باب القصاص يوم القيامة ممن استطال في حقوق الناس و في حسبه لهم حتى ينصفوا منه
 
مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء . البخاري عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون ديناراً و لا درهم . إن كان له عمل صالح أخذه منه بقدر مظلمته و إن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه .
مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أتدرون من المفلس ؟ قالوا : المفلس من لا درهم له و لا متاع . قال : إن المفلس من أمتي ، من يأتي يوم القيامة بصلاة و صيام و زكاة ، و يأتي قد شئتم هذا و قذف هذا و أكل هذا و سفك دم هذا و ضرب هذا ، فيعطى هذا من حسناته و هذا من حسناته ، فإن فنيت حسناته قبل انقضاء ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار .
و خرج ابن ماجه ، حدثنا محمد بن ثعلبة بن سواء ، حدثنا عمي محمد بن سواء ، عن حسين المعلم ، عن مطر الوراق ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من مات و عليه دينار أو درهم قضي من حسناته ليس ثم دينار و لا درهم من ترك دنيا أو ضياعاً فعلى الله و رسوله .
الحارث بن أبي أسامة ، و عن عبد الله بن أنيس رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : يحشر الله العباد أو قال الناس ـ شك ـ و أومأ بيده إلى الشام عراة غرلاً بهما ، قال : ما بهما ؟ قال : ليس معهم شيء فيناديهم بصوت يسمعه من بعد و من قرب ، أنا الملك ، أنا الديان ، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ، و واحد من أهل النار يطلبه بمظلمة حتى اللطمة ، و لا ينبغي لأحد من أهل النار و واحد من أهل الجنة يطلبه حتى اللطمة ، قال : قلنا : كيف و إنما نأتي الله عراة حفاة ، قال بالحسنات و السيئات .
قال الشيخ المؤلف رحمه الله : هذا الحديث الذي أراد البخاري بقوله ، و رحل جابر عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد .
سفيان بن عيينة ، عن مسعر عن عمرو بن مرة قال : سمعت الشعبي يقول : حدثني الربيع بن خيثم و كان من معادن الصدق قال : إن أهل الدين في الآخرة أشد تقاضياً له منكم في الدنيا يحبس لهم فيأخذونه ، فيقول : يا رب ألست تراني حافياً ؟ فيقول : خذوا من حسناته بقدر الذي لهم فإن لم يكن له حسنات يقول : زيدوا على سيئاته من سيئاتهم ، و ذكر أبو عمر بن عبد البر من حديث البراء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : صاحب الدين مأسور يوم القيامة بالدين .
و روى أبو نعيم الحافظ بإسناده عن زاذان أبي عمر قال : دخلت على ابن مسعود فوجدت أصحاب الخز و اليمنة قد سبقوني إلى المجلس ، فقلت يا عبد الله من أجل أبي رجل أعجمي أدنيت هؤلاء و أقصيتني ، قال : ادن فدنوت حتى ما كان بيني و بينه جليس فسمعته يقول : يؤخذ بيد العبد أو الأمة فينصب على رؤوس الأولين و الآخرين ، ثم ينادي مناد هذا فلان ابن فلان فمن كان له حق فليأت إلى حقه ، فتفرح المرأة بأن يدون لها الحق على ابنها أو أختها أو أبيها أو على زوجها ، ثم قرأ ابن مسعود فلا أنساب بينهم يومئذ و لا يتساءلون ، فيقول الرب تعالى للعبد : ائت هؤلاء حقهم ، فيقول : يا رب فنيت الدنيا فمن أين أوتيهم ؟ فيقول للملائكة : خذوا من أعماله الصالحة فأعطوا كل إنسان بقدر طلبته ، فإن كان ولياً لله فضلت من حسناته مثقال حبة من خردل من خبر ضاعفها حتى يدخله بها الجنة ثم قرأ إن الله لا يظلم مثقال ذرة و إن تك حسنة يضاعفها و يؤت من لدنه أجراً عظيماً و إن كان عبداً شقياً قالت الملائكة رب فنيت حسناته و بقي طالبون فيقول للملائكة : خذوا من أعمالهم السيئة فأضيفوها إلى سيئاته و صكوا له صكاً إلى النار .
و عنه ، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إنه ليكون للوالدين على ولدهما دين ، فإذا كان يوم القيامة يتعلقان به ، فيقول أنا ولدكما فيودان أو يتمنيان لو كان أكثر من ذلك .
و روى رزين عن أبي هريرة قال : كنا نسمع أن الرجل يتعلق بالرجل يوم القيامة هو لا يعرفه فيقول : مالك إلي و ما بيني و بينك معرفة ؟ فيقول : كنت تراني على الخطايا و على المنكر و لا تنهاني . و قال ابن مسعود : تفرح المرأة يوم القيامة أن يكون لها حق و على أبيها أو ابنها أو أخيها أو زوجها أو أختها فلا أنساب بينهم يومئذ و لا يتساءلون .
ابن ماجه عن جابر رضي الله عنه قال : لما رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم مهاجرة البحر قال : ألا تحدثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة ؟ فقال فتية منهم : بلى يا رسول الله بينما نحن جلوس مرت بنا عجوز من عجائزها تحمل على رأسها قلة من ماء فمرت بفتى منهم ، فجعل إحدى يديه بين كفيه ثم دفعها فخرت على ركبتيها فانكسرت قلتها ، فلما ارتفعت التفتت إليه فقالت : سوف تعلم يا غدر إذا وضع الله الكرسي و جمع الأولين و الآخرين و تكلمت الأيدي و الأرجل بما كانوا يكسبون ، فسوف تعلم كيف أمري و أمرك عنده غداً . قال يقول رسول الله صلى الله عليه و سلم صدقت صدقت كيف يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم .
فصل : أنكر بعض المتغفلة الذين اتبعوا أهواءهم بغير هدى من الله إعجاباً برأيهم و تحكماً على كتاب الله تعالى و سنة نبيه محمد صلى الله عليه و سلم بعقول ضعيفة و أفهام سخيفة ، فقالوا : لا يجوز في حكم الله تعالى و عدله أن يضع سيئات من اكتسبها على من لم يكتسبها و يؤخذ حسنات من عملها فتعطى من لم يعملها ، و هذا زعموا جوراً و أولوا قول الله تعالى و لا تزر وازرة وزر أخرى فكيف تصح هذه الأحاديث و هي تخالف ظاهر القرآن و تستحيل في العقل ؟ .
و الجواب : أن الله سبحانه و تعالى لم يبن أمور الدين على عقول العباد ، و لم يعد و لم يوعد على ما تحملته عقولهم و يدركونها بأفهامهم ، بل وعدوا وعداً بمشيئته و إرادته و أمر و نهي بحكمته ، و لو كان كلما لا تدركه العقول مردوداً لكان أكثر الشرائع مستحيلاً على موضوع عقول العباد ، و ذلك أن الله تعالى أوجب بخروج المني الذي هو طاهر عند بعض الصحابة و كثير من الأئمة ، و أوجب غسل الأطراف من الغائط الذي لا خلاف بين الأئمة و سائر من يقول بالعقل و غيره في نجاسته و قذارته و نتنه ، و أوجب بريح يخرج من موضع الحدث ما أوجب بخروج الغائط الكثير المتفاحش ، فبأي عقل يستقيم هذا و بأي رأي تجب مسواة ريح ليس لها عين قائمة بما يقوم عينه و تزيد على الريح نتناً و قذراً ، قد أوجب الله قطع يمين مؤمن بعشرة دراهم ، و عند بعض الفقهاء بثلاثة دراهم و دون ذلك ، ثم سوى بين هذا القدر من المال و بين مائة ألف دينار ، فيكون القطع فيهما سواء ، و أعطى الأم من ولدها الثلث ، ثم إن كان للمتوفى إخوة جعل لها السدس من غير أن ترث الإخوة من ذلك شيئاً . فبأي عقل يدرك هذا إلا تسليماً وانقياداً من صاحب الشرع إلى غير ذلك فكذلك القصاص بالحسنات و السيئات ، و قد قال و قوله الحق : و نضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس الآية . و قال : و ليحملن أثقالهم و أثقالاً مع أثقالهم و قال : ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة و من أوزار الذين يضلونهم بغير علم و هذا يبين قوله تعالى و لا تزر وازرة وزر أخرى أي لا تحمل حاملة ثقل أخرى إذا لم تتعد ، فإذا تعدت و استطالت بغير ما أمرت فإنها تحمل عليها و يؤخذ منها بغير اختيارها ، كما تقدم في أسماء القيامة عند قوله تعالى و اتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً .
فصل : و إذا تقرر هذا ، فيجب على كل مسلم البدار إلى محاسبة نفسه ، كما قال عمرو رضي الله عنه : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا ، و إنما حسابه لنفسه أن يتوب عن كل معصية قبل الموت توبة نصوحاً و يتدارك ما فرط من تقصير في فرائض الله عز و جل ، و يرد المظالم إلى أهلها حبة حبة ، و يستحل كل من تعرض له بلسانه و يده و سطوته بقلبه ، و يطيب قلوبهم حتى يموت ، و لم يبق عليه فريضة و لا مظلمة ، فهذا يدخل الجنة بغير حساب ، فإن مات قبل رد المظالم أحاط به خصماؤه ، فهذا يأخذ بيده ، و هذا يقبض على ناصيته ، وهذا يتعلق بلبته ، و هذا يقول ظلمتني ، و هذا يقول شتمتني ، و هذا يقول استهزأت بي ، و هذا يقول ذكرتني في الغيبة بما يسوءني و هذا يقول جاورتني فأسأت جواري ، و هذا يقول عاملتني فغششتني ، و هذا يقول بايعتني و أخفيت عني عيب متاعك ، و هذا يقول كذبت في سعر متاعك ، و هذا يقول رأيتني محتاجاً و كنت غنياً فما أطعمتني ، و هذا يقول وجدتني مظلوماً و كنت قادراً على دفع الظلم فداهنت الظلم و ما راعيتني ، فبينما أنت كذلك و قد أنشب الخصماء فيك مخاليبهم و احكموا في تلابيبك أيديهم و أنت مبهوت متحير من كثرتهم حتى لم يبق في عمرك أحد عاملته على درهم أو جالسته في مجلس إلا و قد استحق عليك مظلمة بغيبة أو جناية أو نظر بعين استحقار ، و قد ضعفت عن مقاومتهم و مددت عنق الرجاء إلى سيدك و مولاك لعله يخلصك من أيديهم إذ قرع سمعك نداء الجبار اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم فعند ذلك ينخلع قلبك من الهيبة ، و توقن نفسك بالبوار ، و تتذكر ما أنذرك الله به على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم حيث قال : و لا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون إلى قوله لا يرتد إليهم طرفهم و أفئدتهم هواء .
فما أشد فرحك اليوم بتمضمضك بأعراض الناس و تناولك أموالهم ، و ما أشد حسرتك في ذلك اليوم إذا وقف بك على بساط العدل ، و شوفهت بخطاب السيئات ، و أنت مفلس فقير عاجز مهين لا تقدر على أن ترد حقاً أو تظهر عذراً ، فعند ذلك تؤخذ حسناتك التي تعبت فيها عمرك و تنقل إلى أخصامك عوضاً عن حقوقهم ، كما ورد في الأحاديث المذكورة في هذا الباب .
فانظر إلى مصيبتك في مثل هذا اليوم إذ ليس لك حسنة قد سلمت من آفات الرياء و مكائد الشيطان ، فإن سلمت حسنة واحدة في مدة طويلة ابتدرها خصماؤك و أخذوها . و يقال : لو أن رجلاً له ثواب سبعين نبياً و له خصم بنصف دانق لم يدخل الجنة حتى يرضي خصمه ، و قيل : يؤخذ بدانق قسط سبعمائة صلاة مقبولة فتعطى للخصم . ذكره القشيري في التحبير له عند اسمه المقسط الجامع .
قال أبو حامد : و لعلك لو حاسبت نفسك و أنت مواظب على صيام النهار و قيام الليل ، لعلمت أنه لا يمضي عليك يوم إلا و يجري على لسانك من غيبة المسلمين ما يستوفي جميع حسناتك ، فكيف ببقية السيئات من أكل الحرام و الشهوات و التقصير في الطاعات ؟ و كيف ترجو الخلاص من المظالم في يوم يقتص فيه للجماء من القرناء ؟ و يقول الكافر : يا ليتني كنت ترابا فكيف بك يا مسكين في يوم ترى فيه صحيفتك خالية من حسنات طال فيها تعبك ؟ فتقول : أين حسناتي ؟ فيقال : نقلت إلى صحيفة خصمائك ، و ترى صحيفتك مشحونة بسيئات غيرك . فتقول يا رب هذه سيئات ما قارفتها قط . فيقال : هذه سيئات الذين اغتبتهم و شتمتهم و قصدتهم بالسوء و ظلمتهم في المعاملة و المبايعة و المجاورة و المخاطبة و المناظرة و المذاكرة و المدارسة و سائر أصناف المعاملة ، فاتق الله في مظالم العباد بأخذ أموالهم و التعرض لأعراضهم و أبشارهم و تضييق قلوبهم و إساءة الخلق في معاشرتهم ، فإن ما بين العبد و بين الله خاصة المغفرة إليه أسرع ، و من اجتمعت عليه مظالم و قد تاب عنها و عسر عليه استحال أرباب المظالم من حيث لا يطلع عليه إلا الله فليكثر من الاستغفار لمن ظلمه ، فعساه أن يقربه ذلك إلى الله فينال به لطفه الذي ادخره لأرباب المؤمنين في دفع مظالم العباد عنهم بإرضائه إياهم على ما يأتي بيانه في باب إرضاء الخصوم بعد هذا إن شاء الله تعالى .
فصل : قوله في الحديث : فيناديهم بصوت استدل به مكن قال بالحرف و الصوت . و أن الله يتكلم بذلك تعالى الله عما يقوله المجسمون و الجاحدون علوا كبيراً ، و إنما يحمل النداء المضاف إلى الله تعالى على نداء بعض الملائكة المقربين بإذن الله تعالى و أمره ، و مثل ذلك سائغ في الكلام غير مستنكر أن يقول القائل نادى الأمير و بلغني نداء الأمير كما قال تعالى : و نادى فرعون في قومه و إنما المراد نادى المنادي عن أمره و أصدر نداءه عن إذنه ، و هو كقولهم أيضاً : قتل الأمير فلاناً ، و ضرب فلاناً ، و ليس المراد توليه لهذه الأفعال و تصديه لهذه الأعمال ، و لكن المقصود صدورها عن أمره ، و قد ورد في صحيح الأحاديث أن الملائكة ينادون على رؤوس الأشهاد فيخاطبون أهل التقى و الرشاد : ألا إن فلان ابن فلان كما تقدم .
و مثله ما جاء في حديث التنزيل مفسراً فيما أخرجه النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه و أبي سعيد قالا : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله عز و جل يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول ثم يأمر منادياً يقول : هل من داع يستجاب له ؟ هل من مستغفر يغفر له ؟ هل من سائل يعطى ؟ صححه أبو محمد عبد الحق ، و كل حديث اشتمل على ذكر الصوت أو النداء ، فهذا التأويل فيه و أن ذلك من باب حذف المضاف . و الدليل على ذلك ما ثبت من قدم كلام الله تعالى على ما هو مذكور في كتاب الديانات .
فإن قال بعض الأغبياء : لا وجه لحمل الحديث على ما ذكرتموه فإن فيه [ أنا الديان ] و ليس يصدر هذا الكلام حقاً و صدقاً إلا من رب العالمين .
قيل له : إن الملك إذا كان يقول عن الله تعالى و ينبئ عنه فالحكم يرجع إلى الله رب العالمين . و الدليل عليه أن الواحد منا إذا تلا قول الله تعالى إني أنا الله فليس يرجع إلى القارئ و إنما القارئ ذاكر لكلام الله تعالى و دال عليه بأصواته ، و هذا بين ، و قد أتينا عليه في الصفات من كتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى و صفاته العليا .
فصل : و اختلف االناس في حشر البهائم و في قصاص بعضها من بعض ، فروي عن ابن عباس أن حشر الدواب و الطير موتها ، و قال الضحاك : و روي عن ابن عباس في رواية أخرى : أن البهائم تحشر و تبعث قال أبو ذر ، و أبو هريرة ، و عمرو بن العاص ، و الحسن البصري و غيرهم و هو الصحيح لقوله تعالى : و إذا الوحوش حشرت و قوله ثم إلى ربهم يحشرون ، قال أبو هريرة : يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة البهائم و الطير و الدواب و كل شيء فيبلغ من عدل الله أن يأخذ للجماء من القرناء ، ثم يقول : كوني تراباً فذلك قوله تعالى حكاية عن الكفار و يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا و نحوه عن ابن عمر و عبد الله بن عمرو بن العاص ، و في الخبر : إن البهائم إذا صارت تراباً يوم القيامة حول ذلك التراب في وجوه الكفار ، فذلك قوله تعالى وجوه يومئذ عليها غبرة أي غبار و قالت طائفة : الحشر في قوله تعالى ثم إلى ربهم يحشرون راجع الكفار . و ما تخلل من قوله تعالى و ما من دابة في الأرض و لا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء كلام معترض و إقامة حجج ، و أما الحديث فالمقصود منه التمثيل على جهة تعظيم أمر الحساب و القصاص فيه حتى يفهم منه أنه لا بد لكل أحد منه و أنه لا محيص لمخلوق عنه ، و عضدوا ذلك بما روي في غير الصحيح عن بعض رواياته من الزيادة ، فقال : حتى يقاد للشاة الجماء من الشاة القرناء ، و للحجر لما ركب الحجر ، و العود لما خدش العود . قالوا فظهر من هذا أن المقصود التمثيل المفيد للاعتبار و التهويل ، لأن الجمادات لا تعقل خطابها و لا عقابها و ثوابها و لم يصر إليه أحد من العقلاء و متخيلة من جملة المعتوهين الأغبياء . أجاب بعض من قال إنها تحشر و تبعث بأن قال إن من الحكمة الإلهية أن لا يجري أمر من أمور الدنيا و الآخرة إلا على سنة مسنونة و حكمة موزونة .
و من قال هنا بما قالته طائفة من المتوسمة بالعلم المتسمة بالفقه و الفهم على الزعم أن الجامد لا يفقه و الحيوان غير الإنسان لا يعقل ، و إنما هو منزل في الحيوان و لسان حال في الجامد و النامي ، و قال إن الله تعالى يقول في الضالين المكذبين إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً و لو كان عندها عقل أو فهم ما نزل بالكافر الفاسق إلى درجتها في موضع التنقيص و التقصير ، و الله سبحانه قد وصفه بالموت و الصمم في موضع التبصير و التذكير ، فقال : و لا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين و قال أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي صم بكم عمي فهم لا يرجعون .
قيل له : ليس الأمر كما ذكرت و لا الحق على شيء مما زعمت ، و أنه ليس عليك من حيث الزعم و رؤية النفس في درجة العلم أبداً من الآية التي وقفت فيها إلى التي قبلها إن شئت ، فارجع بصرك في الذي رأيت تجده قد وصفهم عز و جل بالموت و الصمم ، كما وصفهم بالعمى و البكم و ليسوا في الحقيقة الظاهرة بموتى و لا صم و لا بعميان و لا بكم ، و إنما هم أموات بالعقول و الأذهان عن صفة الإيمان و حياة دار الحيوان . صم عن كلمة الأحياء ، عمى عن النظر في مرآة وجوه الأخلاء ، كذلك وصف الأنعام بضلال و ليست في الحقيقة بضلال من حيث شرعتها و حكمتها ، إنما ذلك من حيث قد كنا وافقنا فكيف يكون ذلك و الله تعالى يقول و ما من دابة في الأرض إلى قوله يحشرون فوربك لنحشرهم جماً غفيراً و لنحاسبن حساباً يسيراً ، و لو كان من عند غير الله و لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً و أنه تعالى لا يسأل إلا عاقلاً و لا يحاسب إلا مفضولاً و ضلاً . و إنما جعل لكل موجود من موجوداته في أشتات الخلائق و أجناس العوالم دار دنيا و دار أخرى ، و جعل لها أفلاكاً و آفاقاً و ظلماً و أضواء ، فكل في فلكه ، و أفقه بليله و نهاره و سمعه و بصره و علمه و فهمه ، و حاكم من عقله أو جهله ، و قائم بنحلته و حكمته و سنته و شرعته ، فأدنى و أعلى من الروحانية الأقصى إلى الجمادية الأقسى ، فالملائكة الروحانية في مصافها ترانا من حيث لا نرى و تعلم منا أكثر مما نعلم ، و إنها لتشاهد من نقصنا و قلة عقلنا في الموضع الذي يجب العلم به و إعمال العقل فيه ما تحكم به علينا أكثر مما نحكم به على الأنعام من قلة العقل و تحقيق المعرفة ، فمن نظر إلى الأنعام وجدها من حيث نحن لا من حيث فلكها و أفقها لا تسمع و لا تعقل إلا ميزاً ما قدر ما تتسخر به و تتذلل طبعاً ، فتلقن المراد منها من هذا الفن خاصة لا غير و أما ما نحن بسبيله من تصرفات و تعملات فليس لها ذلك من حيث الفلكية التي أحازتها عنا و الأفقية التي اقتطعتها منا ، فهي في طرقاتنا ضلال و بتعملاتنا و أحوال تصرفاتنا جهال ، و أما من حيث شرعتها و باطن رؤيتها فعارفة عقال . قال رسول الله صلى الله عليه و سلم حين أخذ الجمل القضم الذي ند و امتنع بحائط بني النجار و غلب الخلق عن أخذه و الوصول إليه حتى جاء صلى الله عليه و سلم ، فلما مشي إليه ورآه الجمل برك لديه و جعل يمر بمشفره على الأرض بين يديه تذللاً و تسخيراً فقال صلى الله عليه و سلم هات الخطام فلما خطمه و رأى الناس يعجبون منه رد رأسه إليهم فقال ألا تعجبون أو كما قال إنه ليس شيء بين السماء و الأرض إلا يعلم أني رسول الله غير عاصي الجن و الإنس و ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال ما دابة إلا و هي مصيخة بأذنها يوم الجمعة تنتظر قيام الساعة و قال صلى الله عليه و سلم لا يسمع مدى صوت المؤذن جن و لا إنس و لا شجر و لا مدر و لا شيء إلا شهد له يوم القيامة .
قال المؤلف رحمه الله : خرجه مالك في موطئه و ابن ماجه في سننه و اللفظ له من حديث أبي سعيد الخدري ، و قد تقدم أن الميت يسمع صوته كل شيء إلا الإنسان و في رواية إلا الثقلين . و الأخبار في هذا المعنى كثيرة قد أتينا على جملة منها في هذا الكتاب ، فكل حيوان و جماد محشور لما عنده من الإدراك و المشاهدة و الحضور من حيث هي لا من حيث نحن . قال الله تعالى و إن من شيء إلا يسبح بحمده و قال و لله يسجد من في السموات و الأرض طوعاً و كرها و ظلالهم بالغدو و الآصال و قال عز من قائل : ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات و من في الأرض و الشمس و القمر و النجوم و الجبال و الشجر و الدواب لا يقال إن هذا السجود و التسبيح لسان حال ليس بلسان المقال ، فإنا نقول هذا مجاز و الله سبحانه يقص الحق كما أخبر في كتابه إن الحكم إلا الله يقص الحق .
و من نظر بنور الله جاز العين إلى المعنى و حل الرمز و فك المعمى و هم إنما نظروا من حيث هم و من حيث العقل البشري و لم ينظروا الحياة الفلكية من حيث هي فغابوا عن الحضور و جمدوا على القصور و من لم يجعل الله له نوراً فما له من نور .
قلت : هذا كله صحيح لحديث أبي سعيد الخدري المذكور و هو صحيح ، و كذلك حديث أبي هريرة في شهادة الأرض بما عمل عليها . و هو صحيح و كذلك حديث أبي سعيد الخدري في شهادة المال صحيح و سيأتي .
و قد روى ليث ابن أبي سليم عن عبد الرحمن بن مروان ، عن الهزيل ، عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه مر بشاتين تنتطحان فقال : إن الله تعالى ليقضين يوم القيامة لههذ الجلحاء من هذه القرناء .
و ذكر ابن وهب ، أخبرني ابن لهيعة و عمرو بن الحارث عن بكر بن سوادة أن أبا سالم الجيشاني حدثه أن ثابت بن طريف استأذن على أبي ذر فسمعه رافعاً صوته يقول : أما و الله لولا يوم الخصومة لسؤتك . قال ثابت : فدخلت فقلت ما شأنك يا أبا ذر ؟ قال : هذه قلت و ما عليك إن رأيتك تضربها قال [ و الذين نفسي بيده أو نفس محمد بيده لتسئلن الشاة فيما نطحت صاحبتها و ليسئلن الجماد فيما نكب أصبع الرجل ] .
و روي عن شعبة ، عن الأعمش ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه عن أبي ذر قال رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم شاتين تنتطحان ، فقال : يا أبا ذر أتدري فيم تنتطحان ؟ قلت : لا يا رسول الله قال : لكن الله يدري و يقضي بينهما يوم القيامة أخرجه أبو داود الطيالسي فقال ، حدثنا شعبة قال : أخبرني الأعمش ، قال سمعت منذر الثوري يحدث عن أصحاب له عن أبي ذر بلفظه و معناه ، و قال عمرو بن العاص رضي الله عنه : إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم و حشر الجن و الإنس و الدواب و الوحوش ، فإذا كان ذلك اليوم جعل الله القصاص بين الدواب حتى يقتص للشاة الجماء من القرناء تنتطحها ، فإذا فرغ الله من القصاص بين الدواب قال لها كوني تراباً فيراها الكافر فيقول يا ليتني كنت تراباً ] .
و ذكر عبد الكريم الإمام أبو القاسم القشيري في التحبير له فقال : و في خبر الوحوش و البهائم تحشر يوم القيامة فتسجد لله سجدة فتقول الملائكة ليس هذا يوم سجود هذا يوم الثواب و العقاب و تقول البهائم هذا سجود شكر حيث لم يجعلنا الله من بني آدم و يقال أن الملائكة تقول للبهائم : لم يحشركم الله جل ثناؤه لثواب و لا لعقاب و إنما يحشركم تشهدون فضائح بني آدم . ذكره القشيري في اسمه المقسط الجامع ، و هذا قول ثابت فتأمله .
فصل : ظن بعض العلماء أن الصيام مختص بعامله موفراً له أجره و لا يؤخذ منه شيء لمظلمة ظلمها متمسكاً بقوله تعالى الصيام لي و أنا أجزي به
و أحاديث هذا الباب ترد قوله ، و أن الحقوق تؤخذ من سائر الأعمال صياماً كان أو غيره و قيل : إن النوم إذا لم يكن معلوماً لأحد و لا مكتوباً في الصحف هو الذي يستره الله و يخبؤه عليه ، حتى يكون له جنة من العذاب ، فيطرحون أولئك عليه سيئاتهم فيذهب عنهم و يقيه الصوم فلا يضر أصحابها لزوالها عنهم و لا له لأن الصوم جنته . قال القاضي أبو بكر بن العربي في سراج المريدين : و هو تأويل حسن إن شاء تعالى و لا تعارض و الحمد لله .