الكِنْدِيُّ، أَبُو اليُمْنِ زَيْدُ بنُ الحَسَنِ بنِ زَيْدٍ
 
الشَّيْخُ، الإِمَامُ، العَلاَّمَةُ، المُفْتِي، شَيْخُ الحَنَفِيَّةِ، وَشَيْخُ العَرَبِيَّةِ، وَشَيْخُ القِرَاءاتِ، وَمُسْنِدُ الشَّامِ، تَاجُ الدِّيْنِ، أَبُو اليُمْنِ زَيْدُ بنُ الحَسَنِ بنِ زَيْدِ بنِ الحَسَنِ بنِ زَيْدِ بنِ الحَسَنِ بنِ سَعِيْدِ بنِ عصْمَةَ بنِ حِمْيَرٍ الكِنْدِيُّ، البَغْدَادِيُّ، المُقْرِئُ، النَّحْوِيُّ، اللُّغَوِيُّ، الحَنَفِيُّ.
وُلِدَ: فِي شَعْبَانَ، سَنَةَ عِشْرِيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ.
وَحفظَ القُرْآنَ وَهُوَ صَغِيْرٌ مُمَيِّزٌ، وَقرَأَهُ بِالرِّوَايَاتِ العَشْرِ، وَلَهُ عَشْرَةُ أَعْوَامٍ، وَهَذَا شَيْءٌ مَا تَهَيَّأَ لأَحدٍ قَبْلَهُ، ثُمَّ عَاشَ حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِ عُلُوُّ الإِسْنَادِ فِي القِرَاءاتِ، وَالحَدِيْثِ؛ فَتلاَ عَلَى أُسْتَاذِهِ وَمُعَلِّمِهِ أَبِي مُحَمَّدٍ سِبْطِ الخَيَّاطِ، ثُمَّ قرَأَ عَلَى أَقْوَامٍ، فَصَارَ فِي دَرَجَةِ سِبْطِ الخَيَّاطِ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ، فَتلاَ بـ(الكفَايَةِ فِي القِرَاءاتِ السِّتِّ) عَلَى المُعَمَّرِ هِبَةِ اللهِ بنِ أَحْمَدَ بنِ الطَّبَرِ، مِنْ تَلاَمِذَةِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بنِ عَلِيِّ بنِ مُوْسَى الخَيَّاطِ، وَتَلاَ بـ(المِفْتَاحِ) عَلَى مُؤلِّفِهِ ابْنِ خَيْرُوْنَ، وَتَلاَ بِالسَّبْعِ عَلَى خَطِيْبِ المُحَوَّلِ مُحَمَّدِ بنِ إِبْرَاهِيْمَ، وَأَبِي الفَضْلِ بنِ المُهْتَدِي بِاللهِ. (22/35)
(42/35)

وَسَمِعَ مِنَ: القَاضِي أَبِي بَكْرٍ الأَنْصَارِيِّ، وَابْنِ الطَّبَرِ، وَأَبِي مَنْصُوْرٍ القَزَّازِ، وَأَبِي الحَسَنِ بنِ تَوْبَةَ، وَأَخِيْهِ عَبْدِ الجَبَّارِ، وَإِسْمَاعِيْلَ ابْنِ السَّمَرْقَنْدِيِّ، وَطَلْحَةَ بنِ عَبْدِ السَّلاَمِ، وَالحُسَيْنِ بنِ عَلِيٍّ سِبْطِ الخَيَّاطِ، وَعَلِيِّ بنِ عَبْدِ السَّيِّدِ ابْنِ الصَّبَّاغِ، وَعَبْدِ المَلِكِ بنِ أَبِي القَاسِمِ الكَرُوْخِيِّ، وَالمُبَارَكِ بنِ نَغُوْبَا، وَأَبِي القَاسِمِ عَبْدِ اللهِ بنِ أَحْمَدَ اليُوْسُفِيِّ، وَيَحْيَى ابْنِ الطَّرَّاحِ، وَأَبِي الفَتْحِ ابْنِ البَيْضَاوِيِّ، وَعِدَّةٍ.
خَرَّجَ لَهُ عَنْهُم مَشْيَخَةً المُحَدِّثُ أَبُو القَاسِمِ عليٌّ حَفِيْدُ ابْنِ عَسَاكِرَ.
وَقرَأَ النَّحْوَ عَلَى: أَبِي السَّعَادَاتِ ابْنِ الشَّجَرِيِّ، وَسِبْطِ الخَيَّاطِ، وَابْنِ الخَشَّابِ.
وَأَخَذَ اللُّغَةَ عَنْ: أَبِي مَنْصُوْرٍ ابْنِ الجَوَالِيْقِيِّ.
وَسَمِعَ بِدِمَشْقَ مِنْ: عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ أَبِي الحديدِ، وَتَفَرَّدَ بِالرِّوَايَةِ عَنْ غَالِبِ شُيُوْخِهِ، وَأَجَازَ لَهُ عَدَدٌ كَثِيْرٌ، وَتردَّدَ إِلَى البِلاَدِ وَإِلَى مِصْرَ وَالشَّامِ يَتَّجِرُ، ثُمَّ اسْتَوْطَنَ دِمَشْقَ، وَرَأَى عِزّاً وَجَاهاً، وَكثُرَتْ أَمْوَالُهُ، وَازدحَمَ عَلَيْهِ الفُضَلاَءُ، وَعُمِّرَ دَهْراً، وَكَانَ حَنْبَليّاً، فَانْتقلَ حَنَفِيّاً، وَبَرَعَ فِي الفِقْهِ، وَفِي النَّحْوِ، وَأَفتَى، وَدرَّسَ، وَصَنَّفَ، وَلَهُ النَّظْمُ، وَالنَّثْرُ، وَكَانَ صَحِيْحَ السَّمَاعِ، ثِقَةً فِي نَقلِهِ، ظرِيفاً، كَيِّساً، ذَا دُعَابَةٍ وَانطبَاعٍ.
(42/36)

قرَأَ عَلَيْهِ بِالرِّوَايَاتِ: عَلَمُ الدِّيْنِ السَّخَاوِيَّ -وَلَمْ يُسنِدْهَا عَنْهُ - وَعَلَمُ الدِّيْنِ القَاسِمُ بنُ أَحْمَدَ الأَنْدَلُسِيُّ، وَكَمَالُ الدِّيْنِ ابْنُ فَارِسٍ، وَعِدَّةٌ. (22/36)
وَحَدَّثَ عَنْهُ: الحَافِظُ عَبْدُ الغَنِيِّ، وَالحَافِظُ عَبْدُ القَادِرِ، وَالشَّيْخُ المُوَفَّقُ، وَابْنُ نُقْطَةَ، وَابْنُ الأَنْمَاطِيِّ، وَالضِّيَاءُ، وَالبِرْزَالِيُّ، وَالمُنْذِرِيُّ، وَالزَّيْنُ خَالِدٌ، وَالتَّقِيُّ بنُ أَبِي اليُسْرِ، وَالجمَالُ ابْنُ الصَّيْرَفِيِّ، وَأَحْمَدُ بنُ أَبِي الخَيْرِ، وَالقَاضِي شَمْسُ الدِّيْنِ ابْنُ العِمَادِ، وَالشَّيْخُ شَمْسُ الدِّيْنِ بنُ أَبِي عُمَرَ، وَأَبُو الغَنَائِمِ بنُ عَلاَّنَ، وَمُؤَمِّلُ البَالِسِيُّ، وَالصَّاحِبُ كَمَالُ الدِّيْنِ العَدِيْمِيُّ، وَمُحْيِي الدِّيْنِ عُمَرُ بنُ عَصرُوْنَ، وَالفَخْرُ عَلِيٌّ، وَالشَّمْسُ ابْنُ الكَمَالِ، وَمُحَمَّدُ بنُ مُؤْمِنٍ، وَيُوْسُفُ ابْنُ المُجَاوِرِ، وَسِتُّ العربِ بِنْتُ يَحْيَى مَوْلاَهُ، وَمُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ المُنْعِمِ ابْن القَوَّاسِ.
وَرَوَى عَنْهُ بِالإِجَازَةِ: أَبَوَا حَفْصٍ؛ ابْنُ القَوَّاسِ، وَابْنُ العَقِيمِيِّ.
قَالَ ابْنُ النَّجَّارِ: أَسلمَهُ أَبُوْهُ فِي صِغَرِهِ إِلَى سِبْطِ الخَيَّاطِ، فَلقَّنَهُ القُرْآنَ، وَجَوَّدَ عَلَيْهِ، ثُمَّ حَفَّظَهُ القِرَاءاتِ وَلَهُ عشرُ سِنِيْنَ.
(42/37)

قَالَ: وَسَافَرَ عَنْ بَغْدَادَ سَنَةَ ثَلاَثٍ وَأَرْبَعِيْنَ، فَأَقَامَ بِهَمَذَانَ سِنِيْنَ يَتَفَقَّهُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيْفَةَ عَلَى سَعْدٍ الرَّازِيِّ، بِمَدْرَسَةِ السُّلْطَانِ طُغْرل، ثُمَّ إِنَّ أَبَاهُ حَجَّ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِيْنَ، فَمَاتَ فِي الطَّرِيْقِ، فَعَادَ أَبُو اليُمْنِ إِلَى بَغْدَادَ، ثُمَّ تَوجَّهَ إِلَى الشَّامِ، وَاسْتَوْزَرَهُ فَرُّوخشَاه، ثُمَّ بَعْدَهُ اتَّصَلَ بِأَخِيْهِ تَقِيِّ الدِّيْنِ عُمَرَ، وَاختصَّ بِهِ، وَكثُرَتْ أَمْوَالُهُ، وَكَانَ المَلِكُ المُعَظَّمُ يَقرَأُ عَلَيْهِ الأَدبَ، وَيَقصدُهُ فِي مَنْزِلِهِ، وَيُعَظِّمُهُ، قَرَأْتُ عَلَيْهِ كَثِيْراً، وَكَانَ يَصلُنِي بِالنَّفَقَةِ، مَا رَأَيْتُ شَيْخاً أَكملَ مِنْهُ عَقْلاً، وَنُبْلاً، وَثِقَةً، وَصِدقاً، وَتَحَقِيْقاً، وَرزَانَةً، مَعَ دمَاثَةِ أَخلاَقِهِ، وَكَانَ بَهِيّاً، وَقُوْراً، أَشْبَهَ بِالوُزَرَاءِ مِنَ العُلَمَاءِ، لِجَلاَلَتِهِ، وَعُلُوِّ مَنْزِلتِهِ، وَكَانَ أَعْلَمَ أَهْلِ زَمَانِهِ بِالنَّحْوِ، أَظنُّهُ يَحفظُ (كِتَابَ سِيْبَوَيْه)، مَا دَخَلتُ عَلَيْهِ قَطُّ إِلاَّ وَهُوَ فِي يَدِهِ يُطَالِعُهُ، وَكَانَ فِي مُجَلَّدٍ وَاحِدٍ رفِيعٍ، يَقْرَؤُهُ بِلاَ كُلْفَةٍ، وَقَدْ بلغَ التِّسْعِيْنَ، وَكَانَ قَدْ مُتِّعَ بِسَمْعِهِ وَبصرِهِ وَقوَّتِهِ، وَكَانَ مليحَ الصُّوْرَةِ، ظرِيفاً، إِذَا تَكَلَّمَ ازدَادَ حَلاَوَةً، وَلَهُ النَّظْمُ وَالنَّثْرُ وَالبَلاغَةُ الكَامِلَةُ...، إِلَى أَنْ قَالَ:
تُوُفِّيَ، وَحَضَرتُ الصَّلاَةَ عَلَيْهِ. (22/37)
قُلْتُ: كَانَ يَرْوِي كُتُباً كِبَاراً مِنْ كُتُبِ العِلْمِ.
وَرَوَى عَنْهُ (كِتَابَ سِيْبَوَيْه): عَلَمُ الدِّيْنِ القَاسِمُ.
(42/38)

قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَردَ مِصْرَ، وَكَانَ أَوحدَ الدَّهْرِ، فَرِيْدَ العصرِ، فَاشتملَ عَلَيْهِ عِزُّ الدِّيْنِ فَرُّوخشَاه، ثُمَّ ابْنُهُ الأَمجدُ، وَتردَّدَ إِلَيْهِ بِدِمَشْقَ الملكُ الأَفْضَلُ، وَأَخُوْهُ المُحْسِنُ، وَابْنُ عَمِّهِ المُعَظَّم.
قَالَ ضِيَاءُ الدِّيْنِ ابْنُ أَبِي الحَجَّاجِ الكَاتِبُ، عَنِ الكِنْدِيِّ، قَالَ: كُنْتُ فِي مَجْلِسِ القَاضِي الفَاضِلِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَرُّوخشَاه، فَجرَى ذِكْرُ شَرْحِ بَيْتٍ مِنْ دِيْوَانِ المتنبِّي، فَذَكَرْتُ شَيْئاً، فَأَعْجَبَهُ، فَسَأَلَ القَاضِي عَنِّي، فَقَالَ:
هَذَا العَلاَّمَةُ تَاجُ الدِّيْنِ الكِنْدِيُّ، فَنهضَ وَأَخَذنِي مَعَهُ، وَدَامَ اتِّصَالِي بِهِ.
قَالَ: وَكَانَ المُعَظَّم يَقرَأُ عَلَيْهِ دَائِماً، قرَأَ عَلَيْهِ: (كِتَابَ سِيْبَوَيْه)، فَصّاً وَشرحاً، وَكِتَابَ (الحمَاسَةِ)، وَكِتَابَ (الإِيضَاحِ) وَشَيْئاً كَثِيْراً، وَكَانَ يَأْتيه مَاشياً مِنَ القَلْعَةِ إِلَى دربِ العجَمِ، وَالمُجَلَّدُ تَحْتَ إِبِطِهِ.
وَنَقَلَ ابْنُ خَلِّكَانَ أَنَّ الكِنْدِيَّ قَالَ: كُنْتُ قَاعِداً عَلَى بَابِ ابْنِ الخَشَّابِ وَقَدْ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَهُوَ يَمْشِي فِي جَاون خشب، سَقَطت رِجْلُهُ مِنَ الثَّلْجِ.
قَالَ ابْنُ نُقْطَةَ: كَانَ الكِنْدِيُّ مُكْرِماً لِلْغربَاءِ، حسن الأَخْلاَقِ، وَكَانَ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا المُشْتَغِلينَ بِهَا، وَبإِيثَارِ مُجَالَسَةِ أَهْلِهَا، وَكَانَ ثِقَةً فِي الحَدِيْثِ وَالقِرَاءاتِ - سَامَحَهُ اللهُ -. (22/38)
(42/39)

وَقَالَ الشَّيْخُ المُوَفَّقُ: كَانَ الكِنْدِيُّ إِمَاماً فِي القِرَاءةِ وَالعَرَبِيَّةِ، وَانْتَهَى إِلَيْهِ عُلُوُّ الإِسْنَادِ، وَانْتَقَلَ إِلَى مَذْهَبِهِ لأَجْلِ الدُّنْيَا، إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ عَلَى السُّنَّةِ، وَصَّى إِلَيَّ بِالصَّلاَةِ عَلَيْهِ، وَالوُقُوْفِ عَلَى دفنِهِ، فَفَعَلتُ.
وَقَالَ القِفْطِيُّ: آخرُ مَا كَانَ الكِنْدِيُّ بِبَغْدَادَ فِي سَنَةِ ثَلاَثٍ وَسِتِّيْنَ، وَسَكَنَ حَلَبَ مُدَّةً، وَصَحِبَ بِهَا الأَمِيْرَ حسنَ ابْنَ الدَّايَةِ النُّوْرِيَّ وَالِيَهَا، وَكَانَ يَبتَاعُ الخليعَ مِنَ الملبُوسِ، وَيَتَّجِرُ بِهِ إِلَى الرُّوْمِ، ثُمَّ نَزلَ دِمَشْقَ، وَسَافَرَ مَعَ فَرُّوخشَاه إِلَى مِصْرَ، وَاقتنَى مِنْ كُتُبِ خَزَائِنهَا عِنْدَمَا أُبِيعَتْ...، إِلَى أَنْ قَالَ:
وَكَانَ ليِّناً فِي الرِّوَايَةِ، مُعْجَباً بِنَفْسِهِ فِيمَا يذكره وَيَرْوِيْهِ، وَإِذَا نُوظِرَ جَبَهَ بِالقبيحِ، وَلَمْ يَكُنْ موفَّقَ القلَمِ، رَأَيْتُ لَهُ أَشيَاءَ بَارِدَةً، وَاشْتُهِرَ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ صَحِيْحَ العقيدَةِ. (22/39)
قُلْتُ: مَا علمْنَا إِلاَّ خَيراً، وَكَانَ يُحبُّ اللهَ وَرَسُوْلَهُ وَأَهْلَ الخَيْرِ، وَشَاهَدتُ لَهُ فُتْيَا فِي القُرْآنِ تَدُلُّ عَلَى خَيْرٍ وَتَقرِيرٍ جَيِّدٍ، لَكنَّهَا تُخَالِفُ طرِيقَةَ أَبِي الحَسَنِ، فَلَعَلَّ القِفْطِيّ قصدَ أَنَّهُ حَنْبَلِيُّ العَقْدِ، وَهَذَا شَيْءٌ قَدْ سَمُجَ القَوْلُ فِيْهِ، فُكُلُّ مَنْ قصدَ الحَقَّ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ فَاللهُ يغفرُ لَهُ، أَعَاذنَا اللهُ مِنَ الهَوَى وَالنَّفْسِ.
وَقَالَ المُوَفَّقُ عَبْدُ اللَّطِيْفِ: اجْتَمَعتُ بِالكِنْدِيِّ، وَجَرَى بَيْنَنَا مُبَاحثَات، وَكَانَ شَيْخاً، بَهِيّاً، ذكيّاً، مُثْرِياً، لَهُ جَانبٌ مِنَ السُّلْطَانِ، لَكنَّهُ كَانَ مُعْجَباً بِنَفْسِهِ، مُؤذِياً لِجليسِهِ.
(42/40)

قُلْتُ: أَذَاهُ لِهَذَا القَائِل أَنَّهُ لقَّبَهُ بِالمَطْحن.
قَالَ: وَجَرَتْ بَيْنَنَا مبَاحثَات، فَأَظهرنِي اللهُ عَلَيْهِ فِي مَسَائِل كَثِيْرَةٍ، ثُمَّ إِنِّيْ أَهملْتُ جَانبَهُ.
وَمِنْ شعرِ السَّخَاوِيِّ فِيْهِ:
لَمْ يَكُنْ فِي عَصْرِ عَمْرٍو مِثْلُهُ * وَكَذَا الكِنْدِيُّ فِي آخِرِ عَصْرِ
فَهُمَا زَيْدٌ وَعَمْرٌو إِنَّمَا * بُنِيَ النَّحْوُ عَلَى زَيْدٍ وَعَمْرِو
وَلأَبِي شُجَاعٍ ابْنِ الدَّهَّانِ فِيْهِ:
يَا زَيْدُ زَادَكَ رَبِّي مِنْ مَوَاهِبِهِ * نُعْمَى يُقَصِّرُ عَنْ إِدرَاكِهَا الأَمَلُ
لاَ بَدَّلَ اللهُ حَالاً قَدْ حَبَاكَ بِهَا * مَا دَارَ بَيْنَ النُّحَاةِ الحَالُ وَالبَدَلُ
النَّحْوُ أَنْتَ أَحقُّ العَالِمِينَ بِهِ * أَلَيْسَ باسْمِكَ فِيْهِ يُضْرَبُ المَثَلُ؟ (22/40)
وَمِنْ شِعْرِ التَّاجِ الكِنْدِيِّ:
دَعِ المُنَجِّمَ يَكبُو فِي ضَلاَلَتِهِ * إِنِ ادَّعَى عِلْمَ مَا يَجرِي بِهِ الفَلَكُ
تَفَرَّدَ اللهُ بِالعِلْمِ القَدِيْمِ فَلاَ الـ * إِنْسَانُ يَشْرَكُهُ فِيْهِ وَلاَ المَلَكُ
أَعدَّ لِلرِّزْقِ مِنْ أَشرَاكِهِ شَرَكاً * وَبِئسَتِ العُدَّتَانِ: الشِّرْكُ وَالشَّرَكُ
وَلَهُ:
أَرَى المَرْءَ يَهْوَى أَنْ تَطُولَ حَيَاتُهُ * وَفِي طُولِهَا إِرهَاقُ ذلٍّ وَإِزهَاقُ
تَمَنَّيْتُ فِي عصرِ الشَّبِيْبَةِ أَنَّنِي * أُعَمَّرُ وَالأَعَمَّارُ لاَ شَكَّ أَرزَاقُ
فَلَمَّا أَتَى مَا قَدْ تَمَنَّيْتُ سَاءنِي * مِنَ العُمْرِ مَا قَدْ كُنْتُ أَهوَى وَأَشتَاقُ
يُخَيَّلُ فِي فِكرِي إِذَا كُنْتُ خَالياً * رُكُوبِي عَلَى الأَعْنَاقِ وَالسَّيْرُ إِعنَاقُ
وَيُذْكِرُنِي مرُّ النَّسِيْمِ وَرَوُحُهُ * حفَائِرَ تَعْلُوهَا مِنَ التُّربِ أَطْبَاقُ
وَهَا أَنَا فِي إِحْدَى وَتِسْعِيْنَ حِجَّةً * لَهَا فِيَّ إِرعَادٌ مَخُوفٌ وَإِبرَاقُ
(42/41)

يَقُوْلُوْنَ تِرْيَاقٌ لِمِثْلِكَ نَافِعٌ * وَمَالِيَ إِلاَّ رَحْمَةُ اللهِ تِرْيَاقُ
وَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
لَبِسْتُ مِنَ الأَعَمَّارِ تِسْعِيْنَ حِجَّةً * وَعِنْدِي رَجَاءٌ بِالزِّيَادَةِ مُولَعُ
وَقَدْ أَقْبَلَتْ إِحْدَى وَتِسْعُوْنَ بَعْدَهَا * وَنَفْسِي إِلَى خَمْسٍ وَسِتٍّ تَطَلَّعُ
وَلاَ غَرْوَ أَنْ آتي هُنَيْدَةَ سَالِماً * فَقَدْ يُدْرِكُ الإِنْسَانُ مَا يَتَوَقَّعُ
وَقَدْ كَانَ فِي عَصْرِي رِجَالٌ عَرَفْتُهُم * حَبَوْهَا وَبِالآمَالِ فِيْهَا تَمَتَّعُوا
وَمَا عَافَ قَبْلِي عَاقِلٌ طُولَ عُمْرِهِ * وَلاَ لاَمَهُ مَنْ فِيْهِ لِلْعَقْلِ مَوْضِعُ
قَالَ الأَنْمَاطِيُّ: تُوُفِّيَ الكِنْدِيُّ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، سَادِسَ شَوَّالٍ، سَنَةَ ثَلاَثَ عَشْرَةَ وَسِتِّ مائَةٍ، وَأَمَّهُم عَلَيْهِ قَاضِي القُضَاةِ جَمَالُ الدِّيْنِ ابْنُ الحَرَسْتَانِيِّ، ثُمَّ أَمَّهُم بِظَاهِرِ بَابِ الفَرَادِيْسِ: شَيْخُ الحَنَفِيَّةِ جَمَالُ الدِّيْنِ الحَصِيْرِيُّ، ثُمَّ أَمَّ بِالجَبَلِ: مُوَفَّقُ الدِّيْنِ شَيْخُ الحَنْبَليَّةِ، وَشَيَّعَهُ الخَلْقُ، وَدُفِنَ بِتُرْبَةٍ لَهُ، وَعُقِدَ لَهُ العَزَاءُ تَحْتَ النَّسْرِ يَوْمَيْنِ. (22/41)
(42/42)