باب ما جاء في حشر الناس إلى الله عز و جل حفاة عراة غرلاً و في أول من يكسى منهم و في أول ما يتكلم من الإنسان
 
مسلم عن ابن عباس رضي الله عنه قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه و سلم بموعظة فقال : أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلاً كما بدأنا أول خلق نعيده و عداً علينا إنا كنا فاعلين ألا و إن أول الناس يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام ألا و إنه يؤتى برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول يا رب أصحابي فيقول إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك . فأقول كما قال العبد الصالح و كنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم إلى قوله العزيز الحكيم قال فيقال إنهم لم يزالوا مدبرين مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم .
أخرجه البخاري و الترمذي ، عن معاوية بن حيدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم في حديث ذكره قال : و أشار بيده إلى الشام فقال : ههنا إلى ههنا تحشرون ركباناً و مشاة و تجرون على وجوهكم يوم القيامة أفواهكم الفدام توفون سيعين أمة أنتم خيرها على الله و أكرمهم على الله ، و إن أول ما يعرب عن أحدكم فخذه و في رواية أخرى ذكرها ابن أبي شيبة و إن أول ما يتكلم من الإنسان فخذه و كفه .
فصل : قوله [ غرلاً ] أي غير مخنوتين النقي الحواري و هو الدرمك من الدقيق ، و العفر بياض ليس بخالص يضرب إلى الحمرة قليلاً ، و الفدام مصفاة الكوز و الابريق . قاله الليث . قال أبو عبيدة : يعني أنهم منعوا الكلام حتى تتكلم أفخاذهم ، فشبه ذلك بالفدام الذي يجعل على الإبريق و قوله أول من يكسى إبراهيم فضيلة عظيمة لإبراهيم و خصوص له كما خص موسى عليه السلام بأن النبي صلى الله عليه و سلم يجده معلقاً بساق العرش مع أن النبي صلى الله عليه و سلم أول من تنشق عنه الأرض ، و لا يلزم من هذا أن يكون أفضل منه مطلقاً ، بل هو أفضل من وافى القيامة على ما يأتي بيانه في أحاديث الشفاعة و المقام المحمود إن شاء الله تعالى .
قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر في كتاب المفهم له : و يجوز أن يراد بالناس من عداه من الناس فلم يدخل تحت خطاب نفسه . و الله أعلم .
قلت : هذا حسن لو لا ما جاء منصوصاً خلافه ، فقد روى ابن المبارك في رقائقه : أخبرنا سفيان ، عن عمر بن قيس ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الله بن الحارث ، عن علي رضي الله عنه قال : أول من يكسى خليل الله إبراهيم قبطيتين ، ثم يكسى محمد صلى الله عليه و سلم حلة حبرة عن يمين العرش . ذكره البيهقي أيضاً .
و روى عباد بن كثير ، عن أبي الزبير ، عن جابر رضي الله عنه قال : إن المؤذنين و الملبين يخرجون يوم القيامة من قبورهم يؤذن المؤذن و يلبي الملبي ، و أول من يكسى من حلل الجنة إبراهيم خليل الله ، ثم محمد صلى الله عليه و سلم ثم النبيون و الرسل عليهم السلام ، ثم يكسى المؤذنون و تتلاقهم الملائكة على نجائب من نور أحمر أزمتها من زمرد أخضر رحالها من الذهب ، و يشيعهم من قبورهم سبعون ألف ملك إلى المحشر . ذكره الحليمي في كتاب منهاج الدين له .
و ذكر أبو نعيم الحافظ من حديث الأسود و علقمة و أبي وائل ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : جاء ابنا مليكة إلى النبي صلى الله عليه و سلم الحديث و فيه : فيكون أول من يكسى إبراهيم عليه السلام يقول اكسوا خليلي فيؤتى بربطتين بيضاوين فيلبسهما ثم يقعد مستقبل العرش ، ثم أوتي بكسوتي فألبسها فأقوم عن يمينه قياماً لا يقومه أحد غيري يغبطني فيه الأولون و الآخرون و ذكر الحديث .
و خرج البيهقي بإسناده في كتاب الأسماء و الصفات عن ابن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إنكم تحشرون حفاة عراة ، و أول من يكسى من الجنة إبراهيم عليه السلام يكسى حلة من الجنة و يؤتى بكرسي فيطرح عن يمين العرش ، و يؤتى بي فأكسى حلة من الجنة لا يقوم لها البشر ، ثم أوتي بكرسي فيطرح لي على ساق العرش و هذا نص بأن إبراهيم أول من يكسى ، ثم نبينا بإخباره صلى الله عليه و سلم فطوبى ثم طوبى لمن كسي في ذلك الوقت من ثياب الجنة ، فإنه من لبسه فقد لبس جبة تقيه مكاره الحشر و عرقه و حر الشمس و غير ذلك من أهواله .
فصل : و تكلم العلماء في حكمة تقديم إبراهيم عليه السلام بالكسوة فروي أنه لم يكن في الأولين و الآخرين لله عز و جل عبد أخوف من إبراهيم عليه السلام ، فتعجل له كسوته أماناً له ليطمئن قلبه ، و يحتمل أن يكون ذلك لما جاء به الحديث من أنه أول من أمر بلبس السراويل إذا صلى مبالغة في التستر ، و حفظاً لفرجه من أن يماس مصلاه ففعل ما أمر به فيجزى بذلك أن يكون أول من يستر يوم القيامة ، و يحتمل أن يكون الذين ألقوه في النار جردوه و نزعوا عنه ثيابه على أعين الناس كما يفعل بمن يراد قتله ، و كان ما أصابه من ذلك في ذات الله عز و جل فلما صبر و احتسب و توكل على الله تعال دفع الله عنه شر النار في الدنيا و الآخرة ، و جزاه بذلك العرى أن جعله أول من يدفع عنه العرى يوم القيامة على رؤوس الأشهاد ، و هذا أحسنها ، و الله أعلم .
و إذا بدئ في الكسوة بإبراهيم و ثنى بمحمد صلى الله عليه و سلم أوتي محمد بحلة لا يقوم لها البشر لينجبر التأخير بنفاسة الكسوة ، فيكون كأنه كسي مع إبراهيم عليهما السلام
قاله الحليمي . و قوله تجدون على أفواهكم الفدام ، الفدام : مصفاة الكوز و الإبريق قاله الليث . قال أبو عبيد يعني أنهم منعوا الكلام حتى تتكلم أفخاذهم فشبه ذلك بالفدام الذي يجعل على الإبريق . قال سفيان : و فدامهم أن يؤخذ على ألسنتهم و هذا مثل .