باب ما جاء في اختيار البقعة للدفن
 

أبو داود الطيالسي ، قال : حدثنا سوار بن ميمون أبو الجراح العبدي ، قال : حدثني رجل من آل عمر ، عن عمر ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم ، يقول : من زار قبري ـ أو قال : من زارني ـ كنت له شهيداً أو شفيعاً ، و من مات بأحد الحرمين بعثه الله عز و جل في الآمنين يوم القيامة . و خرجه الدارقطني عن حاطب . قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من زارني بعد موتي فكأنما زارني حياً في حياتي ، و من مات بأحد الحرمين ، بعث من الآمنين يوم القيامة .
و خرج البخاري و مسلم ، عن أبي هريرة ، قال : أرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام ، فلما جاء صكه ففقأ عينه. فرجع إلى ربه ، فقال : أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت ، قال : فرد الله إليه عينه ، و قال : ارجع إليه ، و قل له : يضه يده على متن جلد ثور ، فله بما غطت يده كل شعرة سنة ، قال : أي رب ، ثم مه ؟ قال : ثم الموت ، قال : فالآن . فسأل الله أن يدينه من الأرض المقدسة رمية حجر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر .
و في رواية ، قال : جاء ملك الموت إلى موسى عليه السلام ، فقال له : أجب ربك ، قال : فلطم موسى عين الملك ففقأها ، و ذكر نحوه .
قال الترمذي ، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها ، فإني أشفع لمن مات بها صححه أبو محمد عبد الحق .
و في الموطأ أن عمر رضي الله عنه ، كان يقول : اللهم ارزقني شهادة في سبيلك و وفاة في بلد نبيك .
و كان سعد بن أبي وقاص ، و سعيد بن زيد ، قد عهدا أن يحملا من العقيق إلى البقيع مقبرة المدينة فيدفنا بها ، و الله أعلم لفضل علموه هناك ، قال : فإن فضل المدينة غير منكور و لا مجهول ، و لو لم يكن إلا مجاورة الصالحين و الفضلاء من الشهداء و غيرها لكفى .
و روى عن كعب الأحبار أنه قال لبعض أهل مصر ، لما قال له : هل لك من حاجة ؟ فقال : نعم ، جراب من تراب سفح المقطم ، يعني : جبل مصر ، قال : فقلت له : يرحمك الله ، و ما تريد منه ؟ قال : أضعه في قبري ، قال له : تقول هذا و أنت بالمدينة و قد قيل في البقيع ما قيل ، قال : إنا نجد في الكتاب الأول أنه مقدس ما بين القصير إلى اليحموم . .
فصل : قال علماؤنا رحمة الله عليهم : البقاع لا تقدس أحداً و لا تطهره ، و إنما الذي يقدسه من وضر الذنوب و دنسها التوبة النصوح مع الأعمال الصالحة ، أما إنه قد يتعلق بالبقعة تقديس ما ، و هو إذا عمل العبد فيها عملاً صالحاً ضوعف له بشرف البقعة مضاعفة تكفر سيئاته ، و ترجح ميزانه ، و تدخله الجنة ، و كذلك تقديسه إذا مات على معنى التتبع لصالح ، لا أنها توجب التقديس ابتداء .
و قد روى مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : ما أحب أن أدفن بالبقيع ، لأن أدفن في غيره أحب إلي . ثم بين العلة ، فقال : مخافة أن تنبش لي عظام رجل صالح ، أو نجاور فاجراً ، و هذا تستوي فيه سائر البقاع ، فدل على أن الدفن بالأرض المقدسة ليس بالمجمع عليه ، و قد يستحسن الإنسان أن يدفن بموضع قرابته و إخوانه و جيرانه ، لا لفضل و لا لدرجة .
فصل : إن قال قائل : كيف جاز لموسى عليه السلام أ ن يقدم على ضرب ملك الموت حتى فقأ عينه ؟ فالجواب من وجوه ستة :
الأول : أنها كانت عيناً متخيلة ، لا حقيقة لها ، و هذا القول باطل . لأنه يؤدي إلى أن ما يراه الأنبياء . من صور الملائكة لا حقيقة لها ، و هذا مذهب السالمية .
الثاني : أنها كانت عيناً معنوية فقأها بالحجة ، و هذا مجاز لا حقيقة له .
الثالث : أنه لم يعرفه ، و ظنه رجلاً دخل منزله بغير إذنه ، يريد نفسه فدافع عنها ، فلطمه : ففقأ عينه ، و تجب المدافعة في مثل هذا بكل ممكن ، و هذا وجه حسن ، لأنه حقيقة في العين و الصك ، قاله الإمام أبو بكر بن خزيمة إلا أنه اعترض بما في الحديث نفسه ، و هو أن ملك الموت عليه السلام لما رجع إلى الله تعالى ، قال : يا رب أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت ، فلو لم يعرفه موسى لما صدر هذا القول من ملك الموت .
الرابع : أن موسى عليه السلام كان سريع الغضب ، و سرعة غضبه كانت سبباً لصكه ملك الموت ، قاله ابن العربي في الأحكام ، و هذا فاسد ، لأن الأنبياء معصومون أن يقع منهم ابتداء مثل هذا في الرضا و الغضب .
الخامس : ما قاله ابن مهدي رحمه الله : أن عينه المستعارة ذهبت لأجل أنه جعل له أن يتصور بما شاء ، فكأن موسى عليه السلام لطمه و هو متصور بصورة غيره بدلالة أنه رأى بعد ذلك معه عينه .
السادس : و هو أصحها إن شاء الله ، و ذلك أن موسى عليه السلام كان عنده ما أخبر تبيناً عليه السلام من أن الله تعالى لا يقبض روحه حتى يخيره ـ خرجه البخاري و غيره ـ فلما جاءه ملك الموت على غير الوجه الذي أعلم بادر بشهامته و قوة نفسه إلى أدبه . فلطمت ففقئت عينه امتحاناً لملك الموت . إذ لم يصرح له بالتخير ، و مما يدل على صحة هذا : أنه لما رجع إليه ملك الموت فخيره بين الحياة و الموت . اختار الموت و استسلم ، و الله بغيبه أعلم و أحكم ، و ذكره ابن العربي في قبسه بمعناه و الحمد لله .
و قد ذكر الترمذي الحكيم أبو عبد الله في نوادر الأصول حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : كان ملك الموت عليه السلام يأتي الناس عياناً حتى أتى موسى عليه السلام فلطمه ففقأ عينه الحديث بمعناه . و في آخره فكان يأتي الناس بعد ذلك في خفية .