باب منه أمور تكون قبل الساعة
 
ذكر علي بن معبد عن أبي هريرة قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم و نحن في طائفة من أصحابه فقال : إن الله تعالى لما فرغ من خلق السموات و الأرض خلق الصور و أعطاه إسرافيل فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر فقال أبو هريرة قلت : يا رسول الله و ما الصور ؟ قال : قرن فقلت : و كيف هو ؟ قال : هو عظيم و الذي نفسي بيده إن عظم دارة فيه لكعرض السماء و الأرض فينفخ فيه ثلاث نفخات الأولى ، نفخة الفزع ، و الثانية : نفخة الصعق ، و الثالثة : نفخة القيام لرب العالمين ، يأمر الله إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول : انفخ نفخة الفزع فيفزع أهل السماء و الأرض إلا ما شاء الله و يأمره فيمدها و يديمها و يطولها يقول الله عز و جل : و ما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق مأخوذة من فواق الحالب و هي المهلة بين الحلبتين و ذلك أن الحالب يحلب الناقة و الشاة ثم يتركها ساعة يرضعها الفصيل لتدر ثم يحلب ، و منه سمي الفواق فواقاً لأنه ريح يتردد في المعدة بين مهليتن أي أن هذه النفخة ممتدة لا تقطيع فيها و يكون ذلك يوم الجمعة في النصف من شهر رمضان فيسير الله الجبال فتمر مر السحاب ، ثم تكون سراباً ثم ترتج الأرض بأهلها رجاً و هي التي يقول الله عز و جل يوم ترجف الراجفة * تتبعها الرادفة * قلوب يومئذ واجفة فتكون الأرض كالسفينة في البحر تضربها الأمواج فيميد الناس على ظهرها و تذهل المراضع و تضع الحوامل ما في بطونها ، و تشيب الولدان ، و تتطاير الشياطين هاربة ، حتى تأتي الأقطار فتتلقاها الملائكة هاربة فتضرب بها وجوهها و يولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضعاً و هي التي يقول الله عز و جل يوم التناد * يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم و من يضلل الله فما له من هاد فبينما هم على ذلك إذ تصدعت الأرض من قطر إلى قطر ، و رأوا أمراً عظيماً لم يروا مثله فيأخذهم من ذلك من الكرب و الهول ما الله به عليم ، ثم ينظرون إلى السماء فإذا هي كالمهل ثم انشقت و انخسف شمسها و قمرها و انتثرت نجومها ، ثم كشطت السماء عنهم ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : و الموتى لا يعلمون شيئاً من ذلك . قلت : يا رسول الله فمن استثنى الله عز و جل ، حين يقول ففزع من في السموات و من في الأرض إلا من شاء الله ؟ قال : أولئك هم الشهداء عند ربهم يرزفون . إنما يصل الفزع إلى الأحياء ، يقيهم الله شر ذلك اليوم و يؤمنهم منه . و هو عذاب يلقيه الله على شرار خلقه ، و هو الذي يقول الله تعالى : يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم أي شديد فتمكثون في ذلك ما شاء الله إلا أنه يطول عليهم كأطول يوم ، ثم يأمر الله إسرافيل فينفخ نفخة الصعق الحديث بطوله ، و قد تقدم وسطه و هذا آخره .
فصل : هذا الحديث ذكره الطبري و الثعلبي و صححه ابن العربي في سراج المريدين و قال : يوم الزلزلة و هو الاسم الثاني عشر يكون عن النفخة الأولى . بهذا اختلافهم الصحيح الواحد المفرد . و لما نبأ النبي صلى الله عليه و سلم بذكر الزلزلة التي تكون عند النفخة الأولى ذكر ما يكون في ذلك اليوم من الأهوال العظام التي يعظمها قوله [ شيء عظيم ] و من فزعها ما لا تطيق حمله النفوس و هو قوله لآدم : [ ابعث بعث النار ] فيكون ذلك في أثناء ذلك اليوم و لا يقتضي أن يكون ذلك متصلاً بالنفخة الأولى التي يشيب فيها الوليد و تضع الحوامل و تذهل المراضع و لكن يحتمل أمرين :
أحدهما : أن يكون آخر الكلام منوطاً بأوله تقديره يقال لآدم ابعث بعث النار أثناء يوم يشيب فيه الوليد و تضع الحوامل و تذهل المراضع من أوله .
الثاني : أن شيب الوليد و وضع الحوامل و ذهول المراضع يكون في النفخة الأولى حقيقة . و في هذا القول الثاني تكون صفته بذلك إخباراً عن شدته و إن لم يوجد غير ذلك الشيء فيه و هذه طريقة العرب في فصاحتها .
قلت : ما ذكره ابن العربي من صحة الحديث و كلامه فيه : فيه نظر لما نبينه آنفاً و قد قال أبو محمد عبد الحق في كتاب العاقبة له : ورد في هذا الباب حديث منقطع لا يصح ذكره الطبري من حديث أبي هريرة عن النبي قال : ينفخ في الصور ثلاث نفخات الأولى نفخة الفزع فذكره . قال : و هو عنده في سورة يس .
قلت : قد تقدم أن الصحيح في النفخ إنما هو مرتان لا ثلاث ، و حديث مسلم في قول الله تعالى لآدم [ يا آدم ابعث بعث النار ] إنما هو يعد البعث يوم القيامة . و نفخة الفزع هي نفخة الصعق على ما تقدم أو نفخة البعث على ما قيل على ما يأتي و لأنه لو كانت نفخة الفزع غير نفخة الصعق لأقتضى ذلك أن يكون بقاء الناس بعدها أحياء ما شاء و يكون هناك ليل و نهار حتى تأتي نفخة الصعق التي يموت لسماعها جميع الخلق كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص و على هذا لا يكون قوله ابعث في أثناء اليوم الذي يكون مبدؤه نفخة الفزع على ما ذكره ابن العربي و الله أعلم .
و لا يلزم من زلزال الأرض أن تكون عن نفخة فإنا نشاهد تحرك الأرض و ميدها بمن عليها و ما عليها من جبال و مياه كالسفينة في البحر إذا تلاطمت أمواجه من غير نفخ و إنما تلك الزلزلة من أشراط الساعة و مقدماتها كسائر أشراطها .
و قد قال علقمة و الشعبيث : الزلزلة من أشراط الساعة و هي في الدنيا . و كذلك قال أنس بن مالك و الحسن البصري . و قد ذكر القشيري أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم في تفسيره : أن المراد بنفخة الفزع ، و النفخة الثانية أي يحيون فزعين يقولون : من بعثنا من مرقدنا و يعاينون من الأمر ما يهولهم و يفزعهم . و الله أعلم . و نحو ذلك ذكره الماوردي و اختاره .
و قد قيل : إن هذه الزلزلة تكون قبل الساعة في النصف من شهر رمضان بعدها
طلوع الشمس من مغربها و الله أعلم .
و قوله تعالى : ترونها الضمير المنصوب في ترونها للزلزلة أو القيامة قولان : فعلى الأولى أن ذلك في الدنيا قبل نفخة الصعق لعظم تلك الزلزلة و قوة حركتها بالأرض لأن القيامة لارضاع فيها و لا حمل فترى الناس سكارى يعني من الخوف . و على القول الثاني يكون فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون مثلاً ، و المعنى أن يكون يوماً لا يهم أحداً فيه إلا نفسه و الحامل تسقط من مثله كما تسقط الحوامل من الصيحة الشديدة و يكون الهول عظيماً .
و الوجه الآخر : أن يكون ذلك حقيقة لا مثلاً . و يكون المعنى أن من كانت محشورة مع ولد رضيع فإنها إذا رأت هول ذلك اليوم ذهلت عن من ولدت ، و أن الحوامل إذا بعثن أسقطت من فزع يوم القيامة : الأحمال التي كانت أحياء فماتت بموت أمهاتها أحياء ثم لا يمتن بالإسقاط . لأن الموت لا يتكرر عليهن مرتين لأنه لا موت في القيامة ، و إنما هو يوم الحياة و تضع الحوامل حملها . ثم يحتمل أن يحيي الله كل حمل كان قد أتم خلقه و نفخ فيه الروح و يسويه و يعدله فإن الأم تذهل عنه ، و لو لم تذهل ما قدرت على إرضاعه لأنه لا غذاء يومئذ لها و لبن ، و اليوم يوم الحساب لا يقبل فيه من عذر و لا علة فكيف تخلى و الاشتغال بالولد مع ما عليها من الحساب و هي بصدده من الجزاء و الحمل الذي لم ينفخ فيه قط إذا سقط يكون مع الوحوش تراباً و لم يبتدأ إحياؤه لأن اليوم الآعادة . فمن لم يمت في الدنيا لم يحى في الآخرة . قاله الحليمي في منهاج الدين .
و قال الحسن في قوله تعالى : و ترى الناس سكارى أي من العذاب و الخوف و ما هم بسكارى من الشراب و مما يبين ما قلناه : أن إبليس قال
: أنظرني إلى يوم يبعثون سأل النظرة و الإمهال إلى يوم البعث و الحساب طلب أن لا يموت لأن يوم البعث لا موت بعده فقد قال تعالى : إنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم قال ابن عباس و السدي و غيرهما : أنظره إلى النفخة الأولى حيث يموت الخلق كلهم ، و كان طلب الإنظار إلى النفخة الثانية حيث يقوم الناس لرب العالمين فأبى الله ذلك عليه .
قال المؤلف رحمه الله : و ما وقع في هذا الحديث من انشقاق السماء ، و تناثر نجومها و طمس شمسها و قمرها . فقد ذكر المحاسبي و غيره : أن ذلك يكون بعد جمع الناس في الموقف . و روي عن ابن عباس و سيأتي و قاله الحليمي في كتاب منهاج الدين .
فصل : فأما التكوين يوم القيامة قبل الحساب . فقد قال الله تعالى : يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم إلى قوله عذاب الله شديد و قال : إذا زلزلت الأرض زلزالها إلى آخرها .
و الذي ثبت بسياق الآيات : أن هذه الزلزلة إنما يكون بعد أحياء الناس و بعثهم من قبورهم لأنه لا يراد بها إلا إذعان الناس و التهويل عليهم ، فينبغي أن يشاهدوها ليفزعوا منها و يهولهم أمرها ، و لا تمكن المشاهدة منهم و هم أموات . و لأنه تعالى قال : يومئذ تحدث أخبارها . أي تخبر عما عمل عليها من خير و شر يومئذ يصدر الناس أشتاتاً فدل ذلك على أن هذه الزلزلة إنما تكون و الناس أحياء و اليوم يوم الجزاء و قال تعالى : فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة يعني الآخرة و حملت الأرض و الجبال إلى قوله لا تخفى منكم خافية فدلت هذه السورة على أن اصطدام الأرض و الجبال لا يكون إلا بعد الإحياء ، فدلت هذه الآية على أن الكوائن إنما تكون بعد النشأة الثانية . و الله أعلم .
و أما قوله فيه يوم التناد ، فقال الحسن و قتادة ، ذلك يوم ينادي أهل الجنة أهل النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً ، و ينادي أهل النار أهل الجنة أن أفيضوا علينا من الماء يوم تولون مدبرين يعني عن النار أي غير قادرين و غير معجزين فيتفسر مجاهد . و قيل : معناه يوم ينادي أهل النار بالويل و الثبور و يولون مدبرين من شدة العذاب . و قيل : إن ذلك نداء بعض الناس لبعضهم في المحشر و توليهم مدبرين إذا رأوا عنقاً من النار .
و قال قتادة : معنى تولون مدبرين منطلقاً بكم إلى النار ما لكم من الله من عاصم أي مانع يمنعكم ، فإن قيل : فقد قال الآلله تعالى : يوم ترجف الراجفة * تتبعها الرادفة إلى أن قال : فإنما هي زجرة واحدة و هذا يقتضي بظاهره أنها ثلاث له ليس كذلك ، و إنما المراد بالزجرة النفخة الثانية التي يكون عنها خروج الخلق من قبورهم كذلك قال ابن عباس و مجاهد و عطاء و ابن زيد و غيرهم ، قال مجاهد : هما صيحتان ، أما الأولى فيموت كل شيء بإذن الله ، و أما الأخرى فيحيا كل شيء بإذن الله .
و قال مجاهد أيضاً : الرادفة حين تنشق السماء و تحمل الأرض و الجبال فتدك دكة واحدة . و قال عطاء : الراجفة القيامة ، و الرادفة البعث ، و قال ابن زيد : الراجفة الموت ، و الرادفة الساعة ، فهذا يبين لك ما قلناه من أن المراد بالزجرة النفخة الثانية .
و اختلفوا في الساهرة اختلافاً كثيراً ، فقال ابن عباس : و أما الساهرة فأرض من فضة بيضاء لم يعص الله عليها طرفة عين خلفها الله يومئذ و هو قوله تعالى : يوم تبدل الأرض غير الأرض .
و قال بعضهم : الساهرة اسم الأرض السابعة يأتي الله بها فيحاسب عليها الخلائق و ذلك حين تبدل الأرض غير الأرض . و قال قتادة : هي جهنم أي فإذا هؤلاء الكفار في جهنم ، و قيل صحراء قريب من شفير جهنم .
و قال الثوري : الساهرة أرض الشام و قيل غير هذا ، و إنما قيل لها ساهرة لأنهم لا ينامون عليها حينئذ ، و معنى فإذا هم بالساهرة أي على الأرض بعدما كانوا في بطنها و العرب تسمي الفلاة و وجه الأرض ساهرة ، قال أمية بن أبي الصلت :
و فيها لحم ساهرة و بحر و ما فاهوا به لهم مقيم