باب ما يسأل عنه العبد و كيفية السؤال
 
قال الله تعالى : إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا
و قال : ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون و قال قل بلى و ربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم أي ما عملتموه . و قال فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * و من يعمل مثقال ذرة شراً يره أي يسأل عن ذلك و يجازي عليه و الآيات في هذا المعنى كثيرة و قال ثم لتسألن يومئذ عن النعيم .
الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه الآية لتسألن يومئذ عن النعيم قال الناس يا رسول الله : عن أي نعيم نسأل فإنما هما الأسودان و العدو حاضر و سيوفنا على عواتقنا ؟ قال : إن ذلك سيكون و عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن أول ما يسأل عنه يوم القيامة يعني العبد أن يقال له ألم أنصح لك جسمك و نرويك من الماء البارد قال الترمذي : حديث غريب .
و خرج أبو نعيم الحافظ من حديث الأعمش ، عن أبي وائل شفيق عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما من عبد يخطو خطوة إلا سئل عنها ما أراد بها
مسلم عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيما أفناه ؟ و عن جسده فيما أبلاه ؟ و عن عمله ما عمل فيه ؟ و عن ماله من أين اكتسبه ؟ و فيما أنفقه ؟ خرجه الترمذي ، و قال فيه : حديث حسن صحيح ، رواه عن ابن عمر عن ابن مسعود رضي الله عنهما عن النبي ، و قال فيه : حديث غريب لا أعرفه إلا من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم إلا من حديث الحسين بن قيس ، و الحسين يضعف في الحديث .
و في الباب عن أبي برزة و أبي سعيد ، قلت : و معاذ بن جبل أخبرناه الشيخ الراوية أبو محمد عبد الوهاب بثغر الإسكندرية قراءة عليه ، قال : قرأ على البيهقي و أنا أسمع قال : حدثنا الحاجب أبو الحسن علي بن محمد بن علي العلاف ببغداد سنة أربع و سبعين و أربعمائة ، قال : أخبرنا أبو القاسم عبد الملك بن محمد بن بشران المعدل ، قال : حدثنا أبو بكر محمد بن الحسين الآجري بمكة في شوال سنة ثلاث و خمسين و ثلاثمائة قال : أخبرنا أبو سعيد الفضل بن محمد الجندي إملاء في المسجد الحرام سنة تسع و تسعين و مائتين قال : أخبرنا صامت بن معاذ الجندي ، أخبرنا عبد الحميد ، عن سفيان بن سعيد الثوري ، عن صفوان بن سليم ، عن عدي بن عدي ، عن الصالحي ، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال : عن عمره فيما أفناه ؟ و عن شبابه فيما أبلاه ؟ و عن ماله من أين اكتسبه ؟ و فيما أنفقه ؟ و عن عمله ماذا عمل فيه ؟ .
و خرج الطبراني أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب ، أخبرنا أحمد بن خالد الحلبي ، أخبرنا يوسف بن يونس الأفطس قال : أخبرنا سليمان بن بلال ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إذا كان يوم القيامة دعا الله بعبد من عباده فيوقفه بين يديه فيسأله عن جاهه كما يسأله عن عمله .
مسلم عن صفوان بن محرز قال : قال رجل لابن عمر رضي الله عنه . كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول في النجوى ؟ قال : سمعته يقول : يدنى المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه ، فيقول هل تعرف ؟ فيقول : رب أعرف . قال فيقول : إني سترتها عليك في الدنيا و أنا أغفرها لك اليوم . قال : فيعطى صحيفة حسناته ، و أما الكفار و المنافقون ، فينادى بهم على رؤوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على الله . أخرجه البخاري و قال في آخره : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين .
و روي من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا كان يوم القيامة خلا الله عز و جل بعبده المؤمن يوقفه على ذنوبه ذنباً ذنباً ، ثم يغفر الله له لا يطلع على ذلك ملك مقرب و لا نبي مرسل و ستر عليه من ذنوبه ما يكرهه أن يقف عليها ثم يقول لسيئاته كوني حسنات .
قال المؤلف : خرجه مسلم بمعناه و سيأتي آنفاً إن شاء الله تعالى .
و خرج أبو القاسم إسحاق بن إبراهيم الختلي في كتاب الديباج له . حدثنا هارون بن عبد الله قال : حدثنا سيار قال : قال جعفر قال : حدثنا أبو عمران الجوني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : يدني الله العبد منه يوم القيامة و يضع عليه كفنه فيستره من الخلائق كلها و يدفع إليه كتابه في ذلك الستر فيقول له : اقرأ يا ابن آدم كتابك قال : فيمر بالحسنة فيبيض لها وجهه ، و يمر بالسيئة فيسود لها وجهه ، قال : فيقول الله تعالى له : أتعرف يا عبدي ؟ قال : فيقول نعم يا رب أعرف ، قال : فيقول : إني أعرف بها منك ، قد غفرتها لك ، قال : فلا تزال حسنة تقبل فيسجد و سيئة تغفر فيسجد ، فلا يرى الخلائق منه إلا ذلك حتى ينادي الخلائق بعضها بعضاً طوبى لهذا العبد الذي لم يعص قط و لا يدرون ما قد لقي فيما بينه و بين الله تعالى مما قد وقفه عليه .
قلت : نسخة من هنا إلى الفصل قوله لا يزول ، أخبرنا الشيخ الراوية القرشي عبد الوهاب قراءة عليه بثغر الإسكندرية حماه الله ، قال : قرئ على الحافظ السلفي ، و أنا أسمع . قال : حدثنا الحاجب أبو الحسن بن العلاء ، و قال : أخبرنا أبو القاسم بن بشران ، أخبرنا الأجري ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن موسى السونيطي ، حدثنا أحمد بن أبي رجاء المصيصي ، حدثنا وكيع بن الجراح ، حدثنا الأعمش عن المعرور بن سويد ، عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال : اعرضوا عليه صغار ذنوبه و تخبأ كبارها ، فيقال له : عملت يوم كذا و كذا كذا و كذا ثلاث مرات ، قال : و هو يقر ليس ينكر قال : و هو مشفق من الكبائر أن تجيء قال : فإذا أراد الله به خيراً قال : أعطوه مكان كل سيئة حسنة ، فيقول حين طمع : يا رب إن لي ذنوباً ما رأيتها ها هنا ، قال : فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم ضحك حتى بدت نواجذه . ثم تلا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات خرجه مسلم في صحيحه عن محمد بن عبد الله بن نمير قال : حدثنا الأعمش فذكره .
فصل : قوله لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل : عام لأنه نكرة في سياق النفي لكنه مخصوص بقوله عليه السلام ، يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب على ما يأتي .
و بقوله تعالى لمحمد عليه السلام : أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن ، و قد تقدم الحديث .
و بقوله تعالى : يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي و الأقدام .
قوله عليه السلام : و عن عمله ما عمل فيه .
قلت : هذا مقام مخوف لأنه لم يقل و عن عمله ما قال فيه ، و إنما قال ما عمل فيه فلينظر العبد ما عمل فيما علمه هل صدق الله في ذلك و أخلصه حتى يدخل فيمن أثنى الله عليه بقوله : أولئك الذين صدقوا أو خالف علمه بفعله فيدخل في قوله تعالى : فخلف من بعدهم خلف و رثواً الكتاب الآية و قوله تعالى : أتأمرون الناس بالبر و تنسون أنفسكم و أنتم تتلون الكتاب و قوله : يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون .
و الأخبار في هذا المعنى كثيرة ، و سيأتي ذكرها في أبواب النار إن شاء الله تعالى ، قوله : حتى يضع عليه كنفه أي ستره و لطفه و إكرامه فيخاطب خطاب الملاطفة و يناجيه مناجاة المصافاة و المحادثة فيقول : هل تعرف ؟ فيقول : رب أعرف ، فيقول الله تعالى : ممتنا عليه و مظهراً فضله لديه : فإني قد سترتها عليك في الدنيا أي لم أفضحك بها فيها ، و أنا أغفرها لك اليوم ، ثم قيل هذه الذنوب تاب منها . كما ذكره أبو نعيم عن الأوزاعي عن هلال بن سعد قال : إن الله يغفر الذنوب و لكن لا يمحوها من الصحيفة حتى يوقفه عليها يوم القيامة و إن تاب منها .
قال المؤلف : و لا يعارض هذا ما في التنزيل و الحديث من أن السيئات تبدل بالتوبة حسنات ، فلعل ذلك يكون بعد ما يوقفه عليها و الله أعلم .
و قيل في صغائر اقترفها ، و قيل كبائر بينه و بين الله تعالى اجترحها ، و أما ما كان بينه و بين العباد فلا بد فيها من القصاص بالحسنات و السيئات على ما يأتي ، و قيل : ما خطر بقلبه ما لم يكن في وسعه و يدخل تحت كسبه ، و يثبت في نفسه و إن لم يعلمه ، و هذا اختيار الطبري و النحاس و غير واحد من العلماء جعلوا الحديث مفسراً لقوله تعالى : و إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فتكون الآية على هذا محكمة غير منسوخة و الله أعلم .
و قد بينا في كتاب جامع أحكام القرآن و المبين لما تضمن من السنة ، و آي القرأن و الحمد لله .
و روي عن ابن مسعود أنه قال : ما ستر الله على عبد في الدنيا إلا ستر الله عليه في الآخرة ، و هذا مأخوذ من حديث النجوى ، و من قوله عليه السلام : يستر الله على عبد في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة خرجه مسلم .
و في صحيح مسلم أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه : [ من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا و الآخرة ] ، و روى [ من ستر على مسلم عورته ، ستر الله عورته يوم القيامة ] ، قال أبو حامد : فهذا إنما يرجوه عبد مؤمن ستر على الناس عيوبهم و احتمل في حق نفسه تقصيرهم . و لم يحرك لسانه بذكر مساوئ الناس و لم يذكرهم في غيبتهم بما يكرهون لو سمعوه ، فهذا جدير بأن يجازى بمثله في القيامة .
فصل : و في قوله : [ سترتها عليك في الدنيا و أنا أغفرها لك اليوم ] نص منه تعالى على صحة قول أهل السنة في ترك إنفاذ الوعيد على العصاة من المؤمنين ، و العرب تفتخر بخلف الوعيد حتى قال قائلهم :
و لا يرهب ابن العم ما عشت صولتي و لا أختشى من روعة المتهدد
و إني متى أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي و منجز موعدي
قال ابن العربي : إنه كذلك عند العرب ، و أما ملك الملوك القدوس الصادق فلا يقع أبداً خبره إلا على وفق مخبره كان ثوابا أو عقاباً ، فالذي قال المحققون في ذلك قول بديع ، و هو أن الآيات وقعت مطلقة في الوعد و الوعيد عامة فخصصتها الشريعة ، و بينها الباري تعالى في كتابه في آيات أخر ، كقوله : إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء و قوله تعالى : و إن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم الآية و كقوله تعالى : حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم * غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو و بالشفاعة التي أكرم الله بها صلى الله عليه و سلم و من شاء من الخلق من بعده .