المُسْتَعْصِمُ بِاللهِ، أَبُو أَحْمَدَ عَبْدُ اللهِ ابْنُ المُسْتَنْصِرِ بِاللهِ الهَاشِمِيُّ
 
الخَلِيْفَةُ، الشَّهِيْدُ، أَبُو أَحْمَدَ عَبْدُ اللهِ ابْنُ المُسْتَنْصِرِ بِاللهِ مَنْصُوْرٍُ ابْنِ الظَّاهِرِ مُحَمَّدٍ ابْنِ النَّاصِرِ أَحْمَد ابْنِ المُسْتَضِيْءِ الهَاشِمِيُّ، العَبَّاسِيُّ، البَغْدَادِيُّ.
وُلِدَ: سَنَةَ تِسْعٍ وَسِتِّ مائَةٍ.
وَاستخلف سَنَة أَرْبَعِيْنَ يَوْم مَوْت أَبِيْهِ فِي عَاشر جُمَادَى الآخِرَة، وَكَانَ فَاضِلاً، تَالياً لِكِتَابِ اللهِ، مليح الكِتَابَة.
خَتم عَلَى ابْنِ النَّيَّار، فَأَكْرَمَهُ يَوْم الختم سِتَّة آلاَف دِيْنَار، وَبلغت الخِلَعُ يَوْمَ بيعته أَزْيَدَ مِنْ ثَلاَثَةَ عَشَرَ أَلفَ خِلْعَةٍ.
استَجَازَ لَهُ ابْنُ النَّجَّارِ المُؤَيَّد الطُّوْسِيَّ وَعَبْد المُعِزِّ الهَرَوِيّ، وَسَمِعَ مِنْهُ بِهَا شَيْخُه أَبُو الحَسَنِ ابْن النَّيَّار، وَحَدَّثَ عَنْهُ.
وَحَدَّثَ عَنْهُ بِهَذِهِ الإِجَازَة فِي حيَاته: البَاذَرَائِيُّ، وَمُحْيِي الدِّيْنِ ابْنُ الجَوْزِيِّ. (23/175)
وَكَانَ كَرِيْماً، حَلِيماً، دَيِّناً، سَلِيمَ البَاطِنِ، حَسَنَ الهَيْئَةِ.
وَقَدْ حَدَّثَ عَنْهُ بِمَرَاغَةَ وَلَدُه الأَمِيْرُ مُبَارَكٌ.
(43/180)

قَالَ قُطْبُ الدِّيْنِ اليُوْنِيْنِيُّ: كَانَ مُتَدَيِّناً مُتمسِّكاً بالسُّنَّةِ كَأَبِيْهِ وَجَدِّهِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي حزم أَبِيْهِ، وَتيقّظه، وَعُلُوِّ هِمْتِهِ، وَإِقدَامِهِ، وَإِنَّمَا قَدَّمُوْهُ عَلَى عَمِّهِ الخَفَاجِيّ لِمَا يَعلمُوْنَ مِنْ لِينهِ وَانْقِيَادِهِ وَضَعفِ رَأْيِه لِيَستَبِدُّوا بِالأُمُوْر.
ثُمَّ إِنَّهُ اسْتَوْزَر المُؤَيَّد ابْنَ العَلْقَمِيّ الرَّافضِيّ، فَأَهْلك الحَرْثَ وَالنَّسْلَ، وَحَسَّن لَهُ جَمعَ الأَمْوَال، وَأَنَّ يَقتصِرَ عَلَى بَعْض العَسَاكِر، فَقطع أَكْثَرهُم، وَكَانَ يَلعبُ بِالحَمَّامِ، وَفِيْهِ حرص وَتوَانٍ.
وَفِي سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِيْنَ وَسِتِّ مائَةٍ: عَاثت الخُوَارِزْمِيَّةُ بقُرَى الشَّامِ.
وَصَالَحَتِ التَّتَارُ صَاحِبَ الرُّوْمِ عَلَى أَلفِ دِيْنَارٍ، وَفرس وَمَمْلُوْك وَجَارِيَة فِي كُلِّ نَهَارٍ، بَعْدَ أَنِ اسْتبَاحُوا قَيْصَرِيَّةَ.
وَأُهْلِكَ قَاضِي القُضَاةِ بِدِمَشْقَ الرّفِيع الجِيْلِيّ.
وَدَخَلت الفِرَنْج القُدْس، وَرشُّوا الخَمْرَ عَلَى الصَّخْرَةِ، وَذَبَحُوا عِنْدَهَا خِنْزِيْراً، وَكَسَرُوا مِنْهَا شقفَةً. (23/176)
وَفِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِيْنَ: كَانَ حِصَارُ الخُوَارِزْمِيَّةِ عَلَى دِمَشْقَ فِي خدمَةِ صَاحِب مِصْر، وَاشتدَّ القَحط بِدِمَشْقَ، ثُمَّ التَقَى الشَّامِيُّوْنَ وَمَعَهُم عَسْكَر مِنَ الفِرَنْج، وَالمِصْرِيّون وَمَعَهُمُ الخُوَارِزْمِيَّةُ بَيْنَ عَسْقَلاَنَ وَغَزَّةَ، فَانْهَزَم الجمعَانِ، وَلَكِن حَصَدَتِ الخُوَارِزْمِيَّةُ الفِرَنْجَ فِي سَاعَةٍ، ثُمَّ أَسرُوا مِنْهُم ثَمَانِي مائَةٍ.
وَيُقَالُ: زَادت القَتْلَى عَلَى ثَلاَثِيْنَ أَلْفاً.
(43/181)

وَاندكَّ صَاحِب حِمْص، وَنُهِبَتْ خَزَائِنُه وَبَكَى، وَقَالَ: قَدْ علمت بِأَنَّا لاَ نُفلح لَمَّا سِرْنَا تَحْتَ الصُّلبَانِ، وَاشتدَّ الحصَارُ عَلَى دِمَشْقَ.
وَجَاءت مِنَ الحَجّ أُمُّ المُسْتَعْصِم وَمُجَاهِد الدِّيْنِ الدُّوَيْدَار وَقيرَان، وَكَانَ وَفداً عَظِيْماً.
وَمَاتَ الوَزِيْرُ ابْنُ النَّاقِدِ، فَوزرَ المُؤَيَّدُ ابْنُ العَلْقَمِيّ وَالأُسْتَاذُ دَارِيَة لِمُحْيِي الدِّيْنِ ابْنِ الجَوْزِيِّ.
وَدَخَلت سَنَةَ ثَلاَثٍ وَأَرْبَعِيْنَ: وَالحصَار عَلَى دِمَشْقَ، وَتَعَثَّرت الرَّعِيَّة، وَخَربت الحوَاضرُ، وَكَثُرَ الفنَاءُ، وَفِي الآخَرِ ترك البَلَدَ الصَّالِحُ إِسْمَاعِيْلُ، وَصَاحِبُ حِمْص، وَتَرَحَّلاَ إِلَى بَعْلَبَكَّ، وَدَخَلَ البَلَدَ مُعِيْنُ الدِّيْنِ حَسَنٌ ابْنُ الشَّيْخِ، وَحَكَمَ وَعَزل مِنَ القَضَاء مُحْيِي الدِّيْنِ ابْنَ الزَّكِيّ، وَوَلَّى صَدْر الدِّيْنِ ابْنَ سَنِيِّ الدَّوْلَة.
وَجَاءَ رَسُوْلُ الخِلاَفَةِ ابْنُ الجَوْزِيِّ بِخِلَعِ السَّلْطَنَةِ لِلملكِ الصَّالِح نَجْم الدِّيْنِ. (23/177)
وَفِيْهَا جَاءت فِرقَة مِنَ التَّتَار إِلَى بعقوبَا، فَالتقَاهُم الدُّوَيْدَار، فَكسرهُم.
وَفِي ذِي القَعْدَةِ: بلغت غرَارَة القمح بِدِمَشْقَ أَلْفاً وَمائتَيْ دِرْهَمٍ.
وَفِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِيْنَ: عَاثَت الخُوَارِزْمِيَّة وَتَخَرّبت القُرَى، فَالتقَاهُم عَسْكَرُ حَلَبَ وَحِمْصَ، فَكُسرُوا شَرَّ كَسْرَةٍ عَلَى بُحَيْرَةِ حِمْصَ، وَقُتِلَ مُقَدَّمُهُم بَرَكَة خَان، وَحَار الصَّالِح إِسْمَاعِيْل فِي نَفْسِهِ، وَالْتَجَأَ إِلَى صَاحِبِ حَلَبَ.
وَفِيْهَا خِتَانُ أَحْمَدَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَلَدِيِ الخَلِيْفَة وَأَخِيْهِ عليّ، فَمَنِ الوليمَة أَلفٌ وَخَمْسُ مائَةِ رَأْسِ شوَاءٍ.
(43/182)

وَقَدِمَ رَسُوْلاَنِ مِنَ التَّتَار أَحَدهُمَا مِنْ بَركَة، وَالآخرِ مِنْ بايجُو، فَاجْتَمَعُوا بِابْنِ العَلْقَمِيّ، وَتعمّت الأَخْبَار.
وَفِيْهَا أَخذتِ الفِرَنْجُ شَاطِبَةَ.
وَفِي سَنَة خَمْسٍ وَأَرْبَعِيْنَ: رَاح الصَّالِح إِلَى مِصْرَ، وَخلّف جَيْشَهُ يُحَاصِرُوْنَ عَسْقَلاَن وَطَبَرِيَة فَافْتَتَحُوهُمَا، وَحَاصَرَ الحَلَبِيُّوْنَ حِمْص أَشْهُراً، وتَعِبَ صَاحِبهَا الأَشْرَف فَسلَّمهَا، وَعُوِّضَ عَنْهَا بِتَلِّ بَاشِرَ فِي سَنَةِ سِتّ. (23/178)
وَفِي سَنَةِ سَبْعٍ: هَجَمت الفِرَنْج دِمْيَاط فِي رَبِيْعٍ الأَوَّلِ، فَهَرَبَ النَّاسُ مِنَ البَابِ الآخرِ، وَتَمَلَّكَهَا الفِرَنْج صَفْواً عَفْواً - نَعُوذ بِاللهِ مِنَ الخِذْلاَنِ - وَكَانَ السُّلْطَان بِالمَنْصُوْرَةِ، فَغَضِبَ عَلَى أَهْلِهَا، وَشَنَقَ سِتِّيْنَ مِنْ أَعيَانِ أَهْلهَا، وَذَاقُوا ذُلاً وَجوعاً، وَاسْتوحشَ العَسْكَر مِنَ السُّلْطَانِ - وَقِيْلَ: هَمَّ مَمَالِيْكُه بِقَتْلِهِ - فَقَالَ نَائِبه فَخْرُ الدِّيْنِ ابْن الشَّيْخ: اصبِرُوا فَهُوَ عَلَى شفَا.
فَمَاتَ فِي نِصْفِ شَعْبَانَ، وَأُخْفِيَ مَوْتُهُ إِلَى أَنْ أُحْضِرَ ابْنُهُ المُعَظَّمُ تُوْرَانْشَاه مِنْ حِصنِ كَيْفَا، فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ قَلِيْلاً وَقَتَلُوْهُ، وَكَانَتْ وَقْعَةُ المَنْصُوْرَةِ فِي ذِي القَعْدَةِ، فَسَاقت الفِرَنْج إِلَى الدِّهْلِيْز، فَخَرَجَ نَائِب السّلطنَةِ فَخْرُ الدِّيْنِ ابْن الشَّيْخ وَقَاتَلَ فَقُتِلَ، وَانْهَزَم المُسْلِمُوْنَ وَعَظُمَ الخَطْبُ، ثُمَّ تَنَاخَى العَسْكَر، وَكَرُّوا عَلَى العَدُوِّ فَطَحَنُوهُم، وَقَتَلُوا خَلْقاً، وَنَزَلَ النَّصْرُ.
ثُمَّ فِي ذِي الحِجَّةِ: كَانَ وُصُوْل المُعَظَّمِ، وَكَانَ نَوَى أَنْ يَفتك بِفَخْرِ الدِّيْنِ، لأَنَّه بَلَغَهُ أَنَّهُ رَامَ السَّلْطَنَةَ.
(43/183)

وَاستهلّت سَنَةَ ثَمَانٍ: وَالفِرَنْج عَلَى المَنْصُوْرَةِ بِإِزَاء المُسْلِمِيْنَ، وَلَكِنهُم فِي ضَعْفٍ وَجُوْعٍ، وَمَاتَتْ خَيلهُم، فَعزم الفَرنسِيسُ عَلَى الرُّكوبِ ليلاً إِلَى دِمْيَاط، فَعَلِمَ المُسْلِمُوْنَ، وَكَانَتِ الفِرَنْج قَدْ عَملُوا جِسْراً عَظِيْماً عَلَى النِّيلِ، فَذَهلُوا عَنْ قطعه، فَدَخَلَ مِنْهُ المُسْلِمُوْنَ فَكَبَسُوهُم، فَالتَجَأَتِ الفِرَنْج إِلَى مُنْيَةِ أَبِي عَبْدِ اللهِ، فَأَحَاطَ بِهِم الجَيْش، وَظَفِرَ أصطول المُسْلِمِيْنَ بِأصطولهم، وَغنمُوا مَرَاكِبَهُم، وَبَقِيَ الفَرنسيس فِي خَمْس مائَة فَارِسٍ وَخُذِلَ، فَطَلبَ الطّوَاشِي رشيد وَسَيْف الدِّيْنِ القيمرِي، فَأَتَوْهُ، فَطَلبَ أَمَاناً، فَأَمَّنَاهُ عَلَى أَنْ لاَ يَمرُّوا بِهِ بَيْنَ النَّاس، وَهَرَبَ جُمْهُوْرِ الفِرَنْج، وَتَبِعَهُم العَسْكَر، وَبقوا جُمْلَةً وَجُملَةً حَتَّى أُبِيْدت خَضْرَاؤُهُم، حَتَّى قِيْلَ: نَجَا مِنْهُم فَارِسَانِ، ثُمَّ غَرِقَا فِي البَحْر! وَغنم المُسْلِمُوْنَ مَا لاَ يُعَبَّر عَنْهُ. (23/179)
أَنْبَأَنِي الخَضِرُ بنُ حَمُّوَيْه، قَالَ: لَوْ أَرَادَ ملكهُم لنجَا عَلَى فَرَسِهِ وَلَكِنَّهُ حَمَى سَاقيه، فَأُسر هُوَ وَجَمَاعَة مُلُوْك وَكُنُوْد، فَأُحْصِي الأَسرَى فَكَانُوا نَيِّفاً وَعِشْرِيْنَ أَلْفاً، وَغَرِقَ وَقُتِلَ سَبْعَة آلاَف، وَكَانَ يَوْماً مَا سَمِعَ المُسْلِمُوْنَ بِمِثْلِهِ، وَمَا قُتِلَ مِنَ المُسْلِمِيْنَ نَحْو المائَة، وَاشْتَرَى الفرنسيسُ نَفْسه بِرَدِّ دِمْيَاط وَبِخَمْس مائَةِ أَلْفِ دِيْنَارٍ.
(43/184)

وَجَاءَ كِتَابُ المُعَظَّم، وَفِيْهِ فِي أَول السّنَة ترك العَدُوّ خِيَامهُم، وَقَصَدُوا دِمْيَاطَ، فَعملَ السَّيْفُ فِيهِم عَامَّةَ اللَّيْلِ، وَإِلَى النَّهَار، فَقَتَلنَا مِنْهُم ثَلاَثِيْنَ أَلْفاً غَيْرَ مَنْ أَلقَى نَفْسَهُ فِي المَاء، وَأَمَّا الأَسرَى فَحَدِّثْ عَنِ البَحْرِ وَلاَ حَرَجَ.
وَفِي أَوَاخِرِ المُحَرَّم قتلُوا المُعَظَّم.
وَفِيْهَا اسْتولَى صَاحِب حَلَب عَلَى دِمَشْقَ، ثُمَّ سَارَ ليَأْخُذَ مِصْرَ، وَهَزَمَ المِصْرِيّينَ، ثُمَّ تَنَاخَوْا وَهَزَمُوْهُ وَقتلُوا نَائِبَهُ.
وَاستولَى لُؤْلُؤٌ عَلَى جَزِيْرَةِ ابْنِ عُمَرَ، وَقُتِلَ مَلِكُهَا فِي سَنَةِ تِسْعٍ.
وَفِي سَنَةِ خَمْسِيْنَ أَغَارتِ التَّتَارُ عَلَى مَيَّافَارِقِيْنَ وَسروج، وَعَلَيْهِم كشلوخَان المَغُلِي.
وَفِي سَنَةِ إِحْدَى وَخَمْسِيْنَ: أَخَذَ المُسْلِمُوْنَ صَيْدَا، وَهَرَبَ أَهْلُهَا إِلَى قَلعَتِهَا.
وَفِيْهَا: قَدَمت بِنْتُ عَلاَءِ الدِّيْنِ صَاحِب الرُّوْم، فَدَخَلَ بِهَا صَاحِبُ دِمَشْقَ الملك النَّاصِرُ، فَكَانَ عُرْساً مَشْهُوْداً، وَعُملت القِبَابُ، وَكَانَ الخُلْفُ وَاقِعاً بَيْنَ النَّاصِرِ وَبَيْنَ صَاحِبِ مِصْرَ المُعِزِّ، ثُمَّ بَعْد مُدَّةٍ وَقَعَ الصُّلحُ. (23/180)
وَفِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَخَمْسِيْنَ: كَانَ ظُهُوْرُ الآيَةِ الكُبْرَى - وَهِيَ النَّارُ - بِظَاهِرِ المَدِيْنَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَدَامت أَيَّاماً تَأْكُل الحجَارَةِ، وَاسْتغَاثَ أَهْلُ المَدِيْنَةِ إِلَى اللهِ وَتَابُوا، وَبَكَوْا، وَرَأَى أَهْلُ مَكَّةَ ضَوْءهَا مِنْ مَكَّةَ، وَأَضَاءتْ لَهَا أَعْنَاقُ الإِبِل بِبُصْرَى، كَمَا وَعَدَ بِهَا رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا صَحَّ عَنْهُ.
(43/185)

وَكُسِفَ فِيْهَا الشَّمْسُ وَالقَمَرُ، وَكَانَ فِيْهَا الغَرَقُ العَظِيْمُ بِبَغْدَادَ، وَهَلَكَ خَلْقٌ مِنْ أَهْلِهَا، وَتَهدَّمتِ البُيُوْتُ، وَطَفَحَ المَاء عَلَى السُّوْر.
وَفِيْهَا: سَارَ الطَّاغِيَة هُوْلاَكُو بنُ تولي بن جنكزخَان فِي مائَةِ أَلْفٍ، وَافتَتَح حصن الأَلموت، وَأَبَادَ الإِسْمَاعِيْلِيَّة، وَبَعَثَ جَيْشاً عَلَيْهِم باجونَوِين، فَأَخذُوا مَدَائِنَ الرُّوْمِ، وَذلَّ لَهُم صَاحِبهَا، وَقُتِلَ خَلْقٌ كَثِيْرٌ.
وَفِيْهَا كَانَ حَرِيْق مَسْجِدِ النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَمِيْعِهِ فِي أَوَّلِ رَمَضَانَ مِنْ مسرجَة القَيِّمِ - فَللّه الأَمْرُ كُلُّهُ -.
وَفِي سَنَةِ خَمْسٍ وَخَمْسِيْنَ: مَاتَ صَاحِبُ مِصْرَ الملكُ المُعِزُّ أَيبك التُّرُكْمَانِيّ، قَتَلَتْه زَوجَتُه شَجَرُ الدُّرِّ فِي الغِيْرَةِ، فَوُسِّطَتْ.
وَجَرَتْ فِتْنَةٌ مَهُولَةٌ بِبَغْدَادَ بَيْنَ النَّاس وَبَيْنَ الرَّافِضَّةِ، وَقُتِلَ عِدَّة مِنَ الفَرِيْقَيْنِ، وَعَظُمَ البَلاَءُ، وَنُهِبَ الكَرْخُ، فَحنقَ ابْن العَلْقَمِيّ الوَزِيْرُ الرَّافضِيُّ، وَكَاتَبَ هُوْلاَكُو، وَطَمَّعَهُ فِي العِرَاق، فَجَاءت رُسُل هُوْلاَكُو إِلَى بَغْدَادَ، وَفِي البَاطِنِ مَعَهُم فَرمَانَات لِغَيْرِ وَاحِدٍ، وَالخَلِيْفَةُ لاَ يَدْرِي مَا يَتُم، وَأَيَّامُه قَدْ وَلّت، وَصَاحِب دِمَشْق شَابٌّ غرٌّ جبَانٌ، فَبَعَثَ وَلَدَهُ الطِّفْلَ مَعَ الحَافِظِيِّ بِتقَادمٍ وَتُحَفٍ إِلَى هُوْلاَكُو، فَخَضَعَ لَهُ، وَمِصْرُ فِي اضْطِرَابٍ بَعْدَ قَتلِ المُعِزِّ، وَصَاحِبُ الرُّوْمِ قَدْ هَرَبَ إِلَى بِلاَدِ الأَشكرِيِّ، فَتَمَرَّدَ هُوْلاَكُو وَتَجَبَّرَ، وَاسْتَوْلَى عَلَى المَمَالِكِ، وَعَاثَ جُندُه الكَفرَةُ يَقْتُلُوْنَ وَيَأْسرُوْنَ وَيَحرِقُوْنَ. (23/181)
(43/186)

وَدَخَلتْ سَنَةُ سِتٍّ: فَسَارَ عَسْكَرُ النَّاصِرِ وَعَلَيْهِم المُغِيْثُ ابْنُ صَاحِبِ الكَرَكِ لِيَأْخذُوا مِصْرَ، فَالتقَاهُمُ المُظَفَّرُ قُطُزُ، وَهُوَ نَائِبٌ لِلْمَنْصُوْرِ عَلِيٍّ وَلَدِ المُعِزّ بِالرَّملِ، فَكَسَرهُم، وَأَسَرَ جَمَاعَةَ أُمَرَاءَ، فَضَرَبَ أَعْنَاقَهُم.
وَأَمَّا هُوْلاَكُو، فَقصدَ بَغْدَادَ، فَخَرَجَ عَسْكَرُهَا إِلَيْهِ، فَانكَسَرُوا، وَكَاتَبَ لُؤْلُؤٌ صَاحِبُ المَوْصِلِ وَابْنُ صلاَيَا مُتَوَلِّي إِرْبِلَ الخَلِيْفَةَ سِرّاً يَنْصَحَانِه، فَمَا أَفَادَ، وَقُضِيَ الأَمْرُ، وَأَقْبَلَ هُوْلاَكُو فِي المَغُوْلِ وَالتُّركِ وَالكُرْجِ وَمَددٍ مِنِ ابْنِ عَمِّهِ بَرَكَةَ وَمَددٍ مِنْ عَسْكَرِ لُؤْلُؤٍ عَلَيْهِم ابْنُه الملكُ الصَّالِحُ، فَنَزَلُوا بِالجَانبِ الغَربِيِّ، وَأَنشَأَوا عَلَيْهِم سُوراً، وَقِيْلَ: بَلْ أَتَى هُوْلاَكُو البلدَ مِنَ الجَانبِ الشَّرْقِيِّ، فَأَشَارَ الوَزِيْرُ عَلَى الخَلِيْفَةِ بِالمدَارَاةِ، وَقَالَ: أَخرُجُ إِلَيْهِ أَنَا.
فَخَرَجَ، وَاسْتوثَقَ لِنَفْسِهِ، وَردَّ، فَقَالَ: القَانُ رَاغِبٌ فِي أَنْ يُزوِّج بِنْتَهُ بِابْنِكَ أَبِي بَكْرٍ، وَيُبْقَي لَكَ مَنصِبَك كَمَا أَبْقَى صَاحِبَ الرُّوْم فِي مَمْلَكتِه مِنْ تَحْتِ أَوَامرِ القَانِ، فَاخرُجْ إِلَيْهِ.
فَخَرَجَ فِي كُبَرَاءِ دَوْلَتِه لِلنِّكَاحِ يَعْنِي، فَضَرَبَ أَعْنَاق الكُلِّ بِهَذِهِ الخَديعَةِ، وَرُفِسَ المُسْتَعْصِمُ حَتَّى تلف، وَبَقِيَ السَّيْفُ فِي بَغْدَادَ بَضْعَةً وَثَلاَثِيْنَ يَوْماً، فَأَقلُّ مَا قِيْلَ: قُتلَ بِهَا ثَمَانُ مائَةِ أَلْفِ نَفْسٍ، وَأَكْثَرُ مَا قِيْلَ: بَلَغُوا أَلفَ أَلفٍ وَثَمَانِ مائَةِ أَلْفٍ، وَجَرَتِ السُّيُولُ مِنَ الدِّمَاءِ - فَإِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُوْنَ -.
(43/187)

ثُمَّ بَعْدَ ذَهَابِ البلدِ وَمَنْ فِيْهِ إِلاَّ اليَسِيْرَ، نُودِيَ بِالأَمَانِ، وَانعكسَ عَلَى الوَزِيْرِ مَرَامُه، وَذَاقَ ذُلاًّ وَوَيلاً، وَمَا أَمهلَهُ اللهُ. (23/182)
وَمِنَ القَتْلَى: مُجَاهِدُ الدِّيْنِ الدُّوَيْدَارُ، وَالشَّرَابِيُّ، وَابْنُ الجَوْزِيِّ أُسْتَاذُ الدَّارِ، وَبَنُوهُ، وَقُتِلَ بَايْجُو نَوِيْنَ نَائِبُ هُوْلاَكُو، اتَّهمَه بِمُكَاتِبَةِ الخَلِيْفَةِ، وَرجع هُوْلاَكُو بِالسَّبْيِ وَالأَمْوَال إِلَى أَذْرَبِيْجَانَ، فَنَزَلَ إِلَى خِدْمَتِه لُؤْلُؤٌ، فَخلعَ عَلَيْهِ، وَردَّه إِلَى المَوْصِلِ، وَنَزَلَ إِلَيْهِ ابْنُ صلاَيَا، فَضَرَبَ عُنُقَه، وَبَعَثَ عَسْكَراً حَاصرُوا مَيَّافَارِقِيْنَ، وَبَعَثَ رَسُوْلاً إِلَى النَّاصِرِ وَكِتَابُه: خِدْمَة ملك نَاصِر طَالَ عُمُرُهُ إِنَّا فَتحنَا بَغْدَادَ، وَاسْتَأْصلنَا مَلِكَهَا وَمُلْكَهَا، وَكَانَ ظَنَّ إِذْ ضنَّ بِالأَمْوَالِ وَلَمْ يُنَافس فِي الرِّجَالِ أَن ملكه يَبْقَى عَلَى ذَلِكَ الحَال، وَقَدْ علاَ قدرُه وَنَمَى ذِكْرُهُ، فَخُسف فِي الكَمَال بَدرُه:
إِذَا تَمَّ أَمرٌ بَدَا نَقصُهُ*تَوقَّعْ زَوَالاً إِذَا قِيْلَ: تَمّ
وَنَحْنُ فِي طَلَبِ الازْدِيَادِ عَلَى مَمرِّ الآبَادِ، فَأَبدِ مَا فِي نَفْسِك، وَأَجِبْ دَعْوَةَ ملكِ البَسيطَةِ تَأْمنْ شَرَّه، وَتَنَلْ بِرَّهُ، وَاسْعَ إِلَيْهِ، وَلاَ تُعوِّقْ رَسُوْلنَا، وَالسَّلاَمُ.
ذَكرَ جَمَالُ الدِّيْنِ سُلَيْمَانُ بنُ رَطْلَيْن الحَنْبَلِيُّ، قَالَ:
(43/188)

جَاءَ هُوْلاَكُو فِي نَحْوِ مائَتَيْ أَلْفٍ، ثُمَّ طَلبَ الخَلِيْفَةَ، فَطَلَعَ مَعَهُ القُضَاةُ وَالأَعيَانُ فِي نَحْوٍ مِنْ سَبْعِ مائَةِ نَفْسٍ، فَمُنعُوا، وَأُحضرَ الخَلِيْفَةُ وَمَعَهُ سَبْعَةَ عَشَرَ كَانَ أَبِي مِنْهُم، وَضَرَبَ رِقَابَ سَائِرِ أُوْلَئِكَ، فَأُنْزِلَ الخَلِيْفَةُ فِي خَيمَةٍ وَالسَّبْعَةَ عَشَرَ فِي خَيمَةٍ.
قَالَ أَبِي: فَكَانَ الخَلِيْفَةُ يَجِيْءُ إِلَيْنَا فِي اللَّيْلِ، وَيَقُوْلُ: ادعُوا لِي.
قَالَ: فَنَزَلَ عَلَى خَيمَتِه طَائِرٌ، فَطَلَبَهُ هُوْلاَكُو، فَقَالَ: أَيش عَملُ هَذَا الطَّائِرِ؟ وَمَا قَالَ لَكَ؟
ثُمَّ جَرَتْ لَهُ مُحَاوَرَةٌ مَعَهُ، وَأَمرَ بِهِ وَبِابْنِه أَبِي بَكْرٍ، فَرُفِسَا حَتَّى مَاتَا، وَأَطلَقُوا السَّبْعَةَ عَشَرَ وَأَعْطوهُم نشَابَةً، فَقُتل مِنْهُم اثْنَانِ، وَأَتَى البَاقُوْنَ دُورَهُم، فَوَجَدُوهَا بَلاَقعَ، فَأَتيتُ أَبِي بِالمُغِيْثِيَّةِ، فَوَجَدتُه مَعَ رِفَاقِه، فَلَمْ يَعرِفْنِي أَحَدٌ مِنْهُم، وَقَالُوا: مَا تُرِيْدُ؟
قُلْتُ: أُرِيْدُ فَخْرَ الدِّيْنِ ابْنَ رَطْلَيْن، وَقَدْ عَرَفْتُهُ.
فَالْتَفَتَ إِلَيَّ، وَقَالَ: مَا تُرِيْدُ مِنْهُ؟
قُلْتُ: أَنَا وَلدُهُ.
فَنَظَرَ، فَلَمَّا تَحَقَّقنِي، بَكَى، وَكَانَ مَعِي قَلِيْلُ سِمْسِمٍ، فَتركتُه بَيْنَهُم. (23/183)
وَعَمِلَ ابْنُ العَلْقَمِيِّ عَلَى تَركِ الجُمُعَاتِ، وَأَنْ يَبنِيَ مَدْرَسَةً عَلَى مَذْهَبِ الرَّافِضَّةِ، فَمَا بلغَ أَملُه، وَأُقيمتِ الجُمعَاتُ.
وَحَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: كَانَ قَدْ مَشَى حَالُ الخَلِيْفَةِ بِأَنْ يَكُوْنَ لِلتَّتَارِ نِصْفُ دَخْلِ العِرَاقِ، وَمَا بَقِيَ شَيْءٌ، أَنْ يَتم ذَلِكَ، فَقَالَ ابْنُ العَلْقَمِيّ: بَلِ المَصْلحَةُ قَتْلُه، وَإِلاَّ فَمَا يَتم لَكُم مُلك العِرَاق.
قُلْتُ: قَتلُوْهُ خنقاً.
وَقِيْلَ: رَفساً.
(43/189)

وَقِيْلَ: غمّاً فِي بِسَاطٍ، وَكَانُوا يُسمُّونَهُ: الأَبْلَهَ.
وَأَنْبَأَنِي الظَّهِيْرُ الكَازَرُوْنِيُّ فِي (تَارِيْخِهِ): أَنَّ المُسْتَعْصِمَ دَخَلَ بَغْدَادَ بَعْدَ أَنْ خَرَجَ إِلَى هُوْلاَكُو، فَأَخَرَجَ لَهُ الأَمْوَالَ، ثُمَّ خَرَجَ فِي رَابِعِ صَفَرٍ، وَبُذِلَ السَّيْفُ فِي خَامِسِ صَفَرٍ.
قَالَ: وَقُتِلَ المُسْتَعْصِمُ بِاللهِ يَوْم الأَرْبعَاء، رَابِعَ عَشَرَ صَفَرٍ.
فَقِيْلَ: جُعِلَ فِي غرَارَةٍ وَرُفس إِلَى أَنْ مَاتَ -رَحِمَهُ اللهُ- وَدُفِنَ وَعُفِي أَثره، وَقَدْ بلغَ سِتّاً وَأَرْبَعِيْنَ سَنَةً وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ.
قَالَ: وَقُتِلَ ابْنَاهُ أَحْمَدُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَبَقِيَ وَلدُهُ مُبَارَكٌ، وَفَاطِمَةُ، وَخَدِيْجَةُ، وَمَرْيَمُ فِي أَسرِ التَّتَارِ.
قُلْتُ: وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ إِلَى اليَوْمِ بِأَذْرَبِيْجَانَ، وَانقطعتِ الإِمَامَةُ العَبَّاسِيَّةُ ثَلاَثَ سِنِيْنَ وَأَشْهُراً بِمَوْتِ المُسْتَعْصِمِ، فَكَانَتْ دَوْلَتُهُم مِنْ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَثَلاَثِيْنَ وَمائَةٍ، إِلَى سَنَةِ سِتٍّ وَخَمْسِيْنَ وَسِتِّ مائَةٍ، فَذَلِكَ خَمْسُ مائَةٍ وَأَرْبَعٌ وَعِشْرُوْنَ سَنَةً - وَللهِ الأَمْرُ -. (23/184)
(43/190)