باب منه و ما جاء أن أهل النار يجوعون و يعطشون و في دعائهم و إجابتهم
 
قال الله تعالى : و نادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين الآية .
البيهقي عن محمد بن كعب القرظي قال : لأهل النار خمس دعوات يجيبهم الله في أربع ، فإذا كان في الخامسة لا يتكلمون بعدها أبداً ، يقولون : ربنا أمتنا اثنتين و أحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل .
قال : فيجيبهم الله تعالى ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم ، و إن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير .
ثم يقولون : ربنا أبصرنا و سمعنا فارجعنا نعمل صالحاً إنا موقنون فيجيبهم الله تعالى : فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم ، و ذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون .
ثم يقولون : ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك و نتبع الرسل ، فيجيبهم الله تعالى أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال .
ثم يقولون : ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل فيجيبهم الله تعالى : أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر و جاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير .
ثم يقولون : ربنا غلبت علينا شقوتنا و كنا قوماً ضالين فيجيبهم اخسؤوا فيها ولا تكلمون فلا يتكلمون بعدها أبداً .
و خرجه ابن المبارك بأطول من هذا فقال : أخبرنا الحكم بن عمر بن ليلى ، حدثني عامر قال : سمعت محمد بن كعب القرظي يقول : بلغني ـ أو ذكر لي ـ أن أهل النار استغاثوا بالخزنة ، فقال الله تعالى : و قال الذين في النار لخزنة جهنم : ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب ، فسألوا يوماً واحداً يخفف عنهم فيه العذاب فردت عليهم الخزنة : أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات ؟ .
فيقولون : بلى ، فردت عليهم الخزنة : فادعوا و ما دعاء الكافرين إلا في ضلال .
قال : فلما يئسوا مما عند الخزنة نادوا مالكاً ـ و هو عليهم . و له مجلس في وسطها و جسور تمر عليهم ملائكة العذاب ، فهو يرى أقصاها كما يرى أدناها ـ فقالوا : يا مالك ليقض علينا ربك .
قال : اسألوا الموت ، فسكت عنهم لا يجيبهم ثمانين سنة .
قال : و السنة ستون و ثلاثمائة يوم ، و الشهر ثلاثون يوماً ، و اليوم كألف سنة مما تعدون .
ثم لحظ إليهم بعد الثمانين فقال : إنكم ماكثون .
فلما سمعوا منه ما سمعوا و أيسوا مما قبله ، قال بعضهم لبعض : يا هؤلاء إنه قد نزل بكم من البلاء و العذاب ما قد ترون ، فهلم فلنصبر فلعل الصبر ينفعنا كما صبر أهل الطاعة على طاعة الله فنفعهم الصبر إذ صبروا ، فأجمعوا رأيهم على الصبر فصبروا فطال صبرهم ، ثم جزعوا فنادوا : سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص أي من منجى .
قال : فقام إبليس عند ذلك فقال : إن الله وعدكم وعد الحق و وعدتكم فأخلفتكم إلى قوله : ما أنا بمصرخكم يقول : بمغن عنكم شيئاً و ما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل .
قال : فلما سمعوا مقالته مقتوا أنفسهم ، قال فنادوا لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إلى قوله : فهل إلى خروج من سبيل .
قال : فرد عليهم ذلك بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم ، و إن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير .
قال : فهذه واحدة : فنادوا الثانية فارجعنا نعمل صالحاً إنا موقنون .
قال : فيرد عليهم و لو شئنا لآتينا كل نفس هداها .
يقول : لو شئت لهديت الناس جميعاً فلم يختلف منهم أحد و لكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة و الناس أجمعين * فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم و ذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون .
قال : فهذه اثنتان ، فنادوا الثالثة : ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك و نتبع الرسل .
فيرد عليهم : أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال * و سكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلى قوله تعالى : الجبال .
قال : فهذه الثلاثة قال : ثم نادوا الرابعة : ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل .
قال فيجيبهم : أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر و جاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير .
ثم مكث عنهم ما شاء الله . ثم ناداهم : ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون ؟ .
قال : فلما سمعوا صوته قالوا : الآن يرضى ربنا ، فقالوا عند ذلك : ربنا غلبت علينا شقوتنا ـ أي : الكتاب الذي كتب علينا ـ و كنا قوماً ضالين * ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون فقال عند ذلك : اخسؤوا فيها ولا تكلمون فانقطع عند ذلك الرجاء و الدعاء و أقبل بعضهم على بعض ينبح بعضهم في وجه بعض و أطبقت عليهم .
قال : فحدثني الأزهر بن أبي الأزهر أنه لما ذكر له أن ذلك قوله تعالى هذا يوم لا ينطقون * و لا يؤذن لهم فيعتذرون .
قال ابن المبارك : و حدثنا سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة : فذكره عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو بن العاص : إن أهل جهنم يدعون مالكاً فلا يجيبهم أربعين عاماً ثم يرد عليهم : إنكم ماكثون .
قال : هانت و الله دعوتهم على مالك ، و رب مالك .
قال : ثم يدعون ربهم . قال فيقولون ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين * ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون .
قال فسكت عنهم قدر الدنيا مرتين . قال ثم يرد عليهم : اخسؤوا فيها ولا تكلمون .
قال : فو الله ما نبس القوم بعدها بكلمة ، و ما هو إلا الزفير و الشهيق في نار جهنم ، فشبه أصواتهم بصوت الحمير . أولها زفير و آخرها شهيق ، و معنى ما نبس ما تكلم .
قال الجوهري : يقال ما نبس بكلمة ، أي ما تكلم . و ما نبس بالتشديد أيضاً ، و قال الراجز :
إن كنت غير هلك فنبس
الترمذي عن شهر بن حوشب ، عن أم الدرداء ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يلقى عن أهل النار الجوع مع ما هم فيه من العذاب فيستغيثون فيغاثون بطعام من ضريع ، لا يسمن و لا يغني من جوع ، فيستغيثون بالطعام فيغاثون بطعام ذي غصة فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالشراب ، فيستغيثون بالشراب فيرفع إليهم الحميم بكلاليب من حديد ، فإذا دنت من وجوههم شوت وجوههم فإذا دخلت بطونهم قطعت ما في بطونهم ، فيقولون : ادعوا خزنة جهنم ، فيقولون : أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات ؟ قالوا بلى ! قالوا : فادعوا و ما دعاء الكافرين إلا في ضلال قال فيقولون : ادعوا مالكاً ، فيقولون يا مالك ليقض علينا ربك قال فيجيبهم : إنكم ماكثون .
قال الأعمش : ثبت أن بين دعائهم و بين إجابة مالك إياهم ألف عام ، قال فيقولون ادعو ربكم ، فلا أحد خير من ربكم ، قال فيقولون : ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون قال فيجيبهم : اخسؤوا فيها ولا تكلمون .
قال : فعند ذلك يئسوا من كل خير ، و عند ذلك يأخذون في الزفير و الحسرة و الويل . رفعه قطبة بن عبد العزيز ، عن الأعمش ، عن شمر بن عطية ، عن شهر ، و هو ثقة عند أهل الحديث ، و الناس يوقفونه على أبي الدرداء .
و عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم عن قوله تعالى : و هم فيها كالحون قال : تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه ، و تسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته . و لسرادق النار أربعة جدر ، كثف كل جدار مسيرة أربعين سنة ، و لو أن دلوا من غسلين يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا . قال : هذا حديث صحيح غريب .
و عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : كالمهل قال : كعكر الزيت ، و إذا قربه إلى وجهه سقطت فروة وجهه . قال أبو عيسى : هذا حديث إنما نعرفه من حديث رشدين بن سعد ، و رشدين قد تكلم فيه من جهة حفظه .
قلت : وقع في هذا الحديث فروة وجهه و هو شاذ ، إنما يقال : فروة رأسه أي جلدته ، هذا هو المشهور عند أهل اللغة ، و كذا جاء في حديث أبي أمامة .
و عن أبي حجيزة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الحميم حتى يخلص إلى جوفه ، فليست ما في جوفه حتى يمرق من قدميه و هو الصهر ، ثم يعاد كما كان . قال : هذا حديث حسن صحيح غريب .
و عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : و يسقى من ماء صديد * يتجرعه قال : يقرب إلى فيه فيكرهه فإذا أدنى منه شوى وجهه و وقعت فروة رأسه ، فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره ، يقول الله تعالى : و سقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم و قال تعالى : و إن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب و ساءت مرتفقاً قال : هذا حديث غريب .
و عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قرأ هذه الآية اتقوا الله حق تقاته و لا تموتن إلا و أنتم مسلمون .
قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لو أن قطرة من الزقوم قطرت في الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم ، فكيف بمن يكون طعامه ؟ قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح . خرجه ابن ماجه أيضاً .