باب منه في الشفعاء و ذكر الجهنميين
 
ذكر ابن المبارك قال ، أخبرنا رشدين بن سعد ، عن يحيى ، عن أبي عيد الرحمن الختلي ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الصيام و القرآن يشفعان للعبد يقول الصيام : رب منعته الطعام و الشراب و الشهوات بالنهار فشفعني فيه و يقول القرآن : منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان .
و ذكر مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه و فيه بعد قوله في نار جهنم : حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشد منا شدة لله تعالى في استيفاء الحق من المؤمنين يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار .
و خرجه ابن ماجه و لفظه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم : إذا خلص الله المؤمنين من النار و آمنوا فما مجادلة أحدكم لصاحبه في الحق يكون له في الدنيا أشد مجادلة من المؤمنين الذين دخلوا النار . قال يقول ربنا إخواننا كانوا . فذكره بمعناه . يقولون ربنا كانوا يصومون معنا و يصلون و يحجون ، فيقال لهم : أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقاً كثيراً قد أخذت النار إلى نصف ساقه و إلى ركبتيه يقولون ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به ، ثم يقول الله عز و جل : ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقاً كثيراً ، ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا به ، ثم يقول : ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقاً كثيراً ، ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا به ، ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقاً كثيراً ربنا لم نذر فيها خيراً .
و كان أبو سعيد الخدري رضي الله عنه يقول : إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرءوا إن شئتم : إن الله لا يظلم مثقال ذرة و إن تك حسنة يضاعفها و يؤت من لدنه أجراً عظيماً فيقول الله تعالى : شفعت الملائكة ، و شفع النبيون ، و شفع المؤمنون و لم يبق إلا أرحم الراحمين . في البخاري و بقيت شفاعتي بدل قوله و لم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط عادوا حمماً فيلقيقهم في نهر على أفواه الجنة يقال له نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل . ألا ترونها تكون إلى الحجر أو الشجر ما يكون إلى الشمس أصفر و أخضر ، و ما يكون منها إلى الظل يكون أبيض قالوا يا رسول الله : كأنك كنت ترعى بالبادية . قال : فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتيم يعرفهم أهل الجنة هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه و لا خير قدموه ، ثم يقول ادخلوا الجنة فما رأيتموه فهو لكم ، فيقولون : ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحداً من العالمين ، فيقول : لكم عندي أفضل من هذا . فيقولون : يا ربنا و أي شيء أفضل من هذا ؟ فيقول رضائي فلا أسخط عليكم بعده أبداً .
و خرج أبو القاسم إسحاق بن إبراهيم بن محمد الختلي في كتاب الديباج له ، حدثنا أحمد بن أبي الحارث قال : حدثنا عبد المجيد بن أبي رواد ، عن معمر راشد ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا فرغ الله من القضاء بين خلقه أخرج كتاباً من تحت العرش : إن رحمتي سبقت غضبي فأنا أرحم الراحمين . قال فيخرج من النار مثل أهل الجنة أو قال مثلي أهل الجنة قال : و أكثر ظني أنه قال مثلي أهل الجنة مكتوب بين أعينهم عتقاء الله .
فصل : هذا الحديث بين أن الإيمان يزيد و ينقص حسب ما بيناه في آخر سورة آل عمران من كتاب جامع أحكام القرآن فإن قوله : أخرجوا من في قلبه مثقلا دينار و نصف دينار و ذرة يدل على ذلك و قوله : من خير يريد من إيمان و كذلك ما جاء ذكره في الخبر في حديث قتادة عن أنس و كان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة ما يزن برة ما يزن ذرة أي من الإيمان بدليل الرواية الأخرى التي رواها معبد بن هلال العنبري عن أنس و فيها فأقول يا رب أمتي أمتي فيقال : انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه منها فأنطلق فأفعل . الحديث بطوله أخرجه مسلم فقوله : من إيمان أي من أعمال الإيمان التي هي أعمال الجوارح ، فيكون فيه دلالة على أن الأعمال الصالحة من شرائع الإيمان و منه قوله تعالى و ما كان الله ليضيع إيمانكم أي صلاتكم .
و قد قيل : إن المراد في هذا الحديث أعمال القلوب كأنه يقول : أخرجوا من عمل عملاً بنية من قلبه كقوله الأعمال بالنيات و في هذا المعنى خبر عجيب يأتي ذكره آنفاً إن شاء الله تعالى .
و يجوز أن يراد به ، رحمة على مسلم رقة على يتيم خوفاً من الله رجاء له ، توكلاً عليه ثقة به مما هي أفعال القلوب دون الجوارح ، وسماها إيماناً لكونها في محل الإيمان .
و الدليل على أنه أراد بالإيمان ما قلنا و لم يرد مجرد الإيمان الذي هو التوحيد له و نفي الشركاء و الإخلاص بقوله لا إله إلا الله ما في الحديث نفسه من قوله أخرجوا أخرجوا ثم هو سبحانه بعد ذلك يقبض قبضة فيخرج قوماً لم يعملوا خيراً قط يريد إلا التوحيد المجرد عن الأعمال ، و قد جاء هذا مبيناً فيما رواه الحسن عن أنس و هي الزيادة التي زادها علي بن معبد في حديث الشفاعة ، ثم أرجع إلى ربي في الرابعة فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجداً قال فيقال لي محمد ارفع رأسك و قل يسمع لك و سل تعطه و اشفع تشفع ، فأقول : يا رب أئذن لي فيمن قال لا إله إلا الله . قال : ليس ذاك لك أو قال ليس ذلك إليك و عزتي و كبريائي و عظمتي و جبروتي لأخرجن من قال لا إله إلا الله .
و ذكر الترمذي الحكيم أبو عبد الله في نوادر الأصول ، عن محمد بن كعب القرطي ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يكتب على جباههم عتقاء الرحمن فيسألون أن يمحوا ذلك الاسم عنهم فيمحوه و في رواية فيبعث الله ملكاً فيمحوه عن جباههم الحديث و سيأتي . يقال : محا لوحه يمحوه محواً و يمحيه محياً و محاه أيضاً فهو ممحو و ممحى . صارت الواو ياء لكسر ما قبلها فأدغمت في الياء التي هي لام الفعل و أنشد الأصمعي :
كما رأيت الورق الممحيا
و انمحى انفعل و امتحى لغة فيه ضعيفة قاله الجوهري .
و ذكره أبو بكر البزار في مسنده ، عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أما أهل النار الذين هم أهلها فلا يموتون فيها و لا يحيون ، و أما الذين يريد الله إخراجهم فتميتهم النار ثم يخرجون منها فيلقون على نهر الحياة فيرسل الله عليهم من مائها ، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل و يدخلون الجنة فيسميهم أهل الجنة : الجهنميين فيدعون الله تعالى فيذهب ذلك الاسم عنهم .
البخاري عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يخرج قوم من النار بعد ما مسهم منها سفع فيدخلون الجنة فيسميهم أهل الجنة الجهنميين .
الترمذي عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه و سلم قال ليخرجن قوم من النار بشفاعتي يسمون الجهنميين قال : حديث حسن .
و عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي خرجه الترمذي و صححه أبو محمد عبد الحق .
و خرجه أبو داود الطيالسي و ابن ماجه من حديث جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي . زاد الطيالسي قال : فقال لي جابر من لم يكن من أهل الكبائر فما له و للشفاعة ؟ قال أبو داود و حدثناه محمد بن ثابت عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر .
و ذكر أبو الحسن الدراقطني عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال نعم أنا لشرار أمتي . فقالوا : فكيف أنت لخيارها ؟ قال : أما خيارها فيدخلون الجنة بأعمالهم و أما شرارهم فيدخلون الجنة بشفاعتي .
و خرج ابن ماجه ، حدثنا إسماعيل بن أسد ، حدثنا أبو بدر شجاع بن الوليد السلوي ، حدثنا زياد بن خيثمة عن نعيم بن أبي هند ، عن ربعي بن حراش ، عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم خيرت بين الشفاعة و بين أن يدخل نصف أمتي الجنة فاخترت الشفاعة لأنها أعم و أكفى . أترونها للمتقين ؟ لا . و لكنها للخاطئين المذنبين المتلوثين .
قلت : و أنبأنا الشيخ الفقيه أبو القاسم عبد الله بن علي بن خلف الكوفي إجازة عن أبيه الفقيه الإمام المحدث أبي الحسن علي بن خلف الكوفي قال : قرئ على الشيخة الصالحة فخر النساء خديجة بنت أحمد بن الحسن بن عبد الكريم النهرواني في منزلها و أنا حاضر أسمع قيل لها : أخبركم الشيخ أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن محمد النعالي فأقرت به ، و قالت : نعم . قال : حدثنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن محمد بن رزقويه البزار ، أخبرنا أبو علي إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن صالح الصغار ، حدثنا عبد الله بن أيوب المخرمي ، حدثنا أبو بدر شجاع بن الوليد السكوني ، عن زياد بن خيثمة عن نعيم بن أبي هند ، عن ربعي بن خراش عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : خيرت بين الشفاعة و نصف أمتي فاخترت الشفاعة أترونها للمتقين لا و لكنها للخاطئين المتلوثين ؟ .
و خرج ابن ماجه قال : حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا صدقة بن خالد حدثنا ابن جابر قال سمعت سليم بن عامر يقول ، سمعت عوف بن مالك الأشجعي يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أتدرون ما خيرني ربي الليلة ؟ قلنا : الله و رسوله أعلم . قال : إنه خيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة و بين الشفاعة فاخترت الشفاعة . قلنا : يا رسول الله ادع الله أن يجعلنا من أهلها . قال : هي لكل مسلم و ما الخبر العجيب الذي وعدنا بذكره فذكره الكلاباذي أبو بكر محمد بن إبراهيم في بحر الفوائد له ، حدثنا أبو النصر محمد بن إسحاق الرشادي قال ، حدثنا أبو بكر محمد بن عيسى بن زيد الطرسوسي قال ، حدثنا نعيم بن حماد قال ، حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان عن أبيه عن أبي قلابة قال : كان لي ابن أخ يتعاطى الشراب فمرض فبعث إلي ليلا : أن ألحق بي فأتيته فرأيت أسودين قد دنوا من ابن أخي فقلت : إنا لله هلك ابن أخي فاطلع أبيضان من الكوة التي في البيت ، فقال أحدهما لصاحبه : انزل إليه فلما نزل تنحى الأسودان فجاء فشم فاه ، فقال ما أرى فيه ذكراً ، ثم شم بطنه فقال ما أرى فيه صوماً ، ثم شم رجليه فقال ما أرى فيهما صلاة ، فقال له صاحبه : إنا لله و إنا إليه راجعون رجل من أمة محمد صلى الله عليه و سلم ليس له من الخير شيء ويحك عد فانظر فعاد فشم فاه فقال ما أرى فيه ذكراً ، ثم عاد فشم بطنه فقال ما رأى فيه صوماً ثم عاد فشم رجليه فقال ما أرى فيهما صلاة ، فقال : ويحك رجل من أمة محمد صلى الله عليه و سلم ليس معه من الخير شيء اصعد حتى أنزل أنا ، فنزل الآخر فشم فاه فقال ما أرى فيه ذكراً ، ثم شم بطنه فقال ما أرى فيه صوماً ، ثم شم رجليه فقال ما أرى فيهما صلاة ، قال : ثم عاد فأخرج طرف لسانه فشم لسانه فقال : الله أكبر تكبيرة في سبيل الله يريد بها وجه الله بإنتاكية قال ، ثم فاضت نفسه و شممت في البيت رائحة المسك ، فلما صليت الغداة قلت لأهل المسجد : هل لكم في رجل من أهل الجنة ؟ و حدثتهم حديث ابن أخي ، فلما بلغت ذكر إنتاكية قالوا ليست بإنتاكية هي إنطاكية قلت لا و الله لا أسمتيها إلا كما سماها الملك .
قال علماؤنا : فهذا أنجته تكبيرة أراد بها وجه الله تعالى ، و هذه التكبيرة كانت سوى الشهادة التي هي شهادة الحق التي هي شهادة الإيمان بالله تعالى كما قررناه ، فشفاعة النبي صلى الله عليه و سلم و الملائكة و النبيين و المؤمنين لمن كان له عمل زائد على مجرد التصديق ، و من لم يكن معه من الإيمان خير كان من الذين يتفضل الله عليهم فيخرجهم من النار فضلاً و كرماً وعداً منه حقاً و كلمة صدقاً إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء فسبحان الرؤوف لأبياته بعباده الموفي بعهده .
فصل : قلت : جاء في حديث أبي سعيد الخدري قال : فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتيم و في حديث أبي هريرة رضي الله عنه يكتب على جباههم عتقاء الرحمن و هذا تعارض .
و وجه الجمع بين الحديث أن يكون بعضهم سيماهم في وجوههم و بعضهم سيماهم في رقابهم ، و قد جاء في حديث جابر و فيه بعد إخراج الشافعين ، ثم يقول الله تبارك و تعالى أنا الله أخرج بعلمي و رحمتي فيخرج أضعاف ما خرجوا و أضعافهم ، و يكتب في رقابهم عتقاء الله عز و جل فيدخلون الجنة فيسمون فيها بالجهنميين .
قلت : و قد يعبر بالرقبة عن جملة الشخص قال الله تعالى فتحرير رقبة و قال عليه السلام و لم ينس حق الله في رقابها و لا ظهورها . و قد تعبر العرب بالرقاب عن جملة المال قال الشاعر :
غمر الرداء إذا تبسم ضاحكاً علقت لضحكته رقاب المال
فيحتمل أن يكون المعنى في حديث أبي سعيد و جابر رضي الله عنهما فيخرجون اللؤلؤ يعرف أهل الجنة أشخاصهم بالخواتيم المكتوبة على جباههم كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه و لا تعارض على هذا ، و الله أعلم .
فصل : إن قال قائل لم سألوا محو ذلك الاسم عنهم و هو اسم شريف لأنه سبحانه أضافه إليه ، كما أضاف الأسماء الشريفة فقال : نبيي و بيتي و عرشي و ملائكتي ، و قد جاء في الخبر : إن المتحابين في الله مكتوب على جباههم هؤلاء المتحابون في الله و لم يسألوه محوه ؟ قيل : إنما سألوا ذلك بخلاف المتحابين في الله تعالى لأنهم أنفوا أن ينسوا إلى جهنم التي هي دار الأعداء و استحيوا من إخوانهم لأجل ذلك ، فلما من عليهم بدخول الجنة أرادوا كمال الامتنان بزوال هذه النسبة عنهم . و قد روي مرفوعاً : إنهم إذا دخلوا الجنة قال أهل الجنة هؤلاء الجهنميون فعند ذلك يقولون إلهنا لو تركتنا في النار كان أحب إلينا من العار ، فيرسل الله ريحاً من تحت العرش يقال لها المثيرة فتهب على وجوههم فتمحي الكتابة و تزيدهم بهجة و جمالاً و حسناً .
أخبرنا الشيخ الراوية أبو محمد عبد الوهاب عرف بابن رواحة قرأت عليه ، قال قرئ على الحافظ السلفي و أنا أسمع قال : أخبرنا الحاجب أبو الحسن العلاف ، أخبرنا أبو القاسم بن بشران ، أخبرنا الآجري أبو بكر محمد بن الحسين ، حدثنا أبو علي الحسن بن محمد بن سعيد الأنصاري ، حدثنا علي بن مسلم الطوسي ، حدثنا مروان بن معاوية الفزاري قال : حدثني عمرو بن رفاعة الربعي ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن أهل النار الذين هم أهلها لا يموتون فيها و لا يحيون و أهلها الذين يخرجون منها إذا أسقطوا فيها كانوا فحماً ، حتى يأن الله فيخرجهم فيلقيهم على نهر يقال له الحياة أو الحيوان ، فيرش أهل الجنة عليهم الماء فينبتون ثم يدخلون الجنة يسمون الجهنميين ، ثم يطلبون من الرحيم عز و جل فيذهب ذلك الاسم عنهم و يلحقون بأهل الجنة . و أما سيماء المتحابين فعلامة شريفة و نسبة رفيعة فلذلك لم يسألوا محوها و لا طلبوا زوالها و إزالهتا و الله أعلم .
فإن قيل : ففي هذا ما يدل على أن بعض من يدخل الجنة قد يلحقه تنغيص ما ، و الجنة لا تنغيص فيها و لا نكد .
قيل له : هذه الأحاديث تدل على ذلك و أن ذلك يلحقهم عند دخول الجنة ثم يزول ذلك الاسم عنهم : و قد مثل بعض علمائنا هذا الذي أصاب هؤلاء بالبحر تقع فيه النجاسات أنه لاحكم لها كذلك ما أصاب هؤلاء بالنسبة إلى أهل الجنة ، و هو تشبيه حسن .
قلت : و قد يلحق الجميع خوف ما عند ذبح الموت على الصراط على ما يأتي : و بعده يكونون آمنين مسرورين قد زال عنهم كل متوقع ، و الله أعلم .
فصل : إن قال قائل : كيف يشفع القرآن و الصيام و إنما ذلك عمل العاملين ؟ قيل له : و قد تقدم هذا المعنى و نزيده وضوحاً ، فنقول أنا الذي أسهرت ليلك و أظمأت نهارك خرجه ابن ماجه في سننه من حديث بريدة و إسناده صحيح ، فقوله : يجيء القرآن أي ثواب قارئ القرآن .
و قد جاء في صحيح مسلم من حديث النواس بين سمعان الكلابي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : يؤتى بالقرآن يوم القيامة و أهله الذين كانوا يعملون به تتقدمه سورة البقرة و آل عمران و ضرب لهما رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاثة أمثال ما نستيهن بعد قال كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما .
قال علماؤنا فقوله تحاجان عن صاحبهما أي يخلق الله من يجادل عنه بثوابهما ملائكة كما جاء في بعض الحديث أنه من قرأ شهد الله أنه لا إله إلا هو و الملائكة خلق الله سبعين ألف ملك يستغفرون إلى يوم القيامة .
قلت : و كذلك يخلق الله من ثواب القرآن و الصيام ملكين كريمين ، فيشفعان له و كذلك إن شاء الله سائر الأعمال الصالحة ، كما ذكره ابن المبارك في دقائقه : أخبرنا رجل عن زيد بن أسلم قال : بلغني أن المؤمن يتمثل له عمله يوم القيامة في أحسن صورة و أحسن ما خلق الله وجهاً و ثياباً و أطيبه ريحاً ، فيجلس إلى جنبه كلما أفزعه شيء أمنه و كلما تخوف شيئاً هون عليه ، فيقول له : جزاك الله من صاحب خيراً من أنت ؟ فيقول : أما تعرفني و قد صحبتك في قبرك و في دنياك أنا عملك كان و الله حسناً . فلذلك تراني حسناً و كان طيباً فلذلك تراني طيباً . تعال فاركبني فطال ما ركبتك في الدنيا و هو قوله تعالى : و ينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم الآية . حتى يأتي به إلى ربه عز و جل فيقول يا رب إن كل صاحب عمل في الدنيا قد أصاب في عمله ، و كل صاحب تجارة و صانع قد أصاب في تجارته غير صاحبي هذا قد شغل في نفسه فيقول الله تعالى : فما تسأل ؟ فيقول المغفرة و الرحمة أو نحو هذا فيقول : فإني قد غفرت له ، ثم يكسى حلة الكرامة و يجعل عليه تاج الوقار فيه لؤلؤة تضيء من مسيرة يومين ثم يقول : يا رب إن أبويه قد شغل عنهما و كل صاحب عمل و تجارة قد كان يدخل على أبويه من عمله فيعطى أبويه مثل ما أعطى .
و يتمثل للكافر عمله في أقبح ما يكون صورة و أنتن رائحة و يجلس إلى جنبه كلما أفزعه شيء زاده ، و كلما تخوف شيئاً زاده خوفاً منه ، فيقول : بئس الصاحب أنت و من أنت ؟ فيقول : أما تعرفني ؟ فيقول : لا . فيقول : أنا عملك كان قبيحاً فلذلك تراني قبيحاً و كان منتناً ، فلذلك تراني منتناً فطأطئ رأسك أركبك فطالما ركبتني في الدنيا فذلك قوله تعالى : ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة .
قلت : مثل هذا لا يقاب من جهة الرأي ، و معناه يستند من حديث قيس بن عاصم المنقري أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إنه لا بد لك يا قيس من قرين يدفن معك و هو حي و تدفن معه و أنت ميت ، فإن كان كريماً أكرمك و إن كان لئيماً أسلمك ، ثم لا يحشر إلا معك و لا تبعث إلا معه و لا تسأل إلا عنه ، فلا تجعله إلا صالحاً فإن كان صالحاً فلا تأنس إلا به ، و إن كان فاحشاً فلا تستوحش إلا منه و هو فعلك.
و ذكر أبو الفرج بن الجوزي في كتاب روضة المشتاق ، و الطريق إلى الملك الخلاق قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يؤتى يوم القيامة بالتوبة في صورة حسنة و رائحة طيبة فلا يجد رائحتها و لا يرى صورتها إلا مؤمن فيجدون لها رائحة و أنساً ، فيقول الكافر و العاصي المصر : ما لنا ماوجدنا ماوجدتم و لا رأينا ما رأيتم فتقول التوبة : طال ما تعرضت لكم في الدنيا فما أردتموني فلو كنتم قبلتموني لكنتم اليوم وجدتموني فيقولون : نحن اليوم نتوب فينادي مناد من تحت العرش : ههيات ذهبت أيام المهلة و انقضى زمان التوبة ، فلو جئتموني بالدنيا و ما اشتملت عليه ما قبلت توبتكم و لا رحمت عبرتكم ، فعند ذلك تنأى التوبة عنهم و تبعد ملائكة الرحمة عنهم ، و ينادي مناد من تحت العرش : يا خزنة النار هلموا إلى أعداء الجبار و هذا بين فما ذكرناه و بالله توفيقنا ، و الله أعلم .