باب منه في صفة أهل الجنة و أهل النار
 
مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ، و نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة و لا يجدن ريحها ، و إن ريحها ليوجد من مسيرة كذا و كذا قال الحافظ ابن دحية أبو الخطاب الرواية بالياء بلا خلاف و تحكم أبو اليد الكتاني فرواه بالثناء المثلثة و هي المنتصبة و هذا خطأ منه و تصحيف . و خرجه مسلم أيضاً عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير .
فصل : للعلماء في تأويل هذا الحديث و جهان :
أحدهما : أنها مثلها في الخوف و الهيبة و الطير أكثر الحيوانات خوفاً حتى قالوا أحذرمن غراب ، و قد غلب الخوف على كثير من السلف حتى انصدعت قلوبهم فماتوا .
الثاني : أنه مثلها في الضعف و الرقة كما جاء في الحديث الآخر في أهل اليمن هم أرق قلوباً و أضعف أفئدة .
قلت : و يحتمل وجهاً ثالثاً أنها مثلها خالية من كل ذنب سليمة من كل عيب لا خبرة لهم بأمور الدنيا ، كما روي عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أكثر أهل الجنة البله و هو حديث صحيح أي البله عن معاصي الله و الله أعلم .
قال الأزهري : الأبله في كلامهم على وجوه : يقولون عيش أبله إذا كان ناعماً و منه أخذ بلهنية العيش . قال بعضهم : و طالما عشت في بلهنية .
و الأبله الذي لا عقل له ، و الأبله الذي طبع على الخير و هو غافل عن الشر لا يعرفه ، و قال هذا هو المراد بالحديث .
و قال العتبي : البله هم الذين غلب عليهم سلامة الصدور و حسن الظن بالناس و أنشد :
و لقد لهوت بطفلة ميالة بلهاء تطلعني على أسرارها
يعني أنها أغراء لا دهاء فيها :
قلت : و نظير ما ذكرناه و ما قاله هؤلاء من الكتاب قوله تعالى إلا من أتى الله بقلب سليم و قوله عليه السلام و قد سئل أي الناس أفضل ؟ قال : الصادق اللسان المخموم القلب قالوا : أما الصادق اللسان فقد عرفناه أنه ذلك فما المخموم القلب ؟ قال : النقي الذي لا غل فيه و لا حسد ذكره أبو عبيده و العرب تقول خممت البيت أي كنسته و منه سميت الخمامة و هي مثل القمامة و الكناسة .
و قال بعض العلماء في البله وجهاً آخر لطيفاً و هو : أنهم سموا بذلك لقصورهم عن كمال المعرفة بحق الله تعالى و رؤية استحقاقه العبادة و إيثار طلبه و الشغف بحبه و خدمته ، و طلب رضاه الذي هو جنة الخلد إذا وقفوا بخواطرهم على الجنة و نعيمها ، و عبدوه ، و أطاعوا في نيل درجاتها و لذاتها غافلين عن مراقبة جلاله و ملاحظة كماله بعكوف همهم على نيل نعمه و أفضاله ، فهم بله أيضاً بالإضافة إلى العقلاء عن الله عز و جل ذوي الألباب المقبلة على مشاهدة عظمة الله تعالى ، المتوجهين بكليتهم إليه المشغولين به عما لديه ، و لهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم في سياق قوله : أكثر أهل الجنة البله و عليون لأولي الألباب و في الخبر : أن طائفة من العقلاء بالله عز و جل تزفهم الملائكة إلى الجنة و الناس في الحساب ، فيقولون للملائكة : إلى أين تحملوننا ؟ فيقولون : إلى الجنة . فيقولون : إنكم لتحمولوننا إلى غير بغيتنا ، فتقول لهم الملائكة : و ما بغيتكم ؟ فيقولون : المقعد الصدق مع الحبيب ، كما أخبر : في مقعد صدق عند مليك مقتدر و لعل من هذا القبيل من يسأل الله الجنة إلا أن سؤاله إياها لا لها بل موافقة لمولاه لما علم أنه يحب أن يسأل من ثوابه و يستعاذ من عذابه فوافق مولاه
في إيثاره ، لا لحظ نفسه كما قال عليه السلام لأحد أصحابه الذي قال أما أنا فأقول في دعائي اللهم أدخلني الجنة و عافني من النار و لا أدري ما دندنتك و لا دندنه معاذ فقال له النبي صلى الله عليه و سلم حولها ندندن .
قلت : خرجه أبو داود في سننه و ابن ماجه أيضاً .
فصل : قال الحافظ ابن دحية أبو الخطاب : قوله صنفان من أهل النار لم أرهما الصنف فيما ذكر عن الخليل الطائفة من كل شيء . و السوط في اللغة اسم العذاب و إن لم يكن له ثم ضرب . قال الفراء .
و قال ابن فارس في المجمل السوط من العذاب النصيب ، و السوط خلط الشيء بعضه ببعض و إنما سمي سوطاً لمخالطته و إنما أراد النبي صلى الله عليه و سلم عظم السياط و خروجها عن حد ما يجوز به الضرب في التأديب ، و هذه الصفة للسياط مشاهدة عندنا بالمغرب إلى الآن و غيره .
و قوله نساء كاسيات عاريات يعني أنهن كاسيات من الثياب عاريات من الذين لانكشافهن و إبدائهن بعض محاسنهن .
و قيل : كاسيات ثياباً رقاقاً يظهر ما خلفها و ما تحتها فهن كاسيات في الظاهر عاريات و في الحقيقة .
و قيل : كاسيات في الدنيا بأنواع الزنية من الحرام و ما لا يجوز لبسه عاريات يوم القيامة ، ثم قال عليه السلام مائلات مميلات قيل : معناه زائغات عن طاعة الله تعالى و طاعة الأزواج و ما يلزمهن من صيانة الفروج و التستر عن الأجانب و مميلات يعلمن غيرهن الدخول في مثل فعلهن .
و قيل : مائلات متبخترات في مشهين مميلات يملن رؤوسهن و أعطافهن من الخيلاء و التبختر و مميلات لقلوب الرجال إليهن لما يبدين من زينتهن و طيب رائحتهن . .
و قيل : يتمشطن الميلاء و هي مشطة البغايا ، و المميلات : اللواتي يمشطن غيرهن المشة الميلاء . قال صلى الله عليه و سلم رؤوسهن كأسنمة اليخت معناه يعظمن رؤوسهن بالخمر و المقانع و يجعلن على رؤوسهن شيئاً يمسي عندهم التازة لا عقص الشعر . و الذاوئب المباح للنساء حسب ما ثبت في الصحيح عن أم سلمة قالت قلت : يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي الحديث .