باب ما جاء في سوء الخاتمة و ما جاء أن الأعمال بالخواتيم
 

مسلم عن أبي هريرة عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن الرجل ليعمل الزمان الطويل يعمل أهل الجنة ثم يختم له عمله بعمل أهل النار ، و إن الرجل ليعمل الزمان الطويل بعمل أهل النار ثم يختم له بعمل أهل الجنة .
و في البخاري عن سهل بن سعد ، عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن العبد ليعمل عمل أهل النار و إنه من أهل الجنة ، و يعمل عمل أهل الجنة و إنه من أهل النار ، و إنما الأعمال بالخواتيم .
قال أبو محمد عبد الحق : اعلم أن سوء الخاتمة ـ أعاذنا الله منها ـ لا تكون لمن استقام ظاهره و صلح باطنه ، ما سمع بهذا و لا علم به ـ الحمد لله ـ و إنما تكون لمن كان له فساد في العقل ، أو إصرار على الكبائر ، و إقدام على العظائم . فربما غلب ذلك عليه حتى ينزل به الموت قبل التوبة ، فيصطلمه الشيطان عند تلك الصدمة ، و يختطفه عند تلك الدهشة ، و العياذ بالله ، ثم العياذ بالله ، أو يكون ممن كان مستقيماً ، ثم يتغير عن حاله و يخرج عن سننه ، و يأخذ في طريقه ، فيكون ذلك سبباً لسوء خاتمه و شؤم عاقبته ، كإبليس الذي عبد الله فيما يروى ثمانين ألف سنة ، و بلعام بن باعوراء الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها بخلوده إلى الأرض ، و اتباع هواه ، و برصيصا العابد الذي قال الله في حقه كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر .
و يروى : أنه كان بمصر رجل ملتزم مسجداً للأذان و الصلاة ، و عليه بهاء العبادة و أنوار الطاعة ، فرقي يوماً المنارة على عادته للأذان ، و كان تحت المنارة دار لنصراني ذمي ، فاطلع فيها فرأى ابنة صاحب الدار ، فافتتن بها و ترك الأذان ، و نزل إليها و دخل الدار فقالت له : ما شأنك ما تريد ؟ فقال : أنت أريد . قالت : لماذا ؟ قال لها : قد سلبت لبي و أخذت بمجامع قلبي . قالت : لا أجيبك إلى ريبة . قال لها : أتزوجك . قالت له : أنت مسلم و أنا نصرانية و أبي لا يزوجني منك قال لها : أتنصر . قالت : إن فعلت أفعل . فتنصر ليتزوجها ، و أقام معها في الدار . فلما كان في أثناء ذلك اليوم رقي إلى سطح كان في الدار فسقط منه فمات ، فلا هو بدينه و لا هو بها . فنعوذ بالله ثم نعوذ بالله من سوء العاقبة و سوء الخاتمة .
و يروى أن رجلاً علق بشخص و أحبه ، فتمنع عنه و اشتد نفاره فاشتد كلف البائس إلى أن لزم الفراش ، فلم تزل الوسائط تمشي بينهما حتى وعد بأن يعود ، فأخبر بذلك ففرح و اشتد فرحه و سروره ، و انجلى عنه بعض ما كان يجده ، فلما كان في بعض الطريق رجع و قال : و الله لا أدخل مداخل الريب ، و لا أعرض بنفسي لمواقع التهم فأخبر بذلك البائس المسكين فسقط في يده ، و رجع إلى أسوأ ما كان به و بدت علامات الموت و أمارته عليه .
قال الراوي : فسمعته يقول و هو في تلك الحال :
سلام يا راحة العليل و برد ذل الدنف النحيل
رضاك أشهى إلى فؤادي من رحمة الخالق الجليل
قال : فقلت له : يا فلان اتق الله تعالى فقال : قد كان ما كان . فقمت عنه فما جاوزت باب داره حتى سمعت صيحة الموت قد قامت عليه . فنعوذ بالله من سوء العاقبة و شؤم الخاتمة .
قال المؤلف رحمه الله : روى البخاري عن سالم عن عبد الله قال : كان كثيراً ما كان النبي يحلف : لا و مقلب القلوب و معناه يصرفها أسرع من مر الريح على اختلاف في القبول و الرد و الإرادة و الكراهية و غير ذلك من الأوصاف . و في التنزيل و اعلموا أن الله يحول بين المرء و قلبه قال مجاهد : المعنى يحول بين المرء و عقله حتى لا يدري ما يصنع . بيانه : إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أي عقل ، و اختار الطبري أن يكون ذلك إخباراً من الله تعالى بأنه أملك لقلوب العباد منهم و أنه يحول بينهم و بينها إذا شاء ، حتى لا يدرك الإنسان شيئاً إلا بمشيئة الله عز و جل .
و قالت عائشة رضي الله عنها : كان النبي صلى الله عليه و سلم يكثر أن يقول يا مقلب القلوب ثبت قلبي على طاعتك فقلت : يا رسول الله إنك تكثر أن تدعو بهذا الدعاء فهل تخشى ؟ قال : و ما يؤمنني يا عائشة و قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الجبار إذا أراد أن يقلب قلب عبده قلب .
قال العلماء : و إذا كانت الهداية إلى الله مصروفة ، و الإستقامة على مشيته موقوفة ، و العاقبة مغيبة ، و الإرادة غير مغالبة ، فلا تعجب بإيمانك و عملك و صلاتك و صومك و جميع قربك ، فإن ذلك و إن كان من كسبك فإنه من خلق ربك و فضله الدار عليك و خيره ، فمهما افتخرت بذلك ، كنت كالمفتخر بمتاع غيره ، و ربما سلب عنك فعاد قلبك من الخير أخلى من جوف البعير ، فكم من روضة أمست و زهرها يانع عميم . فأصبحت و زهرها يابس هشيم ، إذ هبت عليها الريح العقيم . كذلك العبد يمسي و قلبه بطاعة الله مشرق سليم ، فيصبح و هو بمعصية مظلم سقيم . ذلك فعل العزيز الحكيم الخلاق العليم .
روى النسائي عن عثمان رضي الله عنه قال : [ اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث إنه كان رجل ممن كان قبلكم تعبد ، فعلقت امرأة غوية فأرسلت إليه جاريتها فقالت له : إنا ندعوك للشهادة ، فانطلق مع جاريتها فطفقت الجارية كلما دخل باباً أغلقته دونه حتى أفضت إلى امرأة وضيئة أي جميلة عندها غلام و باطية خمر فقالت : إني و الله ما دعوتك للشهادة و لكن دعوتك لتقع علي ، أو تشرب من هذه الخمر كأساً أو تقتل هذا الغلام قال فاسقني من هذه الخمر ؟ فسقته كأساً قال : زيدوني فلم يزل يشرب حتى وقع عليها و قتل الغلام . فاجتنبوا الخمر فإنه و الله لا يجتمع الإيمان و إدمان الخمر إلا ليوشك أن يخرج أحدهما صاحبه ] .
و يروى أن رجلاً أسيراً مسلماً ، و كان حافظاً للقرآن ، خص بخدمة راهبين ، فحفظا منه آيات كثيرة لكثرة تلاوته فأسلم الرهبان و تنصر المسلم . و قيل له : ارجع إلى دينك فلا حاجة لنا فيمن لم يحفظ دينه . قال : لا أرجع إليه أبداً فقتل ، و في الخبر قصته ، و الحكايات كثيرة في هذا الباب نسأل الله السلامة و الممات على الشهادة .
و أنشد بعضهم :
قد جرت الأقلام في ذي الورى بالختم من أمر الحكيم العليم
فمن سعيد و شقي و من مثر من المال و عار عديم
و من عزيز رأسه في السها و من ذليل وجهه في التخوم
و من صحيح شيدت أركانه و آخر واهي المباني سقيم
كل على منهاجه سالك ذلك تقدير العزيز العليم
و قال الربيع : سئل الشافعي عن القدر فأنشأ يقول :
ما شئت كان و إن لم أشأ و ما شئت إن لم تشأ لم يكن
خلقت العباد على ما علمت ففي العلم يجري الفتى و المسن
على ذا مننت و هذا خذلت و هذا أغنت و ذا لم تعن
فمنهم شقي و منهم سعيد و منهم قبيح و منهم حسن
و منهم غني و منهم فقير و كل بأعماله مرتهن