باب أول الناس يسبق إلى الجنة الفقراء
 
ابن المبارك قال : أخبرنا عبد الوهاب بن الورد قال : قال سعيد بن المسيب جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : أخبرني يا رسول الله بجلساء الله يوم القيامة . قال : هم الخائفون الخاضعون المتواضعون الذاكرون الله كثيراً قال يا رسول الله : أفهم أول الناس يدخلون الجنة ؟ قال : لا قال : فمن أول الناس يدخل الجنة ؟ قال : الفقراء يسبقون الناس إلى الجنة فيخرج إليهم منها ملائكة فيقولون : ارجعوا إلى الحساب فيقولون على ما نحاسب و الله ما أفيض علينا من الأموال في الدنيا شيء فنقبض فيها و نبسط و ما كنا أمراء نعدل و نجوز ، و لكنا جاءنا أمر الله فعبدناه حتى أتانا اليقين فيقال : ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين .
و روي عن النبي أنه قال : اتقوا الله في الفقراء فإنه يقول يوم القيامة أين صفوتي من خلقي ؟ فتقول من هم يا ربنا ؟ فيقول : الفقراء الصابرون الراضون بقدري أدخلوهم الجنة . قال فيدخلون الجنة يأكلون و يشربون و الأغنياء في الحساب يترددون .
الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام من حديث الأعمش سليمان عن عطية العوفي عن أبي سعيد و قال فيه حديث حسن غريب من هذا الوجه .
و عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام نصف يوم هذا حديث حسن غريب حسن صحيح . و في طريق أخرى : يدخل فقراء المسلمين قبل الأغنياء بنصف يوم و هو خمسمائة عام : قال : حديث حسن صحيح .
و روي عن أبي الدرداء قال : حدثني عمر بن الخطاب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم . قيل له : يا رسول الله و ما نصف يوم ؟ قال : خمسمائة سنة قيل له : فكم السنة من شهر ؟ قال خمسمائة شهر قيل له : فكم الشهر من يوم ؟ قال : خمسمائة يوم قيل له : فكم اليوم ؟ قال : خمسمائة مما تعدون ذكره العقبي في عيون الأخبار له .
و عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : يدخل المسلمين الجنة قبل الأغنياء بأربعين خريفاً قال : هذا حديث حسن صحيح ، و خرجه من حديث أنس أيضاً ، و قال فيه حديث غريب .
و في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو قال : سمعت صلى الله عليه و سلم يقول : إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفاً .
فصل : قال المؤلف رحمه الله : اختلاف هذه الأحاديث يدل على أن الفقراء مختلفوا الحال و كذلك الأغنياء ، و قد تقدم حديث أبي بكر بن أبي شيبة أول ثلاثة يدخلون الجنة : و لا تعارض و الحمد لله ، فإن الحديثين مختلفا المعاني ، و قد اختلف في أي فقراء هم السابقون و في مقدار المدة التي بها يسبقون و يرتفع الخلاف عن الموضع الأول بأن يرد مطلق حديث أبي هريرة إلى مقيد روايته الأخرى ، و كذلك حديث جابر يرد أيضاً إلى حديث عبد الله بن عمرو ، و يكون المعنى فقراء المسلمين المهاجرين إذ المدة فيها أربعين خريفاً ، و يبقى حديث أبي سعيد الخدري في المدة بخمسمائة عام في فقراء المهاجرين ، و كذلك حديث أبي الدرداء في فقراء المسلمين بنصف يوم خمسمائة سنة .
و وجه الجمع بينهما أن يقال إن سباق الفقراء من المهاجرين يسبقون سباق الأغنياء منهم بأربعين خريفاً و غير سباق الأغنياء بخمسمائة عام ، و قد قيل : إن حديث أبي هريرة و أبي الدرداء و جابر يعم جميع فقراء قرون المسلمين ، فيدخل الجنة سباق فقراء كل قرن قبل غير السباق من أغنيائهم بخمسمائة عام على حديث أبي هريرة و أبي الدرداء . و قيل : السباق بأربعين خريفاً على ما تقدم من حديث جابر و الله أعلم .
فصل : قلت : و قد احتج بأحاديث هذا الباب من فضل الفقراء على الغني و قد اختلف الناس في هذا المعنى و طال فيه الكلام بينهم حتى صنفوا فيه كتباً و أبواباً ، و احتج كل فريق لمذهبه في ذلك و الأمر قريب .
و قد سئل أبو علي الدقاق : أي الوصفين أفضل : الغنى أو الفقر ، فقال : الغنى ؟ لأنه الحق و الفقر وصف الخلق ، و وصف الحق أفضل من وصف الخلق ، قال الله تعالى يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله و الله هو الغني الحميد و بالجملة : فالفقير بالحقيقة العبد و إن كان له مال و إنما يكون غنياً إذا عول على مولاه و لم ينظر إلى أحد سواه ، فإن تعلق باله بشيء من الدنيا و رأى نفسه أنه فقير إليه فهو عبده . قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : تعس عبد الدينار الحديث خرجه البخاري و غيره ، و قد كتبناه عليه و بيناه و الحمد لله . و إنما شرف العبد افتقاره إلى مولاه و عزه و خضوعه له .
و لقد أحسن من قال :
‌ إذا تذللت الرقاب تواضعاً منا إليك فعزها في ذلها ‌‌‌
فالغني المعلق الباب بالمال الحريص عليه الراغب فيه هو الفقير حقيقة و خادمه الذي يقول ما أبالي به و لا لي رغبة فيه ، و إنما هي ضرورة العيش فإذا وجدتها فغيرها زيادة تشغل عن الإرادة فهو الغني حقيقة . قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ليس ني عن كثرة العرض إنما الغني غنى النفس خرجه مسلم و أخذ عثمان بن سعدان الموصلي هذا المعنى فقال :
تقنع بما يكفيك واستعمل الرضى فإنك لا تدري أتصبح أم تمسي
فليس الغنى عن كثرة المال . إنما الغنى و الفقر من قبل النفس و قد أشبعنا القول في هذا في كتاب قمع الحرص و قد بقيت .
قلت : هنا درجة ثالثة رفيعة و هي الكفاف التي سألها رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً و في رواية كفافاً خرجه مسلم . و معلوم أنه عليه الصلاة و السلام لا يسأل إلا أفضل الأحوال و أسنى المقامات و الأعمال ، و قد اتفق الجميع على أن ما أحوج من الفقر مكروه و ما أبطر من الغنى مذموم .
و في سنن ابن ماجه عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما من غني و لا فقير إلا يود يوم القيامة أنه أوتي من الدنيا قوتاً الكفاف : حالة متوسطة بين الغنى والفقر ، و قد قال عليه الصلاة و السلام : خير الأمور أوسطها فهي حالة سليمة من آفات الغنى المطغى و آيات الفقر المدقع الذي كان يتعوذ منهما النبي صلى الله عليه و سلم فكانت أفضل منهما . ثم إن حالة صاحب الكفاف حالة الفقير الذي لا يترفه في طيبات الدنيا و لا في زهرتها ، فكانت حاله إلى الفقير أقرب . لقد حصل له ما حصل للفقير من الثواب على الصبر و كفى مرارته و آفاته ، وعلى هذا فأهل الكفاف هم إن شاء الله صدر كتيبه الفقراء الداخلين الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام لأنهم وسطهم ، و الوسط العدل كما قال الله تعالى و كذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس أي عدولاً خياراً و ليسوا من الأغنياء كما ذكرنا .


الموضوع التالي


باب منه