باب ما جاء في شدة عذاب من أمر بالمعروف و لم يأته و نهى عن المنكر و أتاه ، و ذكر الخطباء ، و فيمن خالف قوله فعله و في أعوان الظلمة كلاب النار
 
البخاري عن أسامة بن زيد قال :سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : يجاء برجل فيطرح في النار فيطحن فيها كطحن الحمار برحاه ، فيطيف به أهل النار فيقولون : أي فلان ! ألست كنت تأمر المعروف و تنهى عن المنكر ؟ فيقول : كنت أمر بالمعروف و لا أفعله ، و أنهى عن المنكر و أفعله .
و خرجه مسلم أيضاً بمعناه عن أسامة بن زيد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار ، فتندلق أقتاب بطنه في النار فيدور كما يدور الحمار بالرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون : يا فلان ابن فلان ، مالك ؟ ألم تكن تأمر بالمعروف و تنهى عن المنكر ؟ فيقول : بلى ! كنت آمر بالمعروف و لا آتيه ، و أنهى عن المنكر و آتيه .
و خرج أبو نعيم الحافظ من حديث مالك بن دينار ، عن ثمامة ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أتيت ليلة لأسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار ، كلما قرضت ردت ، قلت من هؤلاء يا جبريل ؟ فقال : هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون و لا يفعلون ، و يقرأون كتاب الله و لا يعملون .
و ذكر ابن المبارك قال : أخبرنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد قال : سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم رأيت ليلة أسري بي رجالاً تقرض شفاههم بمقاريض من نار ، قال فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : خطباء ، أي من الذين يأمرون الناس بالبر و ينسون أنفسهم و هم يتلون الكتاب ، الآية .
قال : و أخبرنا سفيان ، عن إسماعيل ، عن الشعبي قال : يطلع قوم من أهل الجنة إلى قوم في النار ، فيقولون : ما أدخلكم النار ، و إنما دخلنا الجنة بفضل تأديبكم و تعليمكم ؟ قالوا : إن كنا نأمركم بالخير و لا نفعله .
و ذكر أبو نعيم الحافظ ، قال : حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن حنبل ، قال : حدثنا سيار بن حاتم ، قال : حدثنا جعفر بن سليمان ، عن ثابت ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله تعالى يعافي الأميين يوم القيامة ما لا يعافي العلماء . هذا حديث غريب تفرد به سيار عن جعفر ، لم نكتبه إلا من حديث أحمد بن حنبل رضي الله عنه ، قال حدثنا أحمد بن إسحاق بن حمزة ، حدثنا محمد بن علوش بن الحسين الجرجاني ، قال : حدثنا علي بن المثنى قال : حدثنا يعقوب بن خليفة أبو يوسف الأعشى ، قال حدثني محمد بن مسلم الطائفي ، قال حدثني إبراهيم بن ميسرة ، عن طاووس عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الجلاوزة و الشرط أعوان الظلمة كلاب النار ، غريب من حديث طاووس ، تفرد به محمد بن مسلم الطائفي ، عن إبراهيم بن ميسرة ، عن طاووس . الجلاوزة : جمع جلواز ، قال الجوهري : و الجلوز الشرطي ، و الجمع : الجلاوزة .
فصل : قال بعض السادة : أشد الناس حسرة يوم القيامة ثلاثة : رجل ملك عبداً فعلمه شرائع الإسلام ، فأطاع و أحسن و عصى السيد ، فإذا كان يوم القيامة أمر بالعبد إلى الجنة ، و أمر بسيده إلى النار ، فيقول عند ذلك : واحسرتاه ! وأغبناه ! أما هذا عبدي ؟ أما كنت مالكاً لمهجته و ماله ؟ و قادراً على جميع ماله ؟ فما له سعد ، و ما لي شقيت ؟ فيناديه الملك الموكل به : لأنه تأدب ، و ما تأدبت ، و أحسن ، و أسأت و رجل كسب مالاً فعصى الله تعالى في جمعه و منعه و لم يقدمه بين يديه حتى صار إلى وارثه ، فأحسن في إنفاقه و أطاع الله سبحانه في إخراجه ، و قدمه بين يديه ، فإذا كان يوم القيامة أمر بالوارث إلى الجنة ، و أمر بصاحب المال إلى النار ، فيقول : و حسرتاه ! و اغبناه ! أما هذا ما لي فما أحسنت به أحوالي و أعمالي . . فيناديه الملك الموكل به : لأنه أطاع الله ، و ما أطعت ، و أنفق لوجهه و ما أنفقت ، فسعد و شقيت . و رجل على قوماً و وعظهم فعملوا بقوله و لم يعمل ، فإذا كان يوم القيامة أمر بهم إلى الجنة ، و أمر به إلى النار ، فيقول : و احسرتاه ! و اغبناه ! أما هذا علمي ؟ فما لهم فازوا به و ما فزت ؟ و سلموا به و ما سلمت ؟ فيناديه الملك الموكل به : لأنهم عملوا بما قلت ، و ما عملت ، فسعدوا و شقيت . ذكره أبو الفرج بن الجوزي .
فصل : قال إبراهيم النخعي رضي الله عنه : إني لأكره القصص لثلاث آيات : قوله تعالى : أتأمرون الناس بالبر و تنسون أنفسكم و قوله تعالى لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون و قوله تعالى : و ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه .
قلت : و ألفاط هذه الأبيات تدل على ما ذكرناه من الأحاديث على أن عقوبة من كان عالماً بالمعروف و بالمنكر ، و بوجوب القيام بوظيفة كل واحد منهما أشد ممن لم يعلمه ، و إنما كان كذلك لأنه كالمستهين بحرمات الله ، و يستحق لأحكامه ، و هو كمن لم ينتفع بعمله .
و قد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه ، و قد تقدم .
و روى أبو أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الذين يأمرون الناس بالبر و ينسون أنفسهم يجرون قصبهم في نار جهنم ، فيقال لهم : من أنتم ؟ فيقولون : نحن الذين كنا نأمر الناس بالخير و ننسى أنفسنا .
و قوله : تندلق ، أي : تخرج ، و الاندلاق ، الخروج بسرعة ، يقال : اندلق السيف ، خرج من غمده . و روي فتنفلق ، بدل فتندلق . و الأقتاب : الأمعاء ، واحدها : قتب ، بكسر القاف . و قال الأصمعي : واحدها : قتيبة ، و يقال لها أيضاً : الأقصاب ، واحدها : قصبة ، قاله أبو عبيد .
و قد قال صلى الله عليه و سلم : رأيت عمرو بن لحى يجر قصبه في النار ، و هو أول من سيب السوائب .
قلت : إن قال قائل : قد تقدم من حديث أبي سعيد الخدري أن من ليس من أهل النار إذا دخلوها أحرقوا فيه و ماتوا ، على ما ذكرتموه في أصح القولين ، و هذه الأحاديث التي جاءت في العصاة بخلاف ، فكيف الجمع بينهما ؟ .
قيل له : الجمع ممكن . و ذلك ـ و الله أعلم ـ أن أهل النار الذين هم أهلها ، كما قال الله تعالى كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب قال الحسن : تنضجهم النار في اليوم سبعين ألف مرة ، و العصاة بخلاف هؤلاء فيعذبون و بعد ذلك يموتون .
و قد تختلف أيضاًأحوالهم في طول التعذيب بحسب جرائمهم و آثامهم . و قد قيل إنه يجوز أن يكونوا متألمين حالة موتهم ، غير أن آلام المؤمنين تكون أخف من آلام الكفار ، لأن آلام المعذبين و هم موتى أخف من عذابهم و هم أحياء ، دليله قوله تعالى : و حاق بآل فرعون سوء العذاب * النار يعرضون عليها غدوا و عشيا و يوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب فأخبر أن عذابهم إذا بعثوا أشد من عذابهم و هم موتى .
و مثله ما جاء في حديث البراء من قول الكافر : رب لا تقم الساعة ، رب لا تقم الساعة ، رب لا تقم الساعة . يرى أن ما يخلص له من عذاب الآخرة أشد مما هو فيه ، و قد يكون ما جاء في الخطباء هو عذابهم في القبور ، في أعضاء مخصوصة كغيرهم ، كما جاء في حديث سمرة الطويل على ما تقدم . إلا أن قوله في حديث أسامة بن زيد يوم القيامة يدل على غير ذلك . و قد يحتمل أن يجمع لهم الأمران لعظم ما ارتكبوه من مخالفة قولهم فعلهم ، و نعوذ بالله من ذلك .