باب أول ما يحاسب عليه العبد من عمله : الصلاة و أول ما يقضى فيه بين الناس : الدماء ، و في أول من يدعى للخصومة
 
مسلم عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء أخرجه البخاري أيضاً و النسائي و الترمذي و قال : هذا حديث حسن صحيح . و للنسائي أيضاً عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أول ما يحاسب عليه العبد الصلاة و أول ما يقضي بين الناس الدماء .
و في البخاري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : أنا أول من يجثو يوم القيامة بين يدي الرحمن للخصومة يريد قصته في مبارزته هو وصاحباه الثلاثة من كفار قريش قال أبو ذر و فيهم نزلت هذان خصمان اختصموا في ربهم الآية . و الخبر بهذا مشهور صحيح خرجه البخاري و مسلم و غيرهما .
و عن محمد بن كعب القرظي ، عن رجل من الأنصار ، عن أبي هريرة قال ، حدثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم في طائفة من أصحابه فيكون أول ما يقضى بينهم في الدماء و يأتي كل قتيل قتل في سبيل الله فيأمر الله كل من قتل فيحمل رأسه و تشخب أوداجه دماً فيقول : يا رب سل هذا فيم قتلني ؟ فيقول الله تعالى له ـ و هو أعلم ـ : فيم قتلته ؟ فيقول : رب قتلته لتكون العزة لي : فيقول الله تعالى : تعست ثم لا تبقى قتلة إلا قتل بها و لا مظلمة ظلمها إلا أخذ بها و كان في مشيئة الله تعالى إن شاء عذبه و إن شاء رحمه . خرجه الغيلاني أبو طالب محمد بن محمد بن إبراهيم بن غيلان عن أبي بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله البزار المعروف بالشافعي .
حدثنا أبو قلابة عبد الملك بن محمد الرقاشي ، حدثنا أبو عاصم الضحاك ، عن مخلد ، حدثنا إسماعيل بن رافع عن محمد بن زياد ، عن محمد بن كعب و خرجه إسماعيل بن إسحاق القاضي من حديث نافع بن جبير بن مطعم عن عبد الله بن عباس قال : سمعت نبيكم صلى الله عليه و سلم يقول : يأتي المقتول معلقاً رأسه بإحدى يديه متلبباً قاتله بيده الأخرى تشخب أوداجه دماً حتى يوقفا فيقول المقتول لله سبحانه : هذا قتلني فيقول الله تعالى للقاتل : تعست و يذهب به إلى النار .
و خرجه ابن المبارك موقوفاً على عبد الله بن مسعود قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن عاصم عن أبي وائل ، عن عبد الله فذكر معناه .
و خرجه الترمذي في جامعه قال ، حدثنا الحسن بن محمد الزعفراني قال : حدثنا شبابة قال ، حدثنا ورقاء بن عمر عن عمرو بن دينار عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته و رأسه بيده و أوداجه تشخب دماً يقول : يا رب قتلني هذا حتى يدينه من العرش قال : هذا حديث حسن غريب .
مالك عن يحيى بن سعيد قال : بلغني أن أول ما ينظر فيه من عمل المرء الصلاة ، فإن قبلت منه نظر فيما بقي من عمله ، و إن لم تقبل منه لم ينظر في شيء من عمله .
قلت : و هذا الحديث و إن كان موقوفاً بلاغاً ، فقد رواه أبو داود الترمذي و النسائي مرفوعاً بهذا المعنى ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أول ما يحاسب به الناس يوم القيامة من أعمالهم الصلاة . قال يقول ربنا عز و جل لملائكته : انظروا في صلاة عبدي أتمها أم أنقصها فإن كانت تامة كتبت له تامة ، و إن كان انتقص منها شيئاً قال : انظروا هل لعبدي من تطوع فإن كان له تطوع قال أتموا لعبدي فريضته من تطوعه ، ثم تؤخذ الأعمال على ذلك لفظ أبي داود و قال الترمذي حديث حسن غريب و خرجه ابن ماجه أيضاً .
فصل : قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله : أما إكمال الفريضة من التطوع فإنما يكون ذلك و الله أعلم فيمن سها عن فريضة فلم يأت بها أو لم يحسن ركوعها و سجودها و لم يدر قدر ذلك ، و أما من تعمد تركها أو شيئاً منها ثم ذكرها فلم يأت بها عامداً و اشتغل بالتطوع عن أداء فرضه و هو ذاكر له فلا تكمل له فريضته تلك من تطوعه و الله أعلم .
و قد روي من حديث الشاميين في هذا الباب حديث منكر يرويه محمد بن حمير عن عمرو بن قيس السكري ، عن عبد الله بن قرط ، عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من صلى صلاة لم يكمل فيها ركوعه و سجوده و خشوعه زيد فيها من تسبيحاته حتى تتم قال أبو عمرو : هذا لا يحفظ عن النبي صلى الله عليه و سلم إلا من هذا الوجه و ليس بالقوي ، و إن كان صح كان معناه أخرج من صلاة قد أتمها عند نفسه و ليس في الحكم بتامة .
قلت : ينبغي للإنسان أن يحافظ على أداء فرضه فيصليه كما أمر من إتمام ركوع و سجود ، و حضور قلب . فإن غفل عن شيء من ذلك فيجتهد بعد ذلك في نفله و لا يتساهل فيه و لا في تركه ، و من لا يحسن أن يصلي الفرض فأحرى أن لا يحسن النفل لا جرم بل تنفل الناس في أشد ما يكون من النقصان و الخلل في التمام لخفة النفل عندهم و تهاونهم به ، و لعمر الله لقد يشاهد في الوجود من يشار إليه و يظن به العلم بنفله كذلك بل فرضه إذ ينقره نقر الديك ، فكيف بالجهال الذيم لا يعلمون . و إذا كان هذا فكيف يكمل بهذا النفل ما نقص من الفرض هيهات هيهات ! فاعلموه أن الصلاة إذا كانت بهذه الصفة دخل صاحبها في معنى قوله تعالى : فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة و اتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً ! و قال جماعة من العلماء : التضييع للصلاة هو أن لا يقيم حدودها من مراعاة وقت وطهارة و تمام ركوع و سجود و نحو ذلك و هو مع ذلك يصليها ، و لا يمتنع من القيام بها في وقتها و غير وقتها قالوا : فأما من تركها أصلاً و لم يصلها فهو كافر .
و روى الترمذي عن أبي مسعود الأنصاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع و السجود ، و قال : حديث حسن صحيح و العمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم و من بعدهم يرون أن يقيم الرجل صلبه في الركوع و السجود .
قال الشافعي و أحمد و إسحاق : من لم يقم صلبه في الركوع و السجود فصلاته فاسدة لحديث النبي صلى الله عليه و سلم لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع و السجود .
و روى البخاري عن زيد بن وهب عن حذيفة ، و رأى رجلاً لا يتم ركوعه و لا سجوده ، فلما قضى صلاته قال له حذيفة : ما صليت و لو مت مت على غير سنة محمد صلى الله عليه و سلم . و أخرجه النسائي أيضاً عنه عن حذيفة أنه رأى رجلاً يصلي فخفف فقال له حذيفة : منذ كم تصلي هذه الصلاة ؟ قال منذ أربعين عاماً قال : ما صليت و لو مت و أنت تصلي هذه الصلاة لمت على غير فطرة النبي ، ثم قال : إن الرجل ليخفف الصلاة و يتم و يحسن . و الأخبار في هذا المعنى كثيرة جداً قد أتينا عليها في غير هذا الباب و هي تبين لك المراد من قوله تعالى : أضاعوا الصلاة .
و روى النسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة صلاته ، فإن وجدت تامة كتبت تامة ، و إن كان انتقص منها شيئاً قال : انظروا هل تجدون له من تطوع يكمل له ما ضيع من فريضته من تطوعه ، ثم سائر الأعمال تجري على ذلك . و هذا نص . و قال أبو عمر رضي الله عنه : و من ضيعها فهو لما سواها أضيع .
قلت : و لا اعتبار بقول من قال إن الواجب من أركان الصلاة و من الفصل بين أركانها أقل ما ينطلق عليه الاسم و هو أبو حنيفة ، و أشار إلى ذلك القاضي عبد الوهاب في تلقينه ، و هو يروي عن ابن القاسم لأن من اقتصر على ذلك صدق عليه أنه نقر الصلاة ، فدخل في الذم المترتب على ذلك بقوله عليه السلام تلك صلاة المنافقين يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً . رواه مالك في موطئه و مسلم في صحيحه و الأحاديث الثابتة تقضي بفساد صلاته كما بيناه مع قوله عليه السلام : أما الركوع فعظموا فيه الرب ، و أما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم خرجه مسلم .
و في موطأ مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن النعمان بن مرة الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ما ترون في الشارب و السارق و الزاني قال : و ذلك قبل أن ينزل فيهم قالوا الله و رسوله أعلم . قال : هن فواحش و فيهن عقوبة و أسوأ السرقة الذي يسرق صلاته قالوا : يا رسول الله و كيف يسرق صلاته ؟ قال : لا يتم ركوعها و لا سجودها .
و روى أبو داود الطيالسي في مسنده قال : حدثنا محمد بن مسلم بن أبي الوضاح ، عن الأحوص بن حكيم ، عن خالد بن معدان ، عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا أحسن الرجل الصلاة فأتم ركوعها و سجودها ، قالت : الصلاة حفظك الله كما حفظني فترفع ، و إذا أساء الصلاة فلم يتم ركوعها و لا سجودها قالت الصلاة : ضيعك الله كما ضيعتني ، فتلف كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجهه فمن لم يحافظ على أوقات الصلاة لم يحافظ على الصلاة ، كما أن من لم يحافظ على وضوئها و ركوعها و سجودها فليس بمحافظ عليها ، و من لم يحافظ عليها فقد ضيعها و من ضيعها فهو لما سواها أضيع كما أن من حافظ عليها حفظ دينه ، و لا دين لمن لا صلاة له .