنْ أَطرَاف قُسْطَنْطِيْنِيَّة إِلَى بلاَد الخَزَر، وَبَحر الهِنْد عرضاً، وَكَانَ حَسَنَ السِّيرَة، لَهِجاً بِالصَّيد وَاللَّهْو، مُغرَىً بِالعَمَائِر، وَحفرِ الأَنْهَار، وَتَشييدِ القَنَاطِر، وَالأَسْوَارِ، وَعَمَّرَ بِبَغْدَادَ جَامِعاً كَبِيْراً، وَأَبطل المُكوسَ وَالخفَارَاتِ فِي جَمِيْع بلاَده.
هَكَذَا نَقَلَ ابْنُ خَلِّكَان.(19/56)
(37/51)

قَالَ:وَصنع بِطرِيق مَكَّة مصَانِع، يُقَالَ:إِنَّهُ ضَبط مَا اصطَاده بِيَدِهِ، فَبَلَغَ عَشْرَة آلاَفِ وَحشٍ، فَتَصَدَّقَ بِعَشْرَةِ آلاَفِ دِيْنَارٍ، وَقَالَ:إِنِّيْ خَائِفٌ مِنْ إِزهَاق الأَرْوَاح لِغِير مَأْكَلَةٍ.
شَيَّعَ مرَّة ركبَ العِرَاق إِلَى العُذَيْب، فَصَادَ شَيْئاً كَثِيْراً، فَبنَى هُنَاكَ مَنَارَةَ القرُوْنَ مِنْ حَوَافر الوحش وَقرونهَا، وَوَقَفَ يَتَأَمَّل الحُجَّاج، فَرقَّ وَنَزَلَ وَسجد، وَعفَّر وَجْهَهُ وَبَكَى، وَقَالَ بِالعجمِيَة:بلِّغُوا سَلاَمِي إِلَى رَسُوْلِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقُولُوا:العَبْدُ العَاصي الآبق أَبُو الفَتْحِ يَخدم وَيَقُوْلُ:يَا نَبِيَّ اللهِ، لَوْ كُنْتُ مِمَّنْ يَصلُح لِتلك الحضرَة المُقَدَّسَة، كُنْتُ فِي الصُّحْبَة، فَضجَّ النَّاسُ وَبكُوْا، وَدَعَوا لَهُ.
وَأَمِنَتِ الطُّرُقُ فِي دَوْلَته، وَانحلَّتِ الأَسعَارُ، وَتَزَوَّجَ الخَلِيْفَةُ المُقْتَدِي بِابْنته بِسِفَارَة شَيْخ الشَّافعيَة أَبِي إِسْحَاقَ، وَكَانَ عُرْسُهَا فِي سَنَةِ ثَمَانِيْنَ، وَعمِلَتْ دَعْوَة لجَيْشِ السُّلْطَان مَا سُمِعَ بِمِثْلِهَا أَبَداً، فَممَا دَخَلَ فِيْهَا أَرْبَعُوْنَ أَلف مَنّاً سُكَّراً، فَوَلَدَتْ لَهُ جَعْفَراً.(19/57)
(37/52)

وَقَدِمَ مَلِكْشَاه بَغْدَاد مرَّتين، وَقَدِمَ إِلَى حلب، وَلَمْ يَكُنْ لِلمقتدي مَعَهُ غَيْرُ الاسْم، ثُمَّ قَدِمهَا ثَالِثاً عليلاً، وَكَانَ المُقتدي قَدْ فَوَّض العَهْدَ إِلَى ابْنِهِ المُسْتظهِر، فَأَلزمه مَلِكْشَاه بعزله، وَأَنْ يُوَلِّي ابْن بِنْته جَعْفَراً، وَأَن يُسلِّم بَغْدَاد إِلَيْهِ، وَيَتحَوَّل إِلَى البَصْرَةِ، فَشقَّ عَلَى المقتدي، وَحَار، ثُمَّ طَلَب المُهلَة عَشْرَة أَيَّام لِيَتَجَهَّز، فَصَام وَطوَى، وَجَلَسَ عَلَى التُّرَاب، وَتضرَّع إِلَى رَبِّهُ، فَقوِيَ بِالسُّلْطَان المرضُ، وَمَاتَ فِي شَوَّال، سَنَةَ خَمْسٍ وَثَمَانِيْنَ، عَنْ تِسْعٍ وَثَلاَثِيْنَ سَنَةً، فَقِيْلَ:سُمَّ فِي خِلالٍ تَخَلَّلَ بِهِ، وَكَانَ وَزِيْرُهُ النِّظَام قَدْ قُتِلَ مِنْ أَيَّام، وَلَمْ يَشْهَدِ السُّلْطَانَ كَبِيْرُ أَحَد، وَلاَ عُمِلَ لَهُ عزَاء، وَنُقِلَ تَابوته إِلَى أَصْبَهَانَ، فَدُفِنَ فِي مدرسَةٍ عَظِيْمَة.
وَقَدْ تَزَوَّجَ المُسْتظهرُ بِاللهِ بِخَاتُوْنَ بِنْتِهِ الأُخْرَى، وَتنَازع فِي المُلك أَوْلاَدُهُ مِنْ بَعْدِهُ زَمَاناً، وَكَانَ آخِرُهُم مَوْتاً ابْنُهُ سَنْجَر صَاحِبُ خُرَاسَان، عَاشَ بَعْدَ أَبِيْهِ أَقلَّ مِنْ سَبعِينَ سَنَةً.
وَكَانَ ملكشَاهُ كَثِيْرَ الجُيُوْش، خفِيفَ الرِّكَاب، عبر فِي سَنَةِ(482)إِلَى مَا وَرَاء النَّهْر، فَسَارَ إِلَى بُخَارَى، وَسَمَرْقَنْد، فَتَمَلَّكَهَا، ثُمَّ سَارَ فِي بلاَد التُّرك إِلَى كَاشْغَر، فَأَذعَن صَاحِبُهَا بطَاعته، وَنَزَلَ إِلَى خِدمَته.
قَالَ المُؤَيَّد فِي(تَارِيْخِهِ):كَانَ مِنْ أَحْسَن النَّاسِ صُوْرَةً وَمَعْنَى، خُطِبَ لَهُ مِنْ حُدُوْد الصِّينِ إِلَى آخِرِ الشَّام، وَمِنْ مَمْلَكَة الرُّوْم إِلَى اليَمَنِ، وَقَصَدَ حلب، فَافْتَتَحَهَا، وَدَانَت لَهُ الدُّنْيَا.(19/58)
(37/53)