باب ما جاء في غرف الجنة و لمن هي ؟
 
قال الله تعالى : لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية الآية . و قال : إلا من آمن و عمل صالحاً فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا و هم في الغرفات آمنون و قال : أولئك يجزون الغرفة بما صبروا .
و روى مسلم عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغائر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم ، قالوا يا رسول الله : تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم ؟ قال : بلى و الذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله و صدقوا المرسلين .
و خرج الترمذي الحكيم ، أخبرنا صالح بن محمد قال : حدثنا سليمان بن عمرو عن أبي حازم عن سهل بن سعد عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى أولئك يجزون الغرفة بما صبروا و قوله هم في الغرفات آمنون قال : الغرفة من ياقوتة حمراء أو زبرجدة خضراء أو درة بيضاء ليس فيها فصم و لا وصل ، و إن أهل الجنة ليتراءون الغرفة منها كما تتراءون الكوكب الشرقي أو الغربي في أفق السماء ، و إن أبا بكر و عمر منهم و أنعما .
قال : و حدثنا صالح بن عبد الله و قتيبة بن سعيد و علي بن حجر قالوا : حدثنا خلف بن خليفة ، عن حميد الأعرج ، عن عبد الله بن الحارث ، عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن المتحابين في الله تعالى لعلى عمود من ياقوتة حمراء في رأس العمود سبعون ألف غرفة يضيء حسنهم أهل الجنة كما تضيء الشمس أهل الدنيا . يقول أهل الجنة بعضهم لبعض : انطلقوا بنا حتى ننظر إلى المتحابين في الله عز و جل فإذا أشرفوا عليهم أضاء حسنهم أهل الجنة كما تضيء الشمس أهل الدنيا . عليهم ثياب خضر من سندس . مكتوب على جباههم هؤلاء المتحابون في الله عز و جل .
و ذكر الثعلبي من حديث عمران بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن أهل عليين لينظرون إلى الجنة فإذا أشرف رجل من أهل عليين أشرقت الجنة لضياء وجهه فيقولون ما هذا النور ؟ فيقال أشرف رجل من أهل عليين الأبرار أهل الطاعة و الصدق .
و روى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن أهل الغرف ليتراءون عليين كما تتراءون الكوكب الدري في أفق السماء و إن أبا بكر و عمر منهم و أنعما و ذكره الثعلبي .
الترمذي عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن في الجنة لغرفاً يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها ، فقام إلبه أعرابي فقال : لمن هي يا رسول الله ؟ قال : لمن أطاب الكلام و أطعم الطعام و أدام الصيام و صلى لله بالليل و الناس نيام .
و ذكر أبو نعيم الحافظ من حديث محمد واسع ، عن الحسن ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم فقال : ألا أخبركم بغرف الجنة ؟ غرفاً من ألوان الجواهر يرى ظاهرها من باطنها و باطنها من ظاهرها ، فيها من النعيم و الثواب و الكرامات ما لا أذن سمعت ، و لا عين رأت ، فقلنا : بأبينا أنت و أمنا يا رسول الله ، لمن تلك ؟ فقال : لمن أفشى السلام ، و أدام الصيام ، و أطعم الطعام ، و صلى و الناس نيام ، فقلنا : بأبينا أنت و أمنا يا رسول الله ، ومن يطيق ذلك ؟ فقال : أمتي تطيق ذلك ، و سأخبركم من يطيق ذلك ، من لقى أخاه المسلم فسلم عليه فقد أفشى السلام ، و من أطعم أهله و عياله من الطعام حتى يشبعم فقد أطعم الطعام ، و من صام رمضان و من كل شهر ثلاثة أيام فقد أدام الصيام ، و من صلى العشاء الأخيرة في جماعة فقد صلى والناس نيام : اليهود و النصارى و المجوس . فصل : اعلم أن هذه الغرف مختلفة في العلو و الصفة بحسب اختلاف أصحابها في الأعمال ، فبعضها أعلى من بعض و أرفع ، و قوله الغائر من المشرق أو المغرب يروى بالياء اسم فاعل ، من غار . و قد روى مسلم في غير الغارب بتقديم الراء ، و المعنى واحد . و روي الغابر بالياء بواحدة ، ومعناه الذاهب أو الباقي ، فإن غبر من الأضداد ، يقال غير إذا ذهب ، و غير إذا بقي ، و يعني به أن الكوكب حالة طلوعه و غروبه بعيد عن الأبصار فيظهر صغيراً لبعده ، و قد بينه بقوله من المشرق أو المغرب . و قد روي العازب بالعين المهملة و الزاي ، أي البعيد و معنيها كلها متقاربة المعنى .
و قوله : و الذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله و صدقوا المرسلين و لم يذكر عملاً و لا شيئاً سوى الإيمان و التصديق للمرسلين ، و ذلك ليعلم أنه عنى الإيمان البالغ و تصديق المرسلين من غير سؤال آية و لا تلجلج ، و إلا فكيف تنال الغرفات بالإيمان و التصديق الذي للعامة ، و لو كان كذلك كان جميع الموحدين في أعالي الغرفات و أرفع الدررجات ، و هذا محال ، و قد قال الله تعالى أولئك يجزون الغرفة بما صبروا و الصبر بذل النفس الثبات له وقوفاً بين يديه بالقلوب عبودية و هذه صفة المقربين . و قال في آية أخرى و ما أموالكم و لا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحاً فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون فذكر شأن الغرفة و أنها لا تنال بالأموال و الأولاد ، و إنما تنال بالإيمان و لعمل الصالح ، ثم بين لهم جزاء الضعف و أن محلهم الغرفات ، يعلمك أن هذا إيمان طمأنينة و تعلق قلب مطمئناً به في كل ما نابه ، و بجميع أموره و أحكامه ، فإذا عمل عملاً صالحاً فلا يخلطه بضده و هو الفاسد . فلا يكون العمل الصالح الذي لا يشوبه فساد إلا مع إيمان بالغ مطمئن صاحبه بمن آمن و بجميع أموره و أحكامه ، و المخلط ليس إيمانه و عمله هكذا . فلهذا كانت منزلته دون غيره .
قلت : ذكره الترمذي الحكيم رحمة الله عليه و هذا واضح بين ، و قد قال تعالى إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا و قال : ومزاجه من تسنيم * عينا يشرب بها المقربون فلما باين بين الأبرار و المقربين في الشراب على ما يأتي بيانه ، باين بينهم في المنازل و الدرجات و أعالي الغرفات حسب ما باين بينهم في الأعمال الصالحات بالاجتهاد في الطاعات . قال الله تعالى : كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين فيجتهد الإنسان أن يكون من الأبرار المقربين ليكون في عليين و أصحاب عليين جلساء الرحمن ، و هم أصحاب المنابر من النور في المقعد الصدق و قال تعالى : فأما من أوتي كتابه بيمينه إلى قوله فهو في عيشة راضية * في جنة عالية فأصحاب اليمين في علو الجنان أيضاً و جميعها عوالي و جنات المقربين جميعها علالي و إحداهن عليه كقول الشاعر:
ألا يا عين ويحك أسعديني بغزر الدمع في ظلم الليالي
لعلك في القيامة أن تفوزي بخير الدار في تلك العلالي