ابْنُ عَقِيْلٍ أَبُو الوَفَاءِ عَلِيُّ بنُ عَقِيْلِ بنِ مُحَمَّدٍ
 
الإِمَامُ، العَلاَّمَةُ، البَحْرُ، شَيْخُ الحنَابلَة، أَبُو الوَفَاء عَلِيُّ بنُ عَقِيْل بن مُحَمَّدِ بنِ عَقِيْلِ بنِ عَبْدِ اللهِ البَغْدَادِيّ، الظَّفَرِيّ، الحَنْبَلِيّ، المُتَكَلِّم، صَاحِبُ التَّصَانِيْفِ، كَانَ يَسكن الظَّفَرِيَة، وَمَسجِدُه بِهَا مَشْهُوْر.(19/444)
وُلِدَ:سَنَةَ إِحْدَى وَثَلاَثِيْنَ وَأَرْبَعِ مائَةٍ.
وَسَمِعَ:أَبَا بَكْرٍ بنَ بِشْرَان، وَأَبَا الفَتْح بن شيطَا، وَأَبَا مُحَمَّدٍ الجَوْهَرِيّ، وَالحَسَنَ بنَ غَالِبٍ المُقْرِئ، وَالقَاضِي أَبَا يَعْلَى بنَ الفَرَّاءِ، وَتَفَقَّهَ عَلَيْهِ.
وَتَلاَ بِالعَشرِ عَلَى:أَبِي الفَتْحِ بن شِيطَا.
وَأَخَذَ العَرَبِيَّة عَنْ:أَبِي القَاسِمِ بنِ بَرْهَان.
وَأَخَذَ عِلْمَ العَقْلِيَّات عَنْ شَيْخَي الاعتزَال:أَبِي عَلِيٍّ بنِ الوَلِيْدِ، وَأَبِي القَاسِمِ بنِ التَّبَّانِ صَاحِبَي أَبِي الحُسَيْنِ البَصْرِيِّ، فَانْحَرَفَ عَنِ السُّنَّةِ.(19/445)
وَكَانَ يَتوَقَّدُ ذكَاءً، وَكَانَ بحرَ معَارِفَ، وَكنزَ فَضَائِل، لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي زَمَانِهِ نَظير عَلَى بدعته، وَعَلَّق كِتَاب(الفُنُوْنِ)، وَهُوَ أَزْيَدُ مِنْ أَرْبَع مائَة مُجلَّد، حشد فِيْهِ كُلَّ مَا كَانَ يَجرِي لَهُ مَعَ الفُضَلاَء وَالتَّلاَمذَة، وَمَا يَسْنَحُ لَهُ مِنَ الدَّقَائِق وَالغَوَامِضِ، وَمَا يَسْمَعُهُ مِنَ العَجَائِب وَالحوَادث.(19/446)
(37/415)

حَدَّثَ عَنْهُ:أَبُو حَفْصٍ المغَازلِي، وَأَبُو المُعَمَّر الأَنْصَارِيّ، وَمُحَمَّدُ بن أَبِي بَكْرٍ السِّنْجِيّ، وَأَبُو بَكْرٍ السَّمْعَانِيّ، وَأَبُو طَاهِرٍ السِّلَفِيُّ، وَأَبُو الفَضْلِ خطيبُ المَوْصِل، وَابْنُ نَاصر، وَآخَرُوْنَ.
أَنبؤونَا عَنْ حَمَّادٍ الحَرَّانِيّ، سَمِعَ السِّلَفِيّ يَقُوْلُ:
مَا رَأَتْ عَيْنِي مِثْلَ أَبِي الوَفَاء بن عَقِيْل الفَقِيْه، مَا كَانَ أَحَدٌ يَقدِرُ أَنْ يَتَكَلَّم مَعَهُ لِغزَارَة عِلْمه، وَحُسن إِيرَاده، وَبَلاغَةِ كَلاَمِه، وَقُوَّة حجته، تَكَلَّمَ يَوْماً مَعَ شيخنَا إِلْكِيَا أَبِي الحَسَنِ، فَقَالَ لَهُ إِلكيَا:هَذَا لَيْسَ مَذْهَبك.
فَقَالَ:أَكُوْنُ مِثْل أَبِي عَلِيٍّ الجُبَّائِي، وَفُلاَن وَفُلاَن لاَ أَعْلَمُ شَيْئاً؟!أَنَا لِي اجْتِهَاد مَتَى مَا طَالبنِي خصمٌ بِالحُجَّة، كَانَ عِنْدِي مَا أَدفع بِهِ عَنْ نَفْسِي وَأَقومُ لَهُ بِحجتِي.
فَقَالَ إِلكيَا:كَذَاكَ الظَّنُّ بِكَ.
وَقَالَ ابْنُ عَقِيْلٍ:عصمنِي اللهُ فِي شبَابِي بِأَنْوَاعٍ مِنَ العِصْمَة، وَقَصَرَ مَحَبَّتِي عَلَى العِلْم، وَمَا خَالطتُ لَعَّاباً قَطُّ، وَلاَ عَاشرتُ إِلاَّ أَمثَالِي مِنْ طَلبَةِ العِلْم، وَأَنَا فِي عَشْرِ الثَّمَانِيْنَ أَجِدُ مِنَ الحِرْصِ عَلَى العِلْم أَشدّ مِمَّا كُنْتُ أَجده وَأَنَا ابْنُ عِشْرِيْنَ، وَبلغتُ لاِثْنَتَيْ عَشْرَة سَنَةً، وَأَنَا اليَوْمَ لاَ أَرَى نَقصاً فِي الخَاطر وَالفِكرِ وَالحِفْظ، وَحدَّةِ النَّظَر بِالعين لرُؤْيَة الأَهلَةِ الخفِيَة إِلاَّ أَنَّ القوَّة ضَعِيْفَة.
(37/416)

قَالَ ابْنُ الجَوْزِيِّ:كَانَ ابْنُ عَقِيْلٍ ديناً، حَافِظاً لِلْحُدُوْدِ، تُوُفِّيَ لَهُ ابْنَانِ، فَظَهَرَ مِنْهُ مِنَ الصَّبْر مَا يُتَعَجَّب مِنْهُ، وَكَانَ كَرِيْماً يُنفِق مَا يَجد، وَمَا خلَّف سِوَى كتبِه وَثِيَابِ بدنه، وَكَانَتْ بِمِقْدَار، تُوُفِّيَ بُكرَة الجُمُعَة، ثَانِي عشر جُمَادَى الأُوْلَى، سَنَةَ ثَلاَثَ عَشْرَةَ وَخَمْسِ مائَة، وَكَانَ الجمعُ يَفوت الإِحصَاءُ، قَالَ ابْنُ نَاصر شَيْخُنَا:حزرتُهُم بِثَلاَثِ مائَةِ أَلْف.(19/447)
قَالَ المُبَارَكُ بنُ كَامِلٍ:صُلِّي عَلَى شَيخنَا بِجَامِع القَصْر، فَأَمَّهُم ابْنُ شَافع، وَكَانَ الجمعُ مَا لاَ يُحصَى، وَحُمِلَ إِلَى جَامِع المَنْصُوْر، فَصُلِّي عَلَيْهِ، وَجَرَتْ فِتْنَةً، وَتَجَارَحُوا، وَنَال الشَّيْخُ تَقطيع كفن، وَدُفِنَ قَرِيْباً مِنَ الإِمَام أَحْمَد.
وَقَالَ ابْنُ الجَوْزِيِّ أَيْضاً فِيْهِ:هُوَ فَرِيْدُ فَنِّه، وَإِمَامُ عصره، كَانَ حَسَنَ الصُوْرَة، ظَاهِرَ المَحَاسِن.
قَالَ:قَرَأْتُ عَلَى القَاضِي أَبِي يَعْلَى مِنْ سَنَةِ سَبْعٍ وَأَرْبَعِيْنَ وَإِلَى أَنْ تُوُفِّيَ، وَحظيتُ مِنْ قُربه بِمَا لَمْ يَحظ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ مَعَ حدَاثَة سِنِّي، وَكَانَ أَبُو الحَسَنِ الشِّيرَازِي إِمَامَ الدُّنْيَا وَزَاهِدَهَا، وَفَارِسَ المنَاظرَة وَواحدَهَا، يعلمنِي المنَاظرَة، وَانتفعتُ بِمُصَنّفَاته...، ثُمَّ سَمَّى جَمَاعَة مِنْ شُيُوْخِهِ.
ثُمَّ قَالَ:وَكَانَ أَصْحَابُنَا الحنَابلَة يُرِيْدُوْنَ مِنِّي هِجرَان جَمَاعَةٍ مِنَ العُلَمَاءِ، وَكَانَ ذَلِكَ يَحرِمنِي عِلْماً نَافِعاً.
قُلْتُ:كَانُوا يَنهونه عَنْ مُجَالَسَةِ المُعْتَزِلَة، وَيَأْبَى حَتَّى وَقَعَ فِي حَبَائِلهِم، وَتَجسَّر عَلَى تَأْويلِ النصوص - نَسْأَلُ اللهَ السَّلاَمَةَ - .
(37/417)

قَالَ:وَأَقْبَلَ عَليَّ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُوْرٍ بنُ يُوْسُفَ، وَقَدَّمنِي عَلَى الفتَاوِي، وَأَجلَسَنِي فِي حَلْقَةِ البَرَامِكَةِ بِجَامِعِ المَنْصُوْر لَمَّا مَاتَ شَيخُنَا فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَخَمْسِيْنَ وَأَرْبَعِ مائَةٍ، وَقَامَ بِكُلِّ مُؤنتِي وَتَجَمُّلِي.(19/448)
وَأَمَّا أَهْلُ بَيْتِي، فَإِنَّهُم أَربَابُ أَقلاَم وَكِتَابَة وَأَدب، وَعَانَيْتُ مِنَ الفَقْر وَالنسخ بِالأُجرَة مَعَ عِفَّةٍ وَتُقَى، وَلَمْ أُزَاحم فَقِيْهاً فِي حَلْقَة، وَلاَ تَطلب نَفْسِي رُتْبَةً مِنْ رتب أَهْل العِلْمِ القَاطعَة عَنِ الفَائِدَة، وَأُوْذِيت مِنْ أَصْحَابِي، حَتَّى طُلب الدَّمُ، وَأُوْذِيت فِي دَوْلَةِ النِّظَام بِالطلب وَالحَبْس.
وَفِي(تَارِيخ ابْن الأَثِيْرِ)قَالَ:كَانَ قَدِ اشْتَغَل بِمَذْهَب المُعْتَزِلَةِ فِي حَدَاثَتِهِ عَلَى ابْنِ الوَلِيْدِ، فَأَرَادَ الحَنَابِلَةُ قَتْلَه، فَاسْتجَارَ بِبَابِ المَرَاتِب عِدَّة سِنِيْنَ، ثُمَّ أَظهر التَّوبَة.
وَقَالَ ابْنُ عَقِيْلٍ فِي(الفُنُوْنِ):الأَصْلحُ لاعتقَاد العوَامِّ ظوَاهر الآي، لأَنَّهُم يَأْنسُوْنَ بِالإِثْبَات، فَمتَى مَحَونَا ذَلِكَ مِنْ قلوبهِم، زَالت الحِشْمَة.
قَالَ:فَتهَافُتهُم فِي التَّشبيه أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ إِغرَاقِهِم فِي التَّنْزِيه، لأَنَّ التَّشبيه يَغْمِسُهُم فِي الإِثْبَات، فَيخَافُوْنَ وَيَرجُوْنَ، وَالتَّنْزِيه يَرمِي بِهِم إِلَى النَّفْي، فَلاَ طَمَعَ وَلاَ مَخَافَة فِي النَّفْي، وَمنْ تدبَّر الشَّرِيعَة، رَآهَا غَامسَة لِلمُكلفين فِي التَّشبيه بِالأَلْفَاظ الظَّاهِرَة الَّتِي لاَ يُعطِي ظَاهِرهَا سِوَاهُ، كقول الأَعْرَابِيّ:أَوَ يَضحكُ رَبُّنَا؟
قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :(نَعَمْ)، فَلَمْ يَكفهِرَّ لِقَوْلِهِ، تركه وَمَا وَقَعَ لَهُ.(19/449)
(37/418)

قُلْتُ:قَدْ صَارَ الظَّاهِرُ اليَوْم ظَاهِرَيْنِ:أَحَدُهُمَا حقّ، وَالثَّانِي بَاطِل، فَالحَقّ أَنْ يَقُوْلَ:إِنَّهُ سمِيْع بَصِيْر، مُرِيْدٌ متكلّم، حَيٌّ عَلِيْم، كُلّ شَيْء هَالك إِلاَّ وَجهَهُ، خلق آدَمَ بِيَدِهِ، وَكلَّم مُوْسَى تَكليماً، وَاتَّخَذَ إِبْرَاهِيْمَ خَلِيْلاً، وَأَمثَال ذَلِكَ، فَنُمِرُّه عَلَى مَا جَاءَ، وَنَفهَمُ مِنْهُ دلاَلَةَ الخِطَابِ كَمَا يَليق بِهِ تَعَالَى، وَلاَ نَقُوْلُ:لَهُ تَأْويلٌ يُخَالِفُ ذَلِكَ.
وَالظَّاهِرُ الآخر وَهُوَ البَاطِل، وَالضَّلاَل:أَنْ تَعتَقِدَ قيَاس الغَائِب عَلَى الشَّاهد، وَتُمَثِّلَ البَارِئ بِخلقه، تَعَالَى الله عَنْ ذَلِكَ، بَلْ صفَاتُهُ كَذَاته، فَلاَ عِدْلَ لَهُ، وَلاَ ضِدَّ لَهُ، وَلاَ نَظيرَ لَهُ، وَلاَ مِثْل لَهُ، وَلاَ شبيهَ لَهُ، وَلَيْسَ كَمثله شَيْء، لاَ فِي ذَاته، وَلاَ فِي صفَاته، وَهَذَا أَمرٌ يَسْتَوِي فِيْهِ الفَقِيْهُ وَالعَامِيُّ - وَاللهُ أَعْلَمُ - .
قَالَ السِّلَفِيّ:سَمِعْتُ ابْنَ عَقِيْل يَقُوْلُ:
كَانَ جَدِّي كَاتِبَ بهَاءِ الدَّوْلَة بن بُويه، وَهُوَ الَّذِي كتب نُسخَة عزل الطَّائِع، وَتوليَة القَادِر، وَهِيَ عِنْدِي بِخَطِّ جَدِّي.
وَقَالَ أَبُو المُظَفَّرِ سِبْطُ ابْن الجَوْزِيّ:حَكَى ابْنُ عَقِيْل عَنْ نَفْسِهِ قَالَ:
حججتُ، فَالتقطتُ عقد لُؤْلُؤٍ فِي خيط أَحْمَرَ، فَإِذَا شَيْخٌ أَعْمَى يَنشُدُه، وَيبذُلُ لملتقطه مائَة دِيْنَارٍ، فَرددتُهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ:خُذِ الدَّنَانِيْر.
فَامتنعتُ، وَخَرَجتُ إِلَى الشَّامِ، وَزُرْتُ القُدْس، وَقصدتُ بَغْدَادَ، فَأَويتُ بِحَلَبَ إِلَى مَسْجِد وَأَنَا بردَانُ جَائِع، فَقَدَّمُوْنِي، فَصَلَّيْتُ بِهِم، فَأَطعمُوْنِي، وَكَانَ أَوَّلَ رَمَضَان، فَقَالُوا:إِمَامُنَا تُوُفِّيَ، فَصَلِّ بِنَا هَذَا الشَّهْرَ.
فَفَعَلتُ، فَقَالُوا:لإِمَامِنَا بِنْتٌ.
(37/419)

فَزُوِّجْتُ بِهَا، فَأَقَمْتُ مَعَهَا سَنَة، وَأَوْلَدْتُهَا وَلداً ذكراً، فَمَرِضَتْ فِي نَفَاسهَا، فَتَأَمَّلتُهَا يَوْماً فَإِذَا فِي عُنُقِهَا العقدُ بِعَيْنِهِ بِخَيطِهِ الأَحْمَر، فَقُلْتُ لَهَا:لِهَذَا قِصَّة.
وَحكيتُ لَهَا، فَبكت، وَقَالَتْ:أَنْتَ هُوَ وَاللهِ، لَقَدْ كَانَ أَبِي يَبْكِي، وَيَقُوْلُ:اللَّهُمَّ ارزُقْ بِنْتِي مِثْل الَّذِي رَدَّ العقدَ عَلِيَّ، وَقَدِ اسْتَجَاب اللهُ مِنْهُ.
ثُمَّ مَاتَتْ، فَأَخَذتُ العِقدَ وَالمِيْرَاثَ، وَعُدْتُ إِلَى بَغْدَادَ.(19/450)
وَحَكَى عَنْ نَفْسِهِ، قَالَ:كَانَ عِنْدَنَا بِالظَّفَرِيَة دَارٌ، كلَمَّا سكنهَا نَاسٌ أَصْبَحُوا مَوْتَى، فَجَاءَ مرَّة رَجُلٌ مُقْرِئ، فَاكترَاهَا، وَارتضَى بِهَا، فَبَاتَ بِهَا وَأَصْبَح سَالِماً، فَعجبَ الجيرَانُ، وَأَقَامَ مُدَّةً، ثُمَّ انتقل، فَسُئِلَ، فَقَالَ:لَمَّا بِتُّ بِهَا، صَلَّيْتُ العشَاء، وَقَرَأْتُ شَيْئاً، وَإِذَا شَابّ قَدْ صَعِدَ مِنَ البِئْر، فَسَلَّمَ عليَّ، فَبُهِتُّ، فَقَالَ:لاَ بَأْسَ عَلَيْك، عَلِّمنِي شَيْئاً مِنَ القُرْآن.
فَشرعتُ أُعَلِّمُه، ثُمَّ قُلْتُ:هَذِهِ الدَّار، كَيْفَ حَدِيْثُهَا؟
قَالَ:نَحْنُ جِنٌّ مُسْلِمُوْنَ، نَقرَأُ وَنُصلِي، وَهَذِهِ الدَّار مَا يَكترِيهَا إِلاَّ الفُسَّاقُ، فَيَجْتَمِعُوْنَ عَلَى الخَمْر، فَنخنقهُم.
قُلْتُ:فَفِي اللَّيْلِ أَخَافُك، فَجِئ نَهَاراً.
قَالَ:نَعَمْ.
فَكَانَ يَصْعَدُ مِنَ البِئْر فِي النَّهَار، وَأَلِفْتُه، فَبَيْنَمَا هُوَ يَقرَأُ، إِذَا بِمعزم فِي الدَّرب، يَقُوْلُ:المُرقِي مِنَ الدَّبِيْب، وَمِنَ العَينِ، وَمِنَ الجِنِّ.
فَقَالَ:أَيشٍ هَذَا؟
قُلْتُ:مُعَزِّم.
قَالَ:اطلبْه.
(37/420)

فَقُمْتُ وَأَدَخَلتُهُ، فَإِذَا بِالجنِّي قَدْ صَارَ ثُعبَاناً فِي السَّقف، فَعزَّمَ الرَّجُل، فَمَا زَالَ الثُّعبَانُ يَتدلَى حَتَّى سقط فِي وَسط المَنْدَل، فَقَامَ لِيَأْخذه وَيَضعَه فِي الزنبيل، فَمنعتُهُ، فَقَالَ:أَتَمنَعُنِي مِنْ صيدي؟!
فَأَعْطيتُهُ دِيْنَاراً وَرَاح، فَانْتفض الثُّعبَان، وَخَرَجَ الجِنِّي، وَقَدْ ضَعُفَ وَاصْفَرَّ وَذَاب، فَقُلْتُ:مَا لَكَ؟
قَالَ:قتلنِي هَذَا بِهَذِهِ الأَسَامِي، وَمَا أَظننِي أُفْلِحُ، فَاجعل بَالك اللَّيْلَة، مَتَى سَمِعْتَ فِي البِئْر صُرَاخاً، فَانْهَزِمْ.
قَالَ:فَسَمِعْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ النّعِيَّ، فَانْهَزَمتُ.
قَالَ ابْنُ عَقِيْلٍ:وَامْتَنَعَ أَحَدٌ أَنْ يَسكن تِلْكَ الدَّار بَعْدهَا.(19/451)
أَخْبَرْنَا إِسْحَاقُ بنُ طَارِقٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو البَقَاءِ يَعيش، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بن أَحْمَدَ الخَطِيْب، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بنُ عَقِيْلٍ الفَقِيْه، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الجَوْهَرِيُّ، أَخْبَرَنَا القَطِيْعِيّ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بنُ مُوْسَى، حَدَّثَنَا هَوْذَةُ، حَدَّثَنَا عَوْفٌ، عَنْ سَعِيْدِ بنِ أَبِي الحَسَنِ، قَالَ:
كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ، إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ:إِنَّمَا معيشتِي مِنَ التَّصَاوير.
فَقَالَ:سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُوْلُ:(مَنْ صَوَّرَ صُوْرَةً، عَذَّبَهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يَنْفُخَ فِيْهَا، وَلَيْسَ بِنَافِخٍ فِيْهَا أَبَداً).(19/452)
(37/421)