باب بيان الحشر إلى الموقف كيف هو و في أرض المحشر
 
و ذكر الصخرة . و قوله تعالى و استمع يوم يناد المناد من مكان قريب الآية .
أبو نعيم قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا محمد قال ، قال حدثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا المنذر النعمان أنه سمع وهب بن منبه يقول : قال الله تعالى لصخرة بيت المقدس : لأضعن عليك عرشي و لأحشرن عليك خلقي و ليأتينك يومئذ داود راكباً و قال بعض العلماء في قوله تعالى : و استمع يوم يناد المناد من مكان قريب قال : إنه ملك قائم على صخرة بيت المقدس فينادي : أيتها العظام البالية ، و الأوصال المتقطعة ، و يا عظاماً نخرة ، و يا أكفاناً فانية ، و يا قلوبا خلوية ، ويا أبداناً فاسدة ، و يا عيوناً سائلة قومواً لعرض رب العالمين . قال قتادة : المنادي هو صاحب الصور ينادي من الصخرة من بيت المقدس . قال كعب : و هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلاً . و قيل : باثني عشر ميلاً ذكره القشيري ، و الأول ذكره المارودي ، و قيل : إن المنادي جبريل و الله أعلم . قال عكرمة : ينادي منادي الرحمن فكأنما ينادي في آذانهم يوم يسمعون الصحية بالحق يريد النفخ في الصور ذلك يوم الخروج * إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير * يوم تشقق الأرض عنهم سراعا إلى المنادي صاحب الصور إلى بيت المقدس أرض المحشر ذلك حشر علينا يسير أي هين سهل .
فإن قيل : فإذا كانت الصيحة للخروج فكيف يسمعونها و هم أموات ؟
قيل له : إن نفخة الإحياء تمتد و تطول ، فتكون أوائلها للإحياء و ما بعدها للإزعاج من القبور فلا يسمعون ما يكون للإحياء و يسمعون ما يكون للإزعاج ، و يحتمل أن تتطاول تلك النفخة و الناس يحيون منها أولاً فأولاً ، و كلما حيى واحد سمع ما يحيى به من بعده إلى أن يتكامل الجميع للخروج ، و قد تقدم أن الأرواح في الصور ، فإذا نفخ فيه النفخة الثانية ذهب كل روح إلى جسده ، فإذا هم من الأجداث أي القبور إلى ربهم ينسلون و هذا يبين لك ما ذكرنا و بالله توفيقنا .
و قال محمد بن كعب القرظي : يحشر الناس يوم القيامة في ظلمة ، و تطوي السماء و تتناثر النجوم ، و تذهب الشمس و القمر ، و ينادي مناد فيتبع الناس الصوت يومئذ ، فذلك قول الله عز و جل يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له الآية . و قال الله عز و جل إذا السماء انفطرت * و إذا الكواكب انتثرت * و إذا البحار فجرت فجر عذبها في ملحها و ملحها في عذبها في تفسير قتادة و إذا القبور بعثرت أي أخرج ما فيها من الأموات ، و قال تعالى إذا السماء انشقت * و أذنت لربها أي سمعت و أطاعت و حقت أي و حق لها أن تفعل و إذا الأرض مدت تمد مد الأديم و هذا إذا بدلت بأرض بيضاء كأنها فضة لم تعمل عليها خطيئة قط ، و ألقت ما فيها من الأموات فصاروا على ظهرها .
مسلم عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفرا كقرصة النقي ليس فيه علم لأحد .
و خرج أبو بكر أحمد بن علي الخطيب ، عن عبد الله بن مسعود : [ يحشر الناس يوم القيامة أجوع ما كانوا قط ، و أظمأ ما كانوا قط ، و أعرى ما كانوا قط ، و أنصب ما كانوا فمن أطعم لله أطعمه ، و من سقا لله سقاه ، و من كسا لله كساه ، و من عمل لله كفاه ، و من نصر الله أراحه الله في ذلك اليوم .
و روي من حديث معاذ بن جبل قال : قلت يا رسول الله أرأيت قول الله يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً فقال النبي صلى الله عليه و سلم يا معاذ بن جبل لقد سألت عن أمر عظيم ثم أرسل عينيه بالبكاء الدموع ، ثم قال : تحشر عشرة أصناف من أمتى أشتاتاً قد ميزهم الله تعالى من جماعات المسلمين و بدل صورهم ، فمنهم على صورة القردة ، و بعضهم على صورة الخنازير ، و بعضهم منسكين أرجلهم أعلاهم و وجوههم يسحبون عليها ، و بعضهم عمي يترددون ، و بعضهم صم بكم لا يعلقون ، و بعضهم يمضغون ألسنتهم مدلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم لعاباً تقدرهم أهل الجمع ، و بعضهم مقطعة أيديهم و أرجلهم ، و بعضهم مصلبون على جذوع النار ، و بعضهم أشد نتناً من الجيف ، و بعضهم يلبسون جلابيب سابغة من القطران ، فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس يعني النمام ، و أما الذين على صورة الخنازير فأهل السحت و الحرام و المكس ، و أما المنكسون رؤوسهم و وجوههم فأكلة الربا ، و العمي من يجوز في الحكم ، و الصم البكم الذي يعجبون بأعمالهم ، و الذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء و القصاص الذين يخالف قولهم فعلهم و المقطعة أيديهم و أرجلهم الذين يؤذون الجيران ، و المصلبون على جذوع النار السعاة بالناس إلى السلطان ، و الذين هم أشد نتناً من الجيف الذي يتمتعون بالشهوات و اللذات و يمنعون حق الله تعالى من أموالهم ، و الذين يلبسون الجلابيب فأهل الكبر و الفخر و الخيلاء .
و قال أبو حامد في كتاب كشف علم الآخرة : و من الناس من يحشر بفتنته الدنيوية ، فقوم مفتونون بالعود معتكفون عليه دهرهم فعند قيام أحدهم من قبره يأخذ بيمينه فيطرحه من يده و يقول سحقاً لك شغلتني عن ذكر الله فيعود إليه ، يقول : أنا صاحبك حتى يحكم الله بيننا و هو خير الحاكمين ، و كذلك يبعث السكران سكران ، و الزامر زامراً ، و كل واحد على الحال الذي صده عن سبيل الله . قال : و مثل الحديث الذي روي في الصحيح أن شارب الخمر يحشر و الكوز معلق في عنقه و القدح بيده و هو أنتن من كل جيفة على الأرض يلعنه كل من يمر به من الخلق . و قال أيضاً في الكتاب : فإذا استوى كل أحد قاعداً على قبره فمنهم العريان و منهم المكسو و الأسود و الأبيض ، و منهم من يكون له نور كالمصباح الضعيف ، و منهم من يكون كالشمس لا يزال كل واحد منهم مطرقاً برأسه ألف عام حتى تقوم من الغرب نار لها دوي تساق فيدهش لها رؤوس الخليقة إنساً و جناً و طيراً و وحشاً ، فيأتي كل واحد من المخاطبين عمله و يقول له : قم فانهض إلى المحشر ، فمن كان له حينئذ عمل جيد شخص له عمله بغلاً ، و منهم من يشخص عمله حماراً ، و منهم من يشخص له كبشاً تارة يحمله و تارة يلقيه و يجعل لكل واحد منهم نور شعاعي بين يديه و عن يمينه و مثله يسرس بين يديه في الظلمات و هو قوله تعالى يسعى نورهم بين أيديهم و بأيمانهم و ليس عن شمائلهم نور بل ظلمة حالكة لا يستطيع البصر نفاذها يحار فيها الكفار و يتردد المرتابون ، و المؤمن ينظر إلى قوة حلكتها و شدة حندسها و يحمد الله تعالى على ما أعطاه من النور المهتدي به في تلك الشدة يسعى بين أيديهم و بأيمانهم ، لأن الله تعالى يكشف للعبد المؤمن المنعم عن أحوال المعذب الشقي ليستبين له سبيل الفائدة ، كما فعل بأهل الجنة و أهل النار حيث يقول فاطلع فرآه في سواء الجحيم ، و كما قال سبحانه و إذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا : ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين لأن أربعاً لا يعرف قدرها إلا أربع : لا يعرف قدر الحياة إلا الموتى ، و لا يعرف قدر الأغنياء إلا الفقراء ، و لا يعرف قدر الصحة إلا أهل البلاء و السقم ، و لا يعرف قدر الشباب إلا الشيوخ . و في نسخة : و لا يعرف قدر النعيم إلا أهل الجحيم ، و من الناس من يبقى على قدميه و على طرف بنانه و نوره يطفأ تارة و يشتعل أخرى ، و إنما هم عند البعث على قدر إيمانهم و أعمالهم ، و قد مضى في باب يبعث كل عبد على ما مات عليه ما فيه كفاية ، و الحمد لله .