باب منه و ما جاء في خروج الموحدين من النار و ذكر الرجل الذي ينادي : يا حنان يا منان ، و بيان قوله تعالى : إنها عليهم مؤصدة . في عمد ممددة ، و في أحوال أهل النار
 
خرج الطبراني أبو القاسم ، قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : حدثنا محمد بن عباد المكي ، حدثنا حاتم بن إسماعيل بن بسام الصيرفي ، عن يزيد الفقير ، عن رجل ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن ناساً من أمتي يدخلون النار بذنوبهم فيكونون في النار ما شاء الله أن يكونوا ، ثم يعيرهم أهل الشرك ، فيقولون : ما نرى ما كنتم تخالفوننا فيه من تصديقكم و إيمانكم نفعكم ، فلا يبقى موحد إلا أخرجه الله من النار ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين .
و روى أبو ظلال ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن عبداً في جهنم ينادي ألف سنة : يا حنان يا منان ، فيقول الله تعالى لجبريل : إئت عبدي فلاناً ، فينطلق جبريل عليه السلام فيرى أهل النار منكبين على وجوههم ، قال فيرجع فيقول : يا رب لم أره ، فيقول الله تعالى : إنه في مكان كذا و كذا ، قال : فيأتيه فيجيء به ، فيقول له : يا عبدي ، كيف وجدت مكانك و مقيلك ؟ قال : فيقول : شر مكان ، و شر مقيل ، قال فيقول : ردوا عبدي ، قال فيقول : يا رب ما كنت أرجو أن تردني إذا أخرجتني منها . فيقول الله تعالى : دعوا عبدي .
و أبو ظلال هذا اسمه هلال بن أبي مالك القسملي يعد في البصريين .
و عن سعيد بن جبير قال : إن في النار لرجلاً ـ أظنه في شعب من شعابها ينادي مقدار ألف عام يا حنان يا منان ، فيقول رب العزة لجبريل : يا جبريل أخرج عبدي من النار ، فيأتيها فيجدها مطبقة فيرجع فيقول : يا رب إنها عليهم موصدة ، فيقول : يا جبريل ، ارجع ففكها فاخرج عبدي من النار ، فيفكها فيخرج مثل الخيال فيطرحه على ساحل الجنة حتى ينبت الله له شعراً و لحماً و دماً ، ذكره أبو نعيم .
و روى ليث عن مجاهد ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله : إنما الشافعة يوم القيامة لمن عمل الكبائر من أمتي ، الحديث و قد تقدم . و فيه بعده .
قوله : و أطولهم مكثاً من يمكث فيها مثل الدنيا منذ خلقت إلى يوم أفنيت ، و ذلك سبعة آلاف سنة .
ثم إن الله أراد أن يخرج الموحدين منها قذف في قلوب أهل الأديان فقالوا لهم : كنا و أنتم و آباؤنا جميعاً في الدينا ، فآمنتم و كفرنا و صدقتم و كذبنا ، و أقررتم و جحدنا ، فما أغنى ذلك عنكم ، نحن و أنتم اليوم فيها سواء ، تعذبون كما نعذب ، و تخلدون فيها كما نخلد ، فيغضب الله عند ذلك غضباً شديداً لم يغضب مثله من شيء فيما مضى ، و لا يغضب من شيء فيما بقي ، فيخرج أهل التوحيد منها إلى عين بين الجنة و النار و الصراط يقال لها : نهر الحياة ، فيرش عليهم من الماء فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل ، فما يلي الظل منها أخضر ، و ما يلي الشمس منها أصفر ، ثم يدخلون الجنة فيكتب على جباههم : هؤلاء عتقاء الله من النار ، إلا رجلاً واحداً يمكث فيها ألف سنة ، ثم ينادي : يا حنان يا منان ، فيبعث الله إليه ملكاً فيخوض في النار في طلبه سبعين عاماً لا يقدر عليه ، ثم يرجع فيقول : إنك أمرتني أن أخرج عبدك فلاناً من النار منذ سبعين عاماً فلم أقدر عليه ، فيقول الله تعالى : انطلق فهو في وادي كذا تحت صخرة فأخرجه ، فيذهب فيخرجه منها فيدخله الجنة .
ثم أن الجهنميين يطلبون من الله تعالى أن يمحو عنهم ذلك الاسم ، فيبعث الله ملكاً فيمحوه عن جباههم .
ثم أن يقال لأهل الجنة و من دخلها من الجهنميين : اطلعوا إلى أهل النار فيطلعون إليهم فيرى الرجل أباه و يرى جاره و صديقه ، و يرى العبد مولاه ، ثم إن الله تعالى يبعث إليهم الملائكة بأطباق من نار ، و مسامير من نار ، و عمد من نار : فتطلق عليهم بتلك الأطباق ، و تشد بتلك المسامير ، و تمد بتلك العمد فلا يبقى فيها خلل يدخل فيه روح و لا يخرج منه غم و ينساهم الرحمن على عرشه ، و يتشاغل أهل الجنة بنعيمهم ، و لا يستغيثون بعدها أبداً ، و ينقطع ، فيكون كلامهم زفيراً و شهيقاً ، فذلك قوله تعالى إنها عليهم مؤصدة * في عمد ممددة . و قال ابن مسعود : في عمد أي بعمد ، و كذا في مصحفه إنها عليهم مؤصدة بعمد .
و خرج أبو نعيم الحافظ ، عن زاذان قال : سمعت كعب الأحبار يقول : إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين و الآخرين في صعيد واحد ، فنزلت الملائكة فصاروا صفوفاً ، فيقول الله لجبريل : إئت بجهنم ، فيجيء بها تقاد بسبعين ألف زمام حتى إذا كانت من الخلائق على قدر مائة عام زفرة زفرة طارت لها أفئدة الخلائق ، ثم زفرت ثانية فلا يبقى ملك مقرب و لا نبي مرسل إلا جثاً على ركبتيه ، ثم تزفر الثالثة فتبلغ القلوب الحناجر و تذهب العقول فيفزع كل امرئ إلى عمله ، حتى إن إبراهيم الخليل يقول : بخلتي لا أسألك إلا نفسي ، و يقول موسى : بمناجاتي لا أسألك إلا نفسي و يقول عيسى : بما أكرمتني لا أسألك إلا نفسي ، لا أسألك مريم التي ولدتني ، و محمد صلى الله عليه و سلم يقول : أمتي أمتي ، لا أسألك اليوم نفسي ، إنما أسألك أمتي .
قال : فيجيبه الجليل جل جلاله : إن أوليائي من أمتك لا خوف عليهم و لا هم يحزنون ، فوعزتي و جلالي لأقرن عينك في أمتك . ثم يقف الملائكة بين يدي الله تعالى ينتظرون ما يؤمرون به ، فيقول لهم تعالى و تقدس : معاشر الزنابية ، انطلقوا بالمصرين من أهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه و سلم إلى النار ، فقد اشتد غضبي عليهم بتهاونهم بأمري في دار الدنيا ، و استخفافهم بحقي و انتهاكهم حرمي ، يستخفون من الناس و يبارزونني مع كرامتي لهم و تفضيلي إياهم على الأمم ، و لم يعرفوا فضلي و عظيم نعمتي ، فعندها تأخذ الزبانية بلحى الرجال و ذوائب النساء فينطلق بهم إلى النار ، و ما من عبد يساق إلى النار ، من غير هذه الأمة ، إلا مسود وجهه ، قد وضعت الأنكال في رجليه و الأغلال في عنقه ، إلا من كان من هذه الأمة ، فإنهم يساقون بألوانهم ، فإذا وردوا على مالك قال لهم : معاشر الأشقياء ، من أي أمة أنتم ؟ فما ورد علي أحسن وجوها منكم ! فيقولون : يا مالك ، نحن من أمة القرآن ، فيقول لهم : يا معشر الأشقياء ، أو ليس القرآن أنزل على محمد صلى الله عليه و سلم ؟ .
قال : فيرفعون أصواتهم بالنحيب و البكاء ، فيقولون : وامحمداه ! وامحمداه ! وامحمداه ! اشفع لمن أمر به إلى النار من أمتك .
قال : فينادي مالك بتهدد و انتهار : يا مالك ، من أمرك بمعاتبة أهل الشقاء و محادثتهم و التوقف عن إدخالهم العذاب ؟ يا مالك ، لا تسود وجوههم فقد كانوا يسجدون لي في دار الدنيا . يا مالك : لا تغلهم بالأغلال ، فقد كانوا يغتسلون من الجنابة . يا مالك ! ، لا تعذبهم بالأنكال ، فقد طافوا بيتي الحرام . يا مالك . لا تلبسهم القطران ، فقد خلعوا ثيابهم للإحرام . يا مالك ، مر النار لا تحرق ألسنتهم ، فقد كانوا يقرأون القرآن . يا مالك ، قل للنار تأخذهم على قدر أعمالهم ، فالنار أعرف بهم و بمقادير استحقاقهم من الوالدة بولدها . فمنهم من تأخذه النار إلى كعبيه ، و منهم من تأخذه النار إلى ركبتيه ، و منهم من تأخذه النار إلى سرته ، و منهم من تأخذه إلى صدره ، و منهم دون ذلك . فإذا انتقم الله عز و جل منهم على قدر كبائرهم و عتوهم و إصرارهم ، فتح بينهم و بين المشركين باباً فرأوهم في الطبق الأعلى من النار ، لا يذوقون فيها برداً و لا شراباً ، يبكون و يقولون : يا محمداه ، ارحم من أمتك الأشقياء و اشفع لهم ، فقد أكلت النار لحومهم و دماءهم و عظامهم ، ثم ينادون : يا رباه ، يا سيداه ، ارحم من لم يشرك بك في دار الدنيا ، و إن كان قد أساء و أخطأ و تعدى ، فعندها يقول المشركون : ما أغنى عنكم إيمانكم بالله و بمحمد شيئاً ، فيغضب الله تعالى لذلك ، فعندها يقول : يا جبريل انطلق فاخرج من في النار من أمة محمد ، فيخرجهم ضبائر قد امتحشوا فيلقيهم على نهر على باب الجنة يقال له نهر الحياة ، فيمكثون حتى يعودوا أنضر ما كانوا ، ثم يأمر بإدخالهم الجنة مكتوباً على جباههم : هؤلاء الجهنميون عتقاء الرحمن من أمة محمد صلى الله عليه و سلم فيعرفون من بين أهل الجنة بذلك ، فيتضرعون إلى الله عز و جل أن يمحو عنهم تلك السمة فيمحوها الله تعالى عنهم ، فلا يعرفون بها بعد ذلك أبداً .
و ذكر أبو نعيم الحافظ عن أبي عمران الجوني قال : بلغنا أنه إذا كان يوم القيامة أمر الله بكل جبار و كل شيطان و كل من يخاف الناس شره في الدنيا ، فيوثقون بالحديد ، ثم أمر بهم إلى النار ، ثم أوصدها عليهم ، أي أطبقها ، فلا و الله لا تستقر أقدامهم على قرارها أبداً ، لا و الله ما ينظرون إلى أديم سماء أبداً : و لا و الله لا تلتقي جفونهم على غمض نوم ، و لا و الله لا يذوقون فيها بارد شراب أبداً .
قال : ثم يقال لأهل الجنة : يا أهل الجنة افتحوا اليوم الأبواب ، فلا تخافوا شيطاناً ، و لا جباراً ، و كلوا اليوم و اشربوا بما أسلفتم في الأيام الخالية ، قال أبو عمران : إذاً هي و الله يا إخوتاه أيامكم هذه .
فصل : قوله : فيرش عليهم من الماء فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل . و جاء في حديث أبي سعيد الخدري المتقدم ، ثم يقال : يا أهل الجنة أفيضوا عليهم من الماء ، و المعنى واحد . و النبات معروف و هو خروج الشيء : و الحبة بكسر الحاء بذور البقول ، و حميل السيل : ما احتمله من طين و غشاء ، فإذا اتفق أن يكون فيه حبة فإنها تنبت في يوم و ليلة ، و هي أسرع نابتة نباتاً ، فشبه النبي صلى الله عليه و سلم سرعة نبات أجسادهم بسرعة نبات تلك الحبة ، و في التنزيل : ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة و تقدم الكلام في نحو ذلك الاسم .
و قوله : و أطولهم مكثاً من يمكث فيها مثل الدنيا منذ خلقت إلى يوم أفنيت ، و ذلك سبعة آلاف سنة .
اختلف في انقضاء هذا العالم ، و في مدة الدنيا ، و أكثر المنجمون في ذلك فقال بعضهم : عمر الدنيا سبعة آلاف بعدد النجوم السيارة لكل واحد ألف سنة و قال بعضهم : بأنها إثنتا عشر ألف بعدد البروج ، لكل برج ألف سنة . و قال بعضهم : ثلاثمائة و ستون ألف سنة بعدد درجات الفلك ، لكل درجة ألف سنة.
و قوله : إلا رجلاً واحداً يمكث فيها ألف سنة ، ثم ينادي : يا حنان يا منان . الحنان الذي يقبل على من أعرض عنه ، و المنان الذي يبدأ بالنوال قبل السؤال ، سبحانه و تعالى لا إله إلا هو . روي ذلك عن علي رضي الله عنه . و قد ذكرنا في ذلك في كتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى ، و صفاته العليا مستوفى و الحمد لله . و قد تقدم الكلام في نحو ذلك الاسم عنهم ، فلا معنى لإعادته .
و قوله : و ينساهم على عرشه ، أي يتركهم في العذاب ، كما قال نسوا الله فنسيهم أي تركوا عبادته و توحيده فتركهم . و العرش في كلام العرب له محامل كثيرة قد أتينا عليها في كتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى منها الملك كما قال زهير :
تداركتما عبساً و قد ثل عرشها و ذبيان إذ زلت بأقدامها النعل
و قال آخر :
بعد ابن جفنة ، و ابن هاتاك عرشـ و الحارثين يؤملون فلاحاً
و تقول العرب : ثل عرش فلان ، إذا ذهب عزه و سلطانه و ملكه ، فالمعنى و ينساهم الرحمن على عرشه ، أي : بما هو عليه من الملك و السلطان و العظمة و الجلال ، لا يعبأ بهم و لا يلتفت إليهم لما حكم به في الأزل عليهم من خلودهم في النار ، و لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط .
و أجمع أهل السنة على أن أهل النار مخلدون فيها غير خارجين منها : كإبليس ، و فرعون ، و هامان ، و قارون ، و كل من كفر و تكبر و طغى ، فإن له جهنم لا يموت فيها و لا يحيا . و قد وعدهم الله عذاباً أليماً ، فقال عز و جل كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب . و أجمع أهل السنة أيضاً على أنه لا يبقى فيها مؤمن و لا يخلد إلا كافر جاحد ، فاعلم .
قلت : و قد زل هنا بعض من ينتمي إلى العلم و العلماء فقال : إنه يخرج النار كل كافر و مبطل و جاحد و يدخل الجنة ، فإنه جائز في العقل أن تنقطع صفة الغضب فيعكس عليه فيقال : و كذلك جائز في العقل أن تنقطع صفة الرحمة فيلزم عليه أن يدخل الأنبياء و الأولياء النار يعذلون فيها ، و هذا فاسد مردود بوعده الحق و قوله الصدق ، قال الله تعالى في حق أهل الجنان : عطاء غير مجذوذ أي : غير مقطوع ، و قال و ما هم منها بمخرجين و قال : لهم أجر غير ممنون و قال : لهم فيها نعيم مقيم * خالدين فيها أبدا و قال في حق الكافرين و لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط و قال : فاليوم لا يخرجون منها و لا هم يستعتبون و هذا واضح ، و بالجملة فلا مدخل للمعقول فيما اقتطع أصله الإجماع و الرسول ، و من لم يجعل الله له نوراً فما له من نور .