باب ما جاء في شهادة أركان الكافر و المنافق عليهما و لقائهما الله عز و جل
 
قال الله تعالى : اليوم نختم على أفواههم و تكلمنا أيديهم و تشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون و قال : يوم تشهد عليهم ألسنتهم و أيديهم و أرجلهم بما كانوا يعملون و قال : و قالوا لجلودهم لم شهدتم علينا الآية . و ذكر أبو بكر بن أبي شيبة من حديث معاوية بن حيدة القرشي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : تجيئون يوم القيامة على أفواهكم الفدام و أول ما يتكلم من الإنسان فخذه و كفه و قد تقدم .
مسلم عن أنس بن مالك قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم نضحك فقال : هل تدرون لم أضحك ؟ قلنا : الله و رسوله أعلم . قال : من مخاطبة العبد ربه ، يقول يا رب ألم تجرني من الظلم ؟ قال : يقول : بلا ، قال : فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني قال : كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً و بالكرام الكاتبين شهوداً ، قال فيختم على فيه فيقال لأركانه انطق فتنطق بأعماله ، قال : ثم يخلى بينه و بين الكلام قال : فيقول بعداً لكن و سحقاً فعنكن كنت أناضل . الترمذي عن أبي سعيد و أبي هريرة قالا : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقول : ألم أجعل لك سمعاً و بصراً و مالاً و ولداً ، و سخرت لك الأنعام ، و الحرث و ترأس و تربع فكنت تظن أنك ملاقي يومك هذا ؟ فيقول : لا . فيقول : اليوم أنساك كما أنسيتني . قال هذا حديث صحيح غريب ، و أخرجه مسلم عن أبي هريرة بأطول من هذا و قد تقدم .
البخاري عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له أرأيت لو كان لك ملك الأرض ذهباً كنت تفتدى به ؟ فيقول : نعم . فيقال له : قد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك . و أخرجه مسلم و قال بدل قد كنت كذبت قد سئلت ما هو أيسر من ذلك .
فصل : قوله عليه السلام فأول مايتكلم من الإنسان فخذه يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون ذلك زيادة في الفضيحة و الخزي على ما نطق به الكتب في قوله : هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق لأنه كان في الدنيا يجاهر بالفواحش و يخلو قلبه عندها من ذكر الله تعالى فلا يفعل ما بفعل خائفاً مشفقاً فيجزيه الله بمجاهرته بفحشه على رؤوس الأشهاد .
و الوجه الآخر : أن يكون هذا فيمن يقرأ كتابه و لا يعرف بما ينطق به بل يجحد فيختم الله على فيه عند ذلك ، و تنطق منه الجوارح التي لم تكن ناطقة في الدنيا فتشهد عليه سيئاته ، و هذا أظهر الوجهين يدل عليه أنهم يقولون لجلودهم أي لفروجهم في قول زيد بن أسلم . لم شهدتم علينا ؟ فتمردوا في الجحود فاستحقوا من الله الفضح و الإخزاء . نعوذ بالله منهما .
فصل : قوله [ و تركتك ترأس و تربع ] أي ترأس على قومك بأن يكون رئيساً عليهم و يأخذ الربع مما يحصل لهم من الغنائم و الكسب ، و كانت عادتهم أن أمراءهم كانوا يأخذون من الغنائم الربع و يسمونه المرباع قال شاعرهم :
‌ ‌ لك المرباع منها و الصفايا و حكمك و النشيطة و الفضول
و قال آخر :
منا الذي ربع الجيوش لصلبه عشرون و هو يعد في الأحياء
يقال : ربع الجيش يربعه إذا أخذ ربع الغنيمة . قال الأصمعي : ربع في الجاهلية و خمس في الإسلام .
و قوله : اليوم أنساك كما نسيتني أي اليوم أتركك في العذاب كما تركت عبادتي و معرفتي .
فإن قيل : فهل يلقى الكافر ربه و يسأله ؟ قلنا : نعم بدليل ما ذكرنا . و قد قال تعالى : فلنسألن الذين أرسل إليهم في أحد التأويلين و قال : و لو ترى إذ وقفوا على ربهم و قال : أولئك يعرضون على ربهم و قال و عرضوا على ربك صفاً الآيتين . و قال : إن إلينا إيابهم * ثم إن علينا حسابهم و قال : و قال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا و لنحمل خطاياكم إلى قوله و ليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون و الآي في هذا المعنى كثير .
فإن قيل : قد قال الله تعالى يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي و الأقدام و قال عليه السلام : و يخرج عنق من النار فيقول : وكلت بثلاث بكل جبار عنيد و كل من جعل مع الله إلهاً آخر و بالمصورين .
قلنا : هذا يحتمل أن يكون يكون بعد الوزن و الحساب و تطاير الكتب في اليمين و الشمال و تعظيم الخلق كما تقدم و يدل عليه قوله : و بالمصورين فإنهم كانوا موحدين فلا بد لهم من سؤال و حساب و بعده يكونون أشد الناس عذاباً ، و إن كانوا كافرين مشركين فيكون ذكرهم تكراراً في الكلام على أنا نقول :
قال بعض العلماء : ذكر الله تعالى الحساب جملة و جاءت الأخبار بذلك ، و في بعضها ما يدل على أن كثيراً من المؤمنين يدخلون الجنة بغير حساب ، فصار الناس إذاً ثلاث فرق : فرقة لايحاسبون أصلاً ، و فرقة تحاسب حساباً يسيراً ، و هما من المؤمنين ، و فرقة تحاسب حساباً شديداً يكون منها مسلم و كافر ، و إذا كان من المؤمنين من يكون أدنى إلى رحمة الله فلا يبعد أن يكون من الكفار من هو أدنى إلى غضب الله فيدخله النار بغير حساب .
و قد ذكر ابن المبارك في دقائقه عن شهر بن حوشب عن ابن عباس أن بعد أخذ النار هؤلاء تنشر الصحف و توضع الموازين ، و تدعى الخلائق للحساب .
فإن قيل : فقد قال تعالى : كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون و قال : و لا يسأل عن ذنوبهم المجرمون و قال : و لا يكلمهم الله و هذا يتناول بعمومه جميع الكفار .
قلنا : القيامة مواطن فموطن يكون فيه سؤال و كلام و موطن لا يكون ذلك فلا يتناقض الآي ، و الأخبار و الله المستعان .
قال عكرمة : القيامة مواطن يسأل في بعضها و لا يسأل في بعضها . و قال ابن عباس : لا يسألون سؤالاً شفا و راحة ، و إنما يسألون سؤال تقريع و توبيخ لم عملتم كذا و كذا و القاطع لهذا قوله تعالى : فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون .
قال أهل التأويل عن لا إله إلا الله : و قد قيل إن الكفار يحاسبون بالكفر بالله الذي كان طول العمر دثارهم وشعارهم و كل دلالة من دلائل الإيمان خالفوها و عاندوها ، فإنهم يبكتون عليها و يسألون عنها عن الرسل و تكذيبهم إياهم لقيام الدلائل على صدقهم .
و قال تعالى : و قال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا و لنحمل خطاياكم ، و ما هم بحاملين من خطاياهم من شيء ، إنهم لكاذبون * و ليحملن أثقالهم و أثقالاً مع أثقالهم و ليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون و الآي في هذا المعنى كثيرة ، و من تأمل آخر سورة المؤمنين فإذا نفخ في الصور إلى آخرها تبين له الصواب في ذلك و الحمد لله على ذلك .
و ذكر ابن المبارك ، عن شهر بن حوشب ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : إن بعد أخذ النار هؤلاء الثلاثة : تنشر الصحف و توضع الموازين و يدعى الخلائق للحساب . و شهر : ضغفه مسلم في كتابه و غيره .
فإن قيل : فقد ذكر اللالكائي في سننه عن عائشة رضي الله عنها قالت : لا يحاسب رجل يوم القيامة إلا دخل الجنة قالوا : و لأن الحساب إنما يراد للثواب و الجزاء و لا حسنات للكافر فيجازي عليها بحسابه و لأن المحاسب له هو الله تعالى ، و قد قال : و لا يكلمهم الله يوم القيامة .
قلنا : ما روي عن عائشة قد خالفها غيرها في ذلك للآيات و الأحاديث الواردة في ذلك و هو الصحيح ، و معنى [ لا يكلمهم الله ] أي بما يحبونه ، قال الطبري : و في التنزيل اخسؤوا فيها ولا تكلمون و قد قيل إن معنى قوله تعالى : و لا يسأل عن ذنوبهم المجرمون لا يسأل عن ذنبه إنس و لا جان سؤال التعرف لتمييز المؤمنين من الكافرين . أي أن الملائكة لا تحتاج أن تسأل أحداً يوم القيامة أن يقال ما كان دينك و ما كنت تصنع في الدنيا حتى يتبين لهم بإخباره عن نفسه أنه مان مؤمناً أو كان كافراً . لكن المؤمنين يكونون ناضري الوجوه منشرحي الصدور ، و يكون المشركون سود الوجوه زرقاً مكروبين ، فهم إذا كلفوا سوق المجرمين إلى النار و تميزهم في الموقف كفتهم مناظرهم عن تعرف أديانهم ، و من قال هذا فيحتمل أن يقول إن الأمر يوم القيامة يكون بخلاف ما هو كائن قبله على ما وردت به الأخبار من سؤال الملكين الميت إذا دفن و انصرف الناس عنه فيسألونه عن ربه و دينه و نبيه . أي إذا كان يوم القيامة لم تسأل الملائكة عند الحاجة إلى تمييز فريق عن هذا لاستغنائهم بمناظرهم عما وراءها ، و من قاله يحتج بقوله تعالى : فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون أخبر أنهم يسألهم عن أعمالهم وهذه الآية في الكافرين ، و من قال يسألهم عن أصل كفرهم ثم عن تجريدهم إياه كل وقت باستهزائهم بآيات الله تعالى و رسله ، فقد سألهم عما كانوا يعملون . و ذلك هو المراد .