باب في قوله تعالى و تقول هل من مزيد
 
مسلم عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : تزال جهنم يلقى فيها و تقول هل من مزيد ؟ حتى يضع رب العزة قدمه فيها فينزوي بعضها إلى بعض ، و تقول : قط قط . و عزتك و كرمك . و لا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقاً . فيسكنهم فضل الجنة .
و في رواية أخرى من حديث أبي هريرة . فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله عليها رجله فتقول : قط قط . فهنالك تمتلئ و يزوي بعضها إلى بعض ، فلا يظلم الله خلقاً من خلقه أحداً ، و أما الجنة فإن الله ينشىء لها خلقاً .
فصل : للعلماء في قول النار : [ هل من مزيد ؟ ] تأويلان . أحدهما : وعدها ليملأنها فقال : أوفيتك ؟ فقالت : و هل من مسلك ؟ أي : قد امتلأت ، كما قال :
امتلأ الحوض و قال : قطني مهلاً رويداً قد ملأت بطني
و هذا تفسير مجاهد و غيره ، و هو ظاهر الحديث الثاني : زدني ، تقول ذلك غيظاً على أهلها و حنقاً عليهم ، كما قال تكاد تميز من الغيظ أي تنشق ، و يبين بعضها من بعض .
و قوله حتى يضع فيها قدمه ـ و في رواية أخرى . حتى يضع عليها ، و في آخرى رجله و لم يذكر فيها و لا عليها ـ فمعناه عبارة عمن تأخر دخوله في النار من أهلها ، و هم جماعات كثيرة لأن أهل النار يلقون فيها فوجاً فوجاً ، كما قال الله تعالى كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير .
و يؤيده أيضاً قوله في الحديث : لا يزال يلقى فيها . فالخرنة تنظر أولئك المتأخرين إذ قد علموهم بأسمائهم و أوصافهم ، كما روي عن ابن مسعود أنه قال : ما في النار بيت و لا سلسلة و لا مقمع و لا تابوت إلا و عليه اسم صاحبه ، فكل واحد من الخزنة ينتظر صاحبه الذي قد عرف اسمه و صفته ، فإذا استوفى كل واحد ما أمر به و ما ينتظره و لم يبق منهم أحد قالت الخزنة : قط قط ، أي حسبنا حسبنا اكتفينا اكتفينا ، و حينئذ تنزوي جهنم على ما من فيها و تنطبق ، إذ لم يبق أحد ينتظر فعبر عن ذلك الجمع المنتظر بالرجل و القدم ، لا أن الله جسم من الأجسام ، تعالى الله عما يقول الظالمون و الجاحدون علوا كبيراً .
و العرب تعبر عن جماعة و الجراد بالرجل ، فتقول جاءنا رجل من جراد و رجل من الناس ، أي جماعة منهم و الجمع : أرجل .
و يشهد لهذا التأويل قوله في نفس الحديث : و لا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله خلقاً فيسكنهم فصل الجنة ، و في الحديث تأويلات أتينا عليها في الأسماء و الصفات أشبهها ما ذكرناه . و في التنزيل أن لهم قدم صدق عند ربهم قال ابن عباس : المعنى منزل صدق ، و قال الطبري : معنى قدم صدق عند ربهم عمل صالح . و قيل : هو السابقة الحسنة ، فدل على أن القدم ليس حقيقة في الجارحة ، و الله الموفق .
قال ابن فورك و قال بعضهم: القدم خلق من خلق الله يخلقه يوم القيامة فيسميه قدماً ، و يضيفه إليه من طريق الفعل يضعه في النار فتمتلئ النار منه ، و الله أعلم .
قلت : و هذا نحو مما قلناه في الرجل . قال الشاعر :
فمر بنا رجل من الناس و انزوى إليهم من الحي اليماني أرجل
قبائل من لخم و عك و حمير على ابني نزار بالعداوة أحفل
و قال آخر :
يرى الناس أفواجاً إلى باب داره كأنهم رجلاً دباً و جراد
فيوم لإلحاق الفقير بذي الغنى و يوم رقاب بوكرت بحصاد
الدبا : الجراد قبل أن يطير ، و الله أعلم .