باب ذكر حديث البراء المشهور الجامع لأحوال الموتى عند قبض أرواحهم و في قبورهم
 
أخرجه أبو داود الطيالسي و عبد بن حميد في مسنديهما و علي بن معبد في كتاب الطاعة و المعصية . و هناد بن السرى في زهده . و أحمد بن حنبل في مسنده و غيرهم .
و هو حديث صحيح له طرق كثيرة تهمم بتخريج طرقه علي بن معبد . فأما أبو داود الطيالسي فقال : حدثنا أبو عوانة عن الأعمش . و قال هناد و أحمد : حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن المنهال عن عمرو ، و قال : أبو داود : حدثنا عمرو بن ثابت سمعه من المنهال بن عمرو عن زاذان عن البراء ـ يعني ابن عازب ـ و حديث أبي عوانة أتمهما ، قال البراء : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ، و لما يلحد ، فجلس رسول الله صلى الله عليه و سلم و جلسنا حوله ، كأنما على رؤوسنا الطير ، قال عمر بن ثابت : وقع و لم يقله أبو عوانة ، فجعل يرع بصره و ينظر إلى السماء و يخفض بصره و ينظر إلى الأرض ، ثم قال : أعوذ بالله من عذاب القبر قالها مراراً ثم قال : إن العبد المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة و انقطاع من الدنيا ، جاءه ملك فجلس عند رأسه فيقول اخرجي أيتها النفس الطيبة إلى مغفرة من الله و رضوان فتخرج نفسه فتسيل كما يسيل قطر السقا قال : عمرو في حديثه ، و لم يقله أبو عوانة و إن كنتم ترون غير ذلك . و تنزل ملائكة من الجنة بيض الوجوه ، كأن وجوههم الشمس ، معهم أكفان من أكفان الجنة ، و حنوط من حنوطها . فيجلسون منه مد البصر فإذا قبضها الملك لم يدعوها في يده طرفة عين قال : فذلك قوله تعالى : توفته رسلنا و هم لا يفرطون قال : فتخرج نفسه كأطيب ريج وجدت ، فتعرج به الملائكة فلا يأتون على جند بين السماء و الأرض إلا قالوا : ما هذه الروح ؟ فيقال : فلان ، بأحسن أسمائه حتى ينتهوا به أبواب سماء الدنيا فيفتح له ، و يشيعه من كل سماء مقربوها حتى ينتهي إلى السماء السابعة ، فيقال : اكتبوا كتابه في عليين و ما أدراك ما عليون * كتاب مرقوم * يشهده المقربون فيكتب كتابه في عليين . ثم يقال : ردوه إلى الأرض فإني وعدتهم أني منها خلفتهم ، و فيها نعيدهم ، و منها نخرجهم تارة أخرى ، قال : فيرد إلى الأرض ، و تعاد روحه في جسده ، فيأتيه ملكان شديدا الانتهار فينتهرانه و يجلسانه ، فيقولان من ربك ؟ و ما دينك ؟ و من نبيك ؟ فيقول ربي الله و ديني الإسلام ، فيقولان : فما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول : هو رسول الله . فيقولان : و ما يدريك ؟ فيقول : جاءنا بالبينات من ربنا فآمنت به و صدقت قال : و ذلك قوله تعالى : يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة قال : و ينادي منادي السماء أن قد صدق عبدي فأفرشوه من الجنة و ألبسوه من الجنة و أروه منزله منها و يفسح له مد بصره . و يمثل عمله له في صورة رجل حسن الوجه طيب الرائحة حسن الثياب فيقول : أبشر بما أعد الله لك ابشر برضوان من الله و جنات فيها نعيم مقيم فينقول : بشرك الله بخير ، من أنت فوجهك الوجه الذي جاء بالخير ؟ فيقول : هذا يومك الذي كنت توعد ، أو الأمر الذي كنت توعد أنا عملك الصالح فو الله ما علمتك إلا كنت سريعاً في طاعة الله بطيئاً عن معصية الله فجزاك الله خيراً . فيقول يا رب أقم الساعة كي أرجع إلى أهلي و مالي قال : فإن كان فاجراً و كان في إقبال من الدنيا و انقطاع من الآخرة جاء ملك ، فجلس عند رأسه فقال : اخرجي أيتها النفس الخبيثة أبشري بسخط من الله وغضبه ، فتنزل الملائكة سود الوجوه معهم مسوح من نار فإذا قبضها الملك قاموا فلم يدعوها في يده طرفة عين ، قال : فتفرق في جسده فيستخرجها ، تقطع منها العروق و العصب كالسفود الكثير الشعب في الصوف المبتل ، فتؤخذ من الملك فتخرج كأنتن جيفة وجدت فلا تمر على جند فيما بين السماء و الأرض ، إلا قالوا ما هذه الروح الخبيثة ؟ فيقولون : هذا فلان بأسوأ أسمائه حتى ينتهوا به إلى سماء الدنيا فلا يفتح لهم ، فيقولون : ردوه إلى الأرض إني وعدتهم أني منها خلقتهم و فيها نعيدهم ، و منها نخرجهم تارة أخرى قال : فيرمي به من السماء . قال : و تلا هذه الآية و من يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق . قال : فيعاد إلى الأرض و تعاد فيه روحه ، و يأتيه ملكان شديدا الانتهار فينتهزانه و يجلسانه فيقولون : من ربك ؟ و ما دينك ؟ فيقول : لا أردي . فيقولون : فما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فلا يهتدي لاسمه فيقال : محمد ، فيقول : لا أدري سمعت الناس يقولون ذلك قال : فيقال : لا دريت ، فيضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه . و يمثل له عمله في صورة رجل قبيح الوجه منتن الريح قبيح الثياب ، فيقول : أبشر بعذاب الله و سخطه ، فيقول : من أنت فوجهك الذي جاء بالشر ؟ فيقول : أنا عملك الخبيث فو الله ما عملتك إلا كنت بطيئاً عن طاعة الله سريعاً إلى معصية الله .
قال عمرو في حديثه عن المنهال عن زاذان عن البراء عن النبي صلى الله عليه و سلم : فيقيض له أصم أبكم بيده مرزبه ضرب بها جبل صار تراباً أو قال : رميما فيضربه به ضربة تسمعها الخلائق إلا الثقلين ، ثم تعاد فيه الروح فيضرب ضربة أخرى لفظ أبي داود الطيالسي و خرجه علي بن معبد الجهني من عدة طرق بمعناه : و زاد فيه : ثم يقيض له اعمى أصم معه مرزبة من حديد فيضربه فيدق بها من ذؤابته إلى خصره ثم يعاد فيضربه ضربة فيدق بها من ذؤابته إلى خصره و زاد في بعض طرقه عند قوله مرزبة من حديد : لو اجتمع عليه الثقلان لم ينقلوها . فيضرب بها ضربة فيصير تراباً ثم تعاد فيه الروح ، و يضرب بها ضربة يسمعها من على الأرض غير الثقلين ، ثم يقال : افرشوا له لوحين من نار و افتحوا له باباً إلى النار ، فيفرش له لوحان من نار و يفتح له باب إلى النار و زاد فيه عند قوله : و انقطاع من الدنيا : نزلت به ملائكة غلاظ شداد معهم حنوط من نار و سرابيل من قطران يحتوشونه فتنتزع نفسه كما ينتزع السفود الكثير الشعب من الصوف المبتل يقطع معه عروقها ، فإذا خرجت نفسه لعنه كل ملك في السماء و كل ملك في الأرض و خرج أبو عبد الله الحسين بن الحسين بن حرب ، صاحب ابن المبارك في رقائقه بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه كان يقول : [ إذا قتل العبد في سبيل الله كان أول قطرة تقطر من دمه ، إلى الأرض كفارة للخطايا ثم يرسل الله عز و جل بربطة من الجنة فيقبض فيها روحه . و صورة من صور الجنة فيركب فيها روحه ثم يعرج مع الملائكة كأن معهم و الملائكة على أرجاء السماء ، فيقولان : قد جاء روح من الأرض طيبة ، و نسمة طيبة ، فلا تمر بباب إلا فتح لها ، و لا ملك إلا صلى عليها و دعا لها : و يشيعها ، حتى يؤتى بها الرحمن . فيقولون : يا ربنا هذا عبدك توفيته في سبيلك فيسجد قبل الملائكة ، ثم تسجد الملائكة بعد ثم يطهر و يغفر له ثم يؤمر فيذهب به إلى الشهداء فيجدهم في قباب من حرير في رياض خضر عندهم حوت و ثور يظل الحوت يسبح في أنهار الجنة يأكل من كل رائحة في أنهار الجنة ، فإذا أمسى و كزه الثور بقرنه فيذكيه فيأكلون لحمه فيجدون في لحمه طعم كل رائحة و يبيت الثور في أفناء الجنة فإذا أصبح غداً عليه الحوت فوكزه بذنبه فيذكيه فيأكلون فيجدون في لحمه طعم كل رائحة في الجنة ثم يعودون و ينظرون إلى منازلهم من الجنة ، و يدعون الله عز و جل أن تقوم الساعة ، فإذا توفي العبد المؤمن بعث الله عز و جل إليه ملكين و أرسل إليه بخرقة من الجنة ، فقال : اخرجي أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى روح و ريحان و رب عنك غير غضبان ، فتخرج كأطيب ريح من مسك ما وجدها أحد بأنفه قط ، و الملائكة على أرجاء السماء يقولون قد جاء من قبل الأرض روح طيبة و نسمة طيبة فلا تمر بباب إلا فتح لها و لا بملك إلا دعا لها و صلى عليها ، حتى يؤتى بها الرحمن فتسجد الملائكة ثم يقولون : هذا عبدك فلان قد توفيته و كان يعبدك لا يشرك بك شيئاً ، فيقول مروه فليسجد فتسجد النسمة ، ثم يدعى ميكائيل فيقول : اذهب بهذه فاجعلها مع أنفس المؤمنين حتى أسألك عنها يوم القيامة ثم يؤمر فيوسع عليه قبره سبعين ذراعاً عرضه و سبعين ذراعاً طوله ، و ينبذ له فيه الرياحين و يستر بالحرير ، فإن كان معه شيء من القرآن كفاه نوره . و إن لم يكن معه جعل له في قبره نور مثل نور الشمس . و يكون مثله كمثل العروس ينام فلا يوقظه إلا أحب أهله إليه ، قال : فيقوم من نومه كأنه لم يشبع من نومته ، و إذا توفي العبد الفاجر أرسل الله إليه ملكين و أرسل بقطعة من نجاد أنتن من كل نتن و أخشن من كل خشن ، فقالا : أخرجي أيتها النفس الخبيثة ، اخرجي إلى حميم و عذاب ، و رب عليك غضبان أخرجي و ساء ما قدمت لنفسك ، فتخرج كأنتن رائحة وجدها أحد بأنفه قط و على أرجاء السماء ملائكة يقولون : قد جاءت من الأرض روح خبيثة ، و نسمة خبيثة فتغلق دونها أبواب السماء ، و لا تصعد إلى السماء ثم يؤمر فيضيق عليه قبره و يرسل عليه حيات أمثال أعناق البخت فتأكل لحمه حتى لا تذر على عظمه لحماً ، و يرسل عليه ملائكة صم عمي يضربونه بفطاطيس من حديد لا يسمعون صوته فيرحموه ، و لا يبصرونه فيرحموه ، و لا يخطئون حتى يضربونه ، و يعرض عليه مقعده من النار بكرة و عشيا يدعو بأن يدوم ذلك و لا يخلص إلى النار .
و خرج أبو عبد الرحمن النسائي بسنده عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إذا احتضر المؤمن أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء فيقولون : أخرجي راضية مرضياً عنك إلى روح و ريحان و رب راض غير غضبان فتخرج كأطيب ريح المسك حتى إنه ليناوله بعضهم بعضاً حتى يأتوا به باب السماء فيقولون : ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الأرض ؟ فيأتون به أرواح المؤمنين فلهم أشد فرحاً من أحدكم بغائبه يقدم عليه فيسألونه : ما فعل فلان ؟ ما فعلت فلانة ؟ فيقولون : دعوه فإنه كان في غم الدنيا فإذا قال : ما أتاكم ؟ قالوا : ذهب به إلى أمه الهاوية و إن الكافر إذا احتضر أتته ملائكة العذاب بمسح فيقولون : اخرجي ساخطة مسخوطاً عليك إلى عذاب الله فيخرج كأنتن ريح خبيثة حتى يأتوا به باب الأرض فيقولون : ما أنتن هذه الريح ؟ حتى يأتوا به أرواح الكفار .
و خرج أبو داود الطيالسي قال : حدثنا حماد ، عن قتادة ، عن أبي الجوزاء ، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا قبض العبد المؤمن جاءته ملائكة الرحمة فتسلم تسل نفسه في حريرة بيضاء فيقولون : ما وجدنا ريحاً أطيب من هذه . فيسألونه فيقولون : ارفقوا به فإنه خرج من غمم الدنيا . فيقولون : ما فعل فلان ؟ ما فعلت فلانة ؟ قال : و أما الطافر فتخرج نفسه فتقول خزنة الأرض ما وجدنا ريحاً أنتن من هذه فيهبط به إلى أسفل الأرض .
الرد على الملحدة
قلت : و هنا فصول ستة في الرد على الملحدة :
الفصل الأول
تأمل يا أخي وفقني الله و إياك هذا الحديث و ما قبله من الأحاديث ترشدك إلى أن الروح و النفس شيء واحد و أنه جسم لطيف مشابك للأجسام المحسوسة يجذب و يخرج . و في أكفانه يلف و يدرج : و به إلى السماء يعرج . لا يموت و لا يفنى و هو مما له أول و ليس له آخر . و هو بعينين و يدين . و أنه ذو ريح طيب و خبيث . و هذه صفة الأجسام لا صفة الأعراض .
و قد قال بلال في حديث الوادي : أخذ بنفسي يا رسول الله الذي أخذ بنفسك . و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : مقابلاً له في حديث زيد بن أسلم في حديث الوادي : يا أيها الناس إن الله قبض أرواحنا و لو شاء ردها إلينا في حيز غير هذا و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الروح إذا قبض تبعه البصر و قال : فذلك حين يتبع بصره نفسه و هذا غاية في البيان و لا عطر بعد عروس ، و قد اختلف الناس في الروح اختلافاً كثيراً : أصح ما قيل فيه : ما ذكرناه لك و هو مذهب أهل السنة : أنه جسم ، فقد قال تعالى : الله يتوفى الأنفس حين موتها . قال أهل التأويل : يريد الأرواح ، و قد قال تعالى : فلولا إذا بلغت الحلقوم يعني النفس عند خروجها من الجسد ، و هذه صفة الجسم و لم يجر لها ذكر في الآية لدلالة الكلام عليها ، كقول الشاعر :
أماوي ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً و ضاق بها الصدر
و كل من يقول : إن الروح يموت و يفنى فهو ملحد . و كذلك من يقول : بالتناسخ : أنها إذا خرجت من هذا ركبت في شيء آخر : حمار أو كلب أو غير ذلك . و إنما هي محفوظة بحفظ الله إما منعمة و إما معذبة . على مايأتي بيانه إن شاء الله تعالى .
الفصل الثاني
الإيمان بعذاب القبر و فتنته : واجب . و التصديق به : لازم . حسب ما أخبر به الصادق . و أن الله تعالى يحيي العبد المكلف في قبره برد الحياة إليه و يجعله من العقل في مثل الوصف الذي عاش عليه ليعقل ما يسأل عنه و ما يجيب به و يفهم ما أتاه من ربه و ما أعد له في قبره من كرامة أو هوان . و بهذا نطقت الأخبار عن النبي المختار صلى الله عليه و سلم و على آله آناء الليل و أطراف النهار ، و هذا مذهب أهل السنة و الذي عليه الجماعة من أهل الملة . و لم تفهم الصحابة الذين نزل القرآن بلسانهم و لغتهم من نبيهم عليه السلام غير ما ذكرنا . و كذلك التابعون بعدهم إلى هلم جراً ، و لقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ـ لما أخبر النبي صلى الله عليه و سلم بفتنة الميت في قبره و سؤال منكر و نكير و هما الملكان له : يا رسول الله أيرجع إلى عقلي ؟ قال : نعم . قال : إذا أكفيكهما . و الله لئن سألاني سألتهما . فأقول لهما : أنا ربي الله فمن ربكما أنتما ؟ .
و خرج الترمذي الحكيم أبو عبد الله في نوادر الأصول من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ذكر يوماً فتاني القبر . فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أترد علينا عقولنا يا رسول الله ؟ فقال : نعم كهيئاتكم اليوم ، فقال عمر : في فيه الحجر . و قال سهل بن عمار : رأيت يزيد بن هارون في المنام بعد موته . فقلت له مافعل الله بك ؟ فقال إنه أتاني في قبري ملكان فظان غليظان ، فقالا : ما دينك ؟ و من ربك ؟ و من نبيك ؟ فأخذت بلحيتي البيضاء . و قلت : ألمثلي يقال هذا ؟ و قد عملت الناس جوابكما ثمانين سنة . فذهبا . و قالا : أكتبت عن حريز بن عثمان ؟ قلت نعم . فقالا : إنه كان يبغض علياً فأبغضه الله .
و في حديث البراء : [ فتعاد روحه في جسده ] و حسبك . و قد قيل : إن السؤال و العذاب إنما يكون على الروح دون الجسد . و ما ذكرناه لك أو لا أصح و الله أعلم .
الفصل الثالث
أنكرت الملحدة من تمذهب من الإسلاميين بمذهب الفلاسفة : عذاب القبر و أنه ليس له حقيقة ، و احتجوا بأن قالوا : إنا نكشف القبر فلم نجد فيه ملائكة عمياً صماً يضربون الناس بفطاطيس من حديد و لا نجد فيه حيات و لا ثعابين و لا نيراناً و لا تنانين . و كذلك لو كشفنا عنه في كل حالة لوجدناه فيه لم يذهب و لم يتغير ، و كيف يصح إقعاده و نحن لو وضعنا الزئبق بين عينيه لوجدناه بحاله ، فكيف يجلس و يضرب و لا يتفرق ذلك ؟ و كيف يصح إقعاده و ما ذكرتموه من الفسحة ؟ و نحن نفتح القبر فنجد لحده ضيقاً و نجد مساحته على حد ما حفرناها لم يتغير علينا ، فكيف يسعه و يسع الملائكة السائلين له ؟ و إنما ذلك كله إشارة إلى حالات ترد على الروح من العذاب الروحاني ، و إنها لا حقائق لها على موضوع اللغة .
و الجواب : أنا نؤمن بما ذكرناه . و الله أن يفعل ما يشاء من عقاب و نعيم . و يصرف أبصارنا عن جميع ذلك بل يغيبه عنا . فلا يبعد في قدرة الله تعالى فعل ذلك كله بعد في قدرة الله تعالى فعل ذلك كله إذا هو القادر على كل ممكن جائز فإنا لو شئنا لأزلناه الزئبق عن عينيه ، ثم نضجعه و نرد الزئبق و كذلك يمكننا أن نعمق القبر و نوسعه حتى يقوم فيه قياماً فضلاً عن العقود . و كذلك يمكننا أن نوسع القبر ذراع فضلاً عن سبعين ذراعاً ، و الرب سبحانه أبسط منا قدرة ، و أقوى منا قوة ، و أسرع فعلاً ، و أحصى منا حساباً إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له : كن فيكون و لا رب لمن يدعى الإسلام إلا من هذه صفته ، فإذا كشفنا نحن عن ذلك رد الله سبحانه الأمر على ما كان نعم لو كان الميت بيننا موضوعاً فلا يمتنع أن يأتيه الملكان و يسألاه من غير أن يشعر الحاضرون بهما ، و يجيبهما من غير أن يسمع الحاضرون جوابهما . و مثال ذلك : نائمان بيننا أحدهما ينعم و الآخر يعذب ، و لا يسعر بذلك أحد ممن حولهما من المنتبهين ، ثم إذا استيقظا أخبر كل واحد منهما عما كان فيه .
و قد قال بعض علمائنا : إن دخول الملك القبور جائز أن يكون تأويله : اطلاعه عليها و على أهلها . و أهلها مدركون له عن بعد من غير دخول و لا قرب . و يجوز أن يكون الملك للطافة أجزائه يتولج في خلال المقابر فيتوصل إليهم من غير نبش و يجوز أن ينبشهما ثم يعيدها الله إلى مثل حالها على وجه لا يدركها أهل الدنيا .
و يجوز أن يكون الملك يدخل من تحت قبورهم من مداخل لا يهتدي الإنسان إليها .
و بالجملة : فأحوال المقابر و أهلها على خلاف عادات أهل لدنيا في حياتهم فليس تنقاس أحوال الآخرة على أحوال الدنيا . و هذا مما لا خلاف فيه. و لولا خبر الصادق بذلك لم نعرف شيئاً مما هنالك . فإن قالوا : كل حديث يخالف مقتضى المعقول يقطع بتخطئة ناقله ، و نحن نرى المصلوب على صلبه مدة طويلة و هو لا يسأل و لا يحيى و كذلك يشاهد الميت على سريره و هو لا يجيب سائلاً و لا يتحرك و من افترسه السباع ، و نهشه الطيور ، و تفرقت أجزاؤه في أجواف الطير ، و بطون الحيتان و حواصل الطيور ، و أقاصي التخوم ، و مدارج الرياح ، فكيف تجتمع أجزاؤه ؟ أم كيف تتألف أعضاؤه ؟ و كيف تتصور مساءلة الملكين لمن هذا وصفه ؟ أم كيف يصير القبر على من هذا حاله روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار ؟ و الجواب عن هذا من وجوه أربعة : .
أحدها : أن الذي جاء بهذا هم الذين جاءوا بالصلوات الخمس و ليس لنا طريق إلا ما نقلوه لنا من ذلك .
الثاني : ما ذكره القاضي لسان الأمة و هو : أن المدفونين في القبور يسألون . و الذين بقوا على وجه الأرض فإن الله تعالى يحجب المكلفين عما يجري عليهم كما حجبهم عن رؤية الملائكة مع رؤية الأنبياء عليه و السلام لهم . و من أنكر ذلك فلينكر نزول جبرائيل عليه السلام على الأنبياء عليهم السلام . و قد قال الله تعالى : في وصف الشياطين إنه يراكم هو و قبيله من حيث لا ترونهم .
الثالث : قال بعض العلماء : لا يبعد أن ترد الحياة إلى المصلوب و نحن لا نشعر به كما أنا نحسب المغمى عليه ميتاً . و كذلك صاحب السكتة و ندفنه على حسبان الموت ، و من تفرقت أجزاؤه فلا يبعد أن يخلق الله الحياة في أجزائه .
قلت : و يعيده كما كان . كما فعل بالرجل الذي أمر إذا مات أن يحرق ثم يسحق ثم يذري حتى تنسفه الرياح [ الحديث ] و فيه : [ فأمر الله البر فجمع ما فيه . وأمر البحر فجمع ما فيه . ثم قال : ما حملك على ما فعلت ؟ قال : خشيتك . أو قال مخافتك ] خرحه البخاري و مسلم و في التنزيل فخذ أربعة من الطير الآية .
الرابع : قال أبو المعالي : المرضي عندنا : أن السؤال يقع على أجزاء يعملها الله تعالى من القلب أو غيره فيحييها و يوجه السؤال عليها . و ذلك غير مستحيل عقلاً . قال بعض علمائنا : و ليس هذا بأبعد من الذر الذي أخرجه الله تعالى من صلب آدم عليه السلام و أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا : بلى .
الفصل الرابع
فإن قالوا : ما حكم الصغار عندكم ! قلنا : هم كالبالغين و أن العقل يكمل لهم ليعرفوا بذلك منزلتهم و سعادتهم و يلهمون الجواب عما يسألون عنه . و هذا ما تقتضيه ظواهر الأخبار ، فقد جاء أن القبر ينضم عليه كما ينضم على الكبار . و قد تقدم . و ذكر هناد بن السرى قال : حدثنا أبو معاوية عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :[ إن كان ليصلى على النفوس ما أن عمل خطيئة قط فيقول : اللهم أجره من عذاب القبر ] .
الفصل الخامس
فإن قالوا : فما تأويلكم في القبر : حفرة من النار ، أو روضة من رياض الجنة ؟ قلنا : ذلك محمول عندنا على الحقيقة لا على المجاز . و أن القبر يملأ على المؤمن خضراً و هو العشب من البنات ، و قد عينه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال : هو الريحان كما في حق الكافر يفرش له لوحان من نار ، و قد تقدم . و قد حمله بعض علمائنا على المجاز و المراد خفة السؤال على المؤمن ، و سهولته عليه و أمنه فيه ، و طيب عيشه و وصفه بأنه جنة تشبيهاً بالجنة و النعيم فيها بالرياض يقال : فلان في الجنة إذا كان في رغد من العيش و سلامة . فالمؤمن يكون في قبره في روح و راحة و طيب عيش ، و قد رفع الله عن عينيه الحجاب حتى يرى مد بصره كما في الخبر ، و أراده بحفرة النار ضغطة القبر و شدة المساءلة و الخوف و الأهول التي تكون فيها على الكفرة و بعض أهل البكائر : و الله أعلم ، و الأول أصح لأن الله سبحانه و رسوله يقص الحق و لا استحالة في شيء من ذلك .
الفصل السادس
روى أبو عمر في التمهيد عن ابن عباس قال : سمعت عمر بن الخطاب : أيها الناس إن الرجم حق فلا تخذ عن عنه . و إن آية ذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد رجم . و أن أبا بكر قد رجم . و إنا قد رجمنا بعدهما . و سيكون أقوام من هذه الأمة يكذبون بالرجم . و يكذبون بالدجال و يكذبون بطلوع الشمس من مغربها . و يكذبونها بعذاب القبر . و يكذبون بالشفاعة ، و يكذبون بقوم يخرجون من النار بعدما امتحشوا .
قال علماؤنا رحمة الله عليهم : هؤلاء هم القدرية و الخوارج ، و من سلك النار سبيلهم . و افترقوا في ذلك فرقاً . فصار أبو الهذيل و بشر : إلى أن خرج عن سلمة الإيمان ، فإنه يعذب بين النفختين ، و أن المساءلة إنما تقع في تلك الأوقات و أثبت البلخي و كذلك الجبائي و ابنه : عذاب القبر . و لكنهم نفوه عن المؤمنين و أثبتوه الكافرين و الفاسقين . و قال الأكثرون من المعتزلة : لا يجوز تسمية ملائكة الله تعالى بمنكر و نكير ، و إنما المنكر ما يبدو من تلجلجله إذا سئل ، و تقريع الملكين له هو النكير ، و قال صالح : عذاب القبر جائز ، و أنه يجري على الموتى من غير رد الأرواح إلى الأجساد ، و أن الميت يجوز أن يألم و يحس و يعلم . و هذا مذهب جماعة من الكرامية . و قال بعض المعتزلة : إن الله يعذب الموتى في قبورهم ، و يحدث فيهم الآلآم و هم لا يشعرون ، فإذا حشروا وجدوا تلك الآلام . و زعموا أن سبيل المعذبين من الموتى ، كسبيل السكران أو المغشى عليه ، لو ضربوا لم يجدوا الآلام ، فإذا عاد إليهم العقل وجدوا تلك الآلام ، و أما الباقون من المعتزلة . مثل ضرار بن عمرو و بشر المريسي و يحيى بن كامل و غيرهم ، فإنهم أنكروا عذاب القبر أصلاً ، و قالوا : إن من مات فهو ميت في قبره إلى يوم البعث و هذه أقوال كلها فاسدة تردها الأخبار الثابتة و في التنزيل : النار يعرضون عليها غدواً و عشياً . و سيأتي من الأخبار مزيد بيان ، و بالله التوفيق و العصمة و الله أعلم .