ابْنُ المُعْتَمِدِ أَبُو الفُتُوْحِ مُحَمَّدُ بنُ الفَضْلِ الإِسْفَرَايِيْنِيُّ
 
الوَاعِظ الكَبِيْر، المُتَكَلِّم، أَبُو الفُتُوْحِ مُحَمَّد بنُ الفَضْلِ الإِسْفَرَايِيْنِي، المَعْرُوف بِابْنِ المُعْتَمِدِ.
كَانَ رَأْساً فِي الوَعظِ، فَصِيْحاً، عذب العبَارَة، حلو الإِيرَاد، ظرِيفاً، عَالِماً، كَثِيْر المَحْفُوْظ، صُوْفِيَّ الشَّارَة، جَيِّد التَّصنِيف.
وُلِدَ: سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِيْنَ وَأَرْبَعِ مائَةٍ.
وَسَمِعَ مِنْ: أَبِي الحَسَنِ بنِ الأَخْرَم، وَشِيْرَوَيْهِ الدَّيْلَمِيّ.
رَوَى عَنْهُ: السَّمْعَانِيّ، وَابْن عَسَاكِرَ.
قَالَ ابْنُ النَّجَّارِ: كَانَ مِنْ أَفرَاد الدَّهْر فِي الوعظ، دقيق الإِشَارَة، وَكَانَ أَوحد وَقتِه فِي مَذْهَب الأَشْعَرِيّ، وَلَهُ فِي التَّصَوُّف قَدَمٌ رَاسخ، صَنّف فِي الحقيقَة كُتباً، مِنْهَا كِتَاب (كشف الأَسرَار) وَكِتَاب (بَيَان القَلْب)، وَكِتَاب (بث السر)، وَكُلُّ كتبه نُكتٌ وَإِشَارَات، ظهر لَهُ القبول التَّام بِبَغْدَادَ، وَكَانَ يَتَكَلَّم بِمَذْهَب الأَشْعَرِيّ، فَثَارت الحَنَابِلَة، فَأَمر المُسْترشد بِإِخرَاجه، فَلَمَّا وَلِي المُقْتَفِي رَجَعَ إِلَى بَغْدَادَ، وَعَاد فَعَادت الفِتَنُ، فَأَخرجُوهُ إِلَى بلده.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: هُوَ أَجرَأُ مَنْ رَأَيْتُهُ لِسَاناً وَجَنَاناً، وَأَكْثَرهُم فِيمَا يُورد إِعرَاباً وَإِحسَاناً، وَأَسرعهُم جَوَاباً، وَأَسلسهُم خطَاباً، مَعَ مَا رُزِقَ بَعْدَ صِحَّةِ العقيدَةِ مِنَ الخِصَال الحمِيدَةِ، وَإِرشَاد الخلق، وَبَذْلِ النَّفْس فِي نُصْرَة الحَقِّ...، إِلَى أَنْ قَالَ:
(39/132)

فَمَاتَ مبطوناً شهيداً غرِيباً، لاَزمتُ مَجْلِسه، فَمَا رَأَيْتُ مِثْله وَاعِظاً. (20/141)
قَالَ ابْنُ النَّجَّارِ: قَرَأْت فِي كِتَاب أَبِي بَكْرٍ المَارستَانِي، قَالَ:
حَدَّثَنِي قَاضِي القُضَاة أَبُو طَالِبٍ بنُ الحَدِيْثيِّ، قَالَ:
مرّ بِنَا أَبُو الفُتُوْحِ وَحَوْلَهُ خلق، مِنْهُم مَنْ يَصيح: لاَ نحرف ولاَ نصوب بَلْ عبَادَة، فَرجمه العوَامُّ حَتَّى تَرَاجَمُوا بكلب مَيت، وَعظمت الفِتْنَة، لَوْلاَ قُرْبُهَا مِنْ بَاب النُّوْبِي، لَهلكَ جَمَاعَة، فَاتَّفَقَ جَوَاز عَمِيدِ بَغْدَاد مُوَفَّق الملك، فَهَرَبَ مَنْ مَعَهُ، فَنَزَلَ، وَدَخَلَ إِلَى بَعْضِ الدَّكَاكِينِ، وَأَغلقهَا، ثُمَّ اجْتَمَع بِالسُّلْطَانِ، فَحكَى لَهُ، فَأَمر بِالقبضِ عَلَى أَبِي الفُتُوْحِ وَتَسفِيرِهِ إِلَى هَمَذَان، ثُمَّ إِلَى إِسْفَرَايِيْنَ، وَأَشْهَد عَلَيْهِ أَنَّهُ مَتَى خَرَجَ مِنْهَا، فَدمُهُ هدر.
قَالَ السَّمْعَانِيُّ: أُزعِجَ عَنْ بَغْدَاد، فَأَدْرَكه المَوْت بِبِسْطَامَ، فِي ثَانِي ذِي الحِجَّةِ، سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلاَثِيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ، فَدُفِنَ بِجنب الشَّيْخ أَبِي يَزِيْدَ البِسْطَامِي.
قَالَ ابْنُ الجَوْزِيِّ فِي (المنتظم): قَدِمَ السُّلْطَان مَسْعُوْد بَغْدَاد وَمَعَهُ الحَسَنُ بنُ أَبِي بَكْرٍ النَّيْسَابُوْرِيّ الحَنَفِيّ، أَحَدُ المُنَاظرِيْنَ، فَجَالَستُه، فَجَلَسَ بِجَامِعِ القَصْرِ، وَكَانَ يَلعن الأَشْعَرِيّ جهراً، وَيَقُوْلُ: كُن شَافِعِياً وَلاَ تَكُنْ أَشعرِياً، وَكُنْ حَنفِياً وَلاَ تَكُنْ مُعْتَزِلياً، وَكُنْ حَنْبَلياً، وَلاَ تَكُنْ مُشبِّهاً.
(39/133)

وَكَانَ عَلَى بَابِ النِّظَامِيَّة اسْم الأَشْعَرِيّ، فَأَمر السُّلْطَان بِمحوِهِ، وَكَتَبَ مَكَانَهُ: الشَّافِعِيّ، وَكَانَ الإِسْفَرَايِيْنِي يَعظ فِي رباطه، وَيذكر مَحَاسِن مَذْهَب الأَشْعَرِيّ، فَتقع الخُصُومَاتُ، فَذَهَبَ الغَزْنَوِيّ، فَأَخبر السُّلْطَانَ بِالفِتَنِ، وَقَالَ: إِنَّ أَبَا الفُتُوْح صَاحِبُ فِتْنَةٍ، وَقَدْ رُجم غَيْرَ مَرَّةٍ، وَالصَّوَاب إِخرَاجه.
فَأُخْرِجَ، وَعَاد الحَسَن النَّيْسَابُوْرِيّ إِلَى وَطَنه، وَقَدْ كَانَتِ اللَّعْنَة قَائِمَة فِي الأَسواقِ، وَكَانَ بَيْنَ الإِسْفَرَايِيْنِي وَبَيْنَ الوَاعِظِ أَبِي الحَسَنِ الغَزْنَوِيِّ شنآن، فَنُوْدِيَ فِي بَغْدَادَ أَنْ لاَ يَذْكُرَ أَحَدٌ مَذْهَباً. (20/142)
قُلْتُ: لَمَّا سَمِعَ ابْنُ عَسَاكِرَ بِوَفَاةِ الإِسْفَرَايِيْنِي، أَملَى مَجْلِساً فِي المَعْنَى، سَمِعْنَاهُ بِالاتِّصَالِ، فَيَنْبَغِي لِلمُسْلِمِ أَنْ يَسْتَعيذَ مِنَ الفِتَنِ، وَلاَ يَشغَبَ بِذِكرِ غَرِيْبِ المَذَاهِبِ لاَ فِي الأُصُوْلِ وَلاَ فِي الفُرُوْعِ، فَمَا رَأَيْتُ الحركَةَ فِي ذَلِكَ تُحَصِّلُ خَيْراً، بَلْ تُثِيرُ شَرّاً وَعَدَاوَةً وَمَقْتاً لِلصُّلحَاءِ وَالعُبَّادِ مِنَ الفَرِيْقَيْنِ، فَتمسَّكْ بِالسّنَة، وَالزم الصَّمْت، وَلاَ تَخضْ فِيمَا لاَ يَعْنِيكَ، وَمَا أَشكلَ عَلَيْكَ فَرُدَّهُ إِلَى اللهِ وَرَسُوْلِه، وَقِفْ، وَقُلْ: اللهُ وَرَسُوْلُه أَعْلَمُ.
(39/134)