باب قوله تعالى : يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا الآية
 
مسلم عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة قال : نزلت في عذاب القبر . يقال له من ربك ؟ فيقول : الله ربي . و نبي محمد . فذلك محمد . قوله : يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة .
و في رواية أنه قول البراء . و لم يذكر النبي صلى الله عليه و سلم .
قلت : و هذا الطريق و إن كان موقوفاً فهو لا يقال من جهة الرأي فهو محمول على أن النبي صلى الله عليه و سلم قاله كما في الرواية الأولى ، و كما خرجه النسائي و ابن ماجه في سننهما و البخاري في صحيحه ، و هذا لفظ البخاري :
حدثنا جعفر بن عمر قال : حدثنا شعبة بن علقمة بن مرثد ، عن سعد بن عبيدة عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا أقعد العبد المؤمن في قبره . أتى ثم يشهد أن لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله فذلك قوله : يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت الآية ، و خرجه أبو داود في سننه . فقال فيه البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن المسلم إذا سئل في القبر فشهد أن لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله فذلك قوله يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة و قد مضى هذا المعنى في حديث البراء الطويل مرفوعاً و الحمد الله .
و قد روى هذا الخبر ، أبي هريرة و ابن مسعود و ابن عباس و أبو سعيد الخدري . قال أبو سعيد الخدري : كنا في جنازة مع النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا أيها الناس إن هذه الأمة تبتلى في قبورها . فإذا الإنسان دفن و تفرق عنه أصحابه جاءه ملك بيده مطراق فأقعده فقال : ما تقول في هذا الرجل ؟ فإن كان مؤمناً قال : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمداً عبده و رسوله ، فيقول له صدقت فيفتح له باب إلى النار فيقول له هذا منزلك لو كفرت بربك ، و أما الكافر و المنافق فيقول له : ما تقول في هذا الرجل ؟ فيقول : لا أدري . فيقال له : لا دريت و لا تليت ، ثم يفتح له باب إلى الجنة . فيقال له هذا منزلك لو آمنت بربك . فأما إذ كفرت فإن الله أبدلك به هذا ، ثم يفتح له باب إلى النار ، ثم يقمعه الملك بالمطراق قمعة يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين .
قال بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما أحد يقوم على رأسه ملك بيده مطراق إلا هيل عند ذلك . فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة و يضل الله الظالمين و يفعل الله ما يشاء .
فصل : صحت الأخبار عن النبي صلى الله عليه و سلم في عذاب القبر على الجملة فلا مطعن فيها و لا معارض لها . و جاء فيما تقدم من الآثار : أن الكافر يفتن في قبره و يسأل و يهان و يعذب . قال أبو محمد عبد الحق : و اعلم أن عذاب القبر ليس مختصاً بالكافرين و لا موقوفاً على المنافقين ، بل يشاركهم فيه طائفة من المؤمنين ، و كل على حال من عمله و ما استوجبه من خطبئته و زلله . و إن كانت تلك النصوص المتقدمة في عذاب القبر إنما جاءت في الكافر و المنافق ، قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب التمهيد : الآثار الثابتة تدل على : أن الفتنة في القبر لا تكون إلا لمؤمن أو منافق ممن كان منسوباً إلى أهل القبلة و دين الإسلام من حقن دمه بظاهر الشهادة ، و أما الكافر الجاحد المبطل فليس ممن يسأل عن ربه و دينه و نبيه ، و إنما يسأل عن هذا أهل الإسلام و الله أعلم ، فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت و يرتاب المبطلون . قال ابن عبد البر و في حديث زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : إن هذه الأمة تبتلى في قبورها و منهم من يرويه تسأل . و على هذا الفظ يحتمل أن تكون هذه الأمة خصت بذلك ، و هذا أمر لا يقطع عليه ، و الله أعلم .
و قال أبو عبد الله الترمذي في نوادر الأصول : و إنما سؤال الميت في هذه الأمة خاصة . لأن الأمم قبلنا كانت الرسل تأتيهم بالرسالة فإذا أبوا كفت الرسل ، و اعتزلوا و عوجلوا بالعذاب ، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه و سلم بالرحمة و أماناً للخلق ، فقال : و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين أمسك عنهم العذاب و أعطى السيف حتى يدخل في دين الإسلام من دخل لمهابة السيف ، ثم يرسخ في قلبه ، فأمهلوا ، فمن هنا ظهر أمر النفاق فكانوا يسرون الكفر و يعلنون الإيمان فكانوا بين المسلمين في ستر ، فلما ماتوا قيض الله لهم فتاني القبر ليستخرج سترهم بالسؤال ، و ليميز الله الخبيث من الطيب فيثبت الثابت في الحياة الدنيا و يضل الله الظالمين .
قال المؤلف : قول أبي محمد عبد الحق أصوب ، و الله أعلم ، فإن الأحاديث التي ذكرناها من قبل تدل على : أن الكافر يسأله الملكان ، و يختبرانه بالسؤال و يضرب بمطارق من حديد على ما تقدم ، و الله أعلم .