باب ما جاء في صفة الملكين صلوات الله عليهما و صفة سؤالهما
 
قد تقدم من حديث الترمذي : أنهما أسودان أزرقان . يقال لأحدهما : منكر ، و للآخر : النكير ، و روى معمر عن عمرو بن دينار و عن سعد بن إبراهيم عن عطاء ابن يسار أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لعمر : كيف بك يا عمر إذا جاءك منكر و نكير إذا مت و انطلق بك إلى قومك و قاسوا ثلاثة أذراع و شبر في ذارع و شبر ، ثم غسلوك و كفوك و حنطوك ، ثم احتملوك فوضعوك فيه ، ثم أهالوا عليك التراب ؟ فإذا انصرفوا عنك أتاك فتانا القبر : منكر و نكير أصواتهما كالرعد القاصف و أبصارهما كالبرق الخاطف ، يجران شعورهما . معهما مزربة من حديد لو اجتمع عليها أهل الأرض لم يقلوها فقال عمر : يا رسول الله إن فرقنا فحق لنا أن نفرق أنبعث على ما نحن عليه ؟ قال : نعم قال : إذا أكفيكهما .
و روى نقلة الأخبار عن ابن عباس في خبر الإسراء : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : قلت : يا جبريل و ما ذاك ؟ قال : منكر و نكير يأتيان كل إنسان من البشر حين يوضع في قبره وحيداً فقلت : يا جبريل صفهما لي . قال : نعم من غير أن أذكر لك طولهما و عرضهما . ذكر ذلك منهما أفظع من ذلك غير أن أصواتهما كالرعد القاصف ، و أعينهما كالبرق الخاطف ، و أنيابهما كالصياصي ، يخرج لهب النار من أفوامهما ، و مناخرهما و مسامعهما ، يكسحان الأرض بأشعارها ، و يحفران الأرض بأظفارهما مع كل واحد منهما عمود من حديد ، لو اجتمع عليه من في الأرض ما حركوه يأتيان الإنسان إذا وضع في قبره و ترك وحيداً يسلكان روحه في جسده بإذن الله تعالى ثم يقعدانه في قبره فيتنهرانه انتهاراً يتقعقع منه عظامه و تزول أعضاؤه من مفاصله فيخر مغشياً عليه . ثم يقعدانه فيقولان له : إنك في البرزخ فاعقل حالك ، و اعرف مكانك ، و ينتهرانه ثانية . و يقولان : يا هذا ذهبت عنك الدنيا و أفضيت إلى معادك فأخبرنا من ربك ؟ و ما دينك ؟ و من نبيك ؟ فإن كان مؤمناً بالله لقنه الله حجته فيقول : الله ربي و نبيي محمد ، و ديني الإسلام ، فينتهرانه عند ذلك انتهاراً يرى أن أوصافه تفرقت و عروقه قد تقطعت و يقولان له : يا هذا انظر ما تقول فيثبته الله عنه بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة و يلقنه الأمان و يدرأ عنه الفزع ، فلا يخافهما ، فإذا فعل ذلك بعبده المؤمن استأنس إليهما و أقبل عليهما بالخصومة يخاصمهما و يقول : تهدداني كيما أشك في ربي و تريداني أن أتخذ غيره ولياً و أنا أشهد أن لا إله إلا الله . و هو ربي و ربكما . و رب كل شيء و نبيي محمد و ديني الإسلام ؟ ثم ينتهرانه و يسألانه عن ذلك فيقول : ربي الله فاطر السموات و الأرض ، إياه كنت أعبد و لم أشرك به شيئاً و لم أتخذ غيره أحداً رباً . أفتريدان أن ترداني عن معرفة ربي و عبادتي إياه ؟ نعم هو الله الذي لا إله إلا هو . قال : فإذا قال ذلك ثلاث مرات مجاوبة لهما تواضعا له حتى يستأنس إليهما أنس ما كان في الدنيا إلى أهل وده و يضحكان إليه و يقولان له : صدقت و بررت أقر الله عينيك و ثبتك ، أبشر بالجنة و بكرامة الله ثم يدفع عنه قبره هكذا و هكذا فيتسع عليه مد البصر و يفتحان له باباً إلى الجنة فيدخل عليه من روح الجنة و طيب ريحها و نضرتها في قبره ما يتعرف به كرامة الله تعالى ، فإذا رأى ذلك استيقن بالفور فحمد الله ، ثم يفرشان له فراشاً من إستبرق الجنة و يضعان له مصباحاً من نور عند رأسه و مصباحاً من نور عند رجليه يزهران في قبره ، ثم ندخل عليه ريح أخرى ، فحين يشمها يغشاه النعاس فينام فيقولان له : ارقد رقدة العروس قرير العين لا خوف عليك و لا حزن . ثم يمثلان عمله الصالح في أحسن ما يرى من صورة ، و أطيب ريح فيكون عند رأسه ، و يقولان : هذا عملك و كلامك الطيب قد مثله الله لك في أحسن ما ترى من صورة و أطيب ريح ليؤنسك في قبرك فلا تكون وحيداً و يدرأ عنك هوام الأرض و كل دابة و كل أذى فلا يخذلك في قبرك و لا في شيء من مواطن القيامة حتى تدخل الجنة برحمة الله تعالى . فنم سعيداً طوبى لك و حسن مآب . ثم يسلمان عليه و يطيران عنه و ذكر الحديث و ما يلقة الكافر من الهوان الشديد و العذاب الأليم و حسبك بما تقدم .
قلت : و هذا الحديث و إن كان في إسناده مقال لأنه يروى عن عمرو بن سليمان عن الضحاك بن مزاحم ، فهو حديث مرتب على أحوال مبنية و محتو على أمورمفسرة .
فصل : قوله : أتاك فتانا القبر منكر و نكير .
إنما سميا فتاني القبر لأن في سؤالهما انتهاراً . و في خلقهما صعوبة . ألا ترى أنهما سميا منكراً و نكيراً ؟ فإنما سميا بذلك لأن خلقهما لا يشبه خلق الأدميين ، و لا خلق الملائكة ، و لا خلق الطير ، و لا خلق البهائم ، ولا خلق الهوام ، بل هما خلق بديع و ليس في خلقتهما أنس للناظرين إليهما ، جعلهما الله تكرمة للمؤمن يثبته و ينصره و هتكاً لستر المنافق في البرزخ من قبل أن يبعث حتى يحل عليه العذاب . قاله أبو عبد الله الترمذي .
فصل : إن قال قائل : كيف يخاطب الملكان جميع الموتى و هم مختلفوا الأماكن متباعدو القبور في الوقت الواحد . و الجسم الواحد لا يكون في المكانين في الوقت الواحد و كيف تنقلب الأعمال أشخاصاً و هي في نفسها أعراض ؟ .
فالجواب عن الأول : ما جرى ذكره في هذا الخبر من عظم جثتيهما فيخاطبان الخلق الكثير الذين في الجهة الواحدة منهم في المرة الواحدة : مخاطبة واحدة ، يخيل لكل واحد أن المخاطب هو دون من سواه . و يكون الله يمنع سمعه من مخاطبة الموتى لهما و يسمع هو مخاطبتهما أن لو كانوا معه في قبر واحد ، و قد تقدم أن عذاب القبر يسمعه كل شيء إلا الثقلين . و الله سبحانه و تعالى يسمع من يشاء و هو على كل شيء قدير .
و الجواب عن الثاني : أن الله يخلق من ثواب الأعمال أشخاصاً حسنة و قبيحة . لا أن العرض نفسه ينقلب جوهراً إذ ليس من قبيل الجواهر . و مثل هذا ما صح في الحديث : أنه يؤتى بالموت كأنه كبش أملح فيوقف على الصراط فيذبح و محال أن ينقلب الموت كبشاً لأن الموت عرض و إنما المعنى أن الله سبحانه يخلق شخصاً يسميه الموت فيذبح بين الجنة و النار . و هكذا كلما ورد عليك في هذا الباب التأويل فيه ما ذكرت لك . و الله سبحانه أعلم . و سيأتي له مزيد بيان إن شاء الله تعالى .