باب ما جاء أن عثمان رضي الله عنه لما قتل سل سيف الفتنة
 
الترمذي عن ابن أخي عبد الله بن سلام قال : لما أريد عثمان رضي الله عنه جاء عبد الله بن سلام فقال له عثمان بن عفان رضي الله عنه : ما جاء بك ؟ قال : جئت في نصرتك . قال : اخرج إلى الناس فاطردهم عني فإنك خارجاً خير لي من داخل . قال : فخرج عبد الله بن سلام إلى الناس فقال : أيها الناس إنه كان في الجاهلية اسمي فلان بن فلان فسماني رسول الله صلى الله عليه و سلم عبد الله ، و نزلت في آيات من كتاب الله تعالى نزلت وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن و استكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين و نزلت في قل كفى بالله شهيداً بيني و بينكم و من عنده علم الكتاب إن الله سيفاً مغموداً عنكم و إن الملائكة قد جاورتكم في بلدكم هذا الذي نزل فيه نبيكم ، فالله الله في هذا الرجل أن تقتلوه ، فوالله إن قتلتموه لتطردن جيرانكم الملائكة و لتسلن سيف الله المغمود عنكم فلا يغمد إلى يوم القيامة . قال : فقالوا اقتلوا اليهودي و اقتلوا عثمان . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب .
قلت : و مثل هذا من عبد الله لا يكون إلا عن علم من الكتاب أعني التوراة على ما يأتي أو سمعه من النبي صلى الله عليه و سلم ، و سيأتي قول حذيفة لعمران : إن بينك و بينها باباً مغلقاً يوشك أن يكشر .
فصل
قال العلماء بالسير و الأخبار : إنه دخل على أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه في الدار جماعة من الفجار منهم : كنانة بن بشر التجيبي فأشعره مشقصاً أي قتله به فافتضح الدم على المصحف و وقع على قوله تعالى فسيكفيكهم الله و هو السميع العليم و قيل ذبحه رجل من أهل مصر يقال له عمار ، و قيل ذبحه رومان ، و قيل قتله الموت الأسود يقال له أيضاً الدم الأسود من طغاة مصر ، فقطع يده ، فقال عثمان : أما و الله إنها لأول كف خطت في المصحف ، و هذه البلوى التي ثبتت في الصحيح عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل حائطاً و أمرني بحفظ باب الحائط ، فجاء رجل يستأذن فقال : ائذن له و بشره بالجنة فإذا أبو بكر ثم جاء آخر يستأذن ، فقال : ائذن له و بشره بالجنة فإذا عمر ، ثم جاء آخر يستأذن فسكت هنيهة ثم قال ائذن له و بشره بالجنة على بلوى تصيبه ، فإذا عثمان بن عفان . لفظ البخاري ذكره في مناقب عثمان .
و قد قيل : إن الصحيح في مقتله رضي الله عنه أنه لم يتعين له قاتل معين بل أخلاط الناس و هم رعاع جاءوا من مصر و من غير قطر ، و جاء الناس إلى عثمان فيهم عبد الله بن عمر متقلداً سيفه و زيد بن ثابت ، فقال له زيد بن ثابت : إن الأنصار بالباب يقولون إنشئت كنا أنصار الله مرتين . قال : لا حاجة لي في ذلك كفواً ، و كان معه في الدار الحسن و الحسين و ابن عمر و عبد الله بن الزبير و أبو هريرة و عبد الله بن عامر بن ربيعة و مروان بن الحكم كلهم يحملون السلاح ، فعزم عليهم في وضع أسلحتهم و خروجهم و لزوم بيتهم ، فقال له الزبير و مروان : نحن نعزم على أنفسنا أن لا نبرح ، فضاق عثمان رضي الله عنه من الحصار و منع من الماء حتى أفطر على ماء البحر الملح . قال الزبير بن بكار : حاصروه شهرين و عشرين يوماً ، و قال الواقدي حاصروه تسعة و أربعين يوماً ففتح الباب فخرج الناس و سلموا له راية في إسلام نفسه . قال سليط بن أبي سليط : فنهانا الإمام عثمان عن قتالهم و لو أذن لنا لضربناهم حتى نخرجهم من أقطارها و دخلوا عليه في أصح الأقوال ، و قتله من شاء الله من سفلة الرجال .
و روى أبو عمر بن عبد البر عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ادعوا لي بعض أصحابي ، فقلت أبو بكر ؟ قال : لا . فقلت : عمر ؟ فقال : لا . فقلت : ابن عمك ؟ قال : لا . فقلت عثمان . قال : نعم . فلما جاءه قال لي بيده فتنحيت ، فجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يساره و لون عثمان يتغير ، فما كان يوم الدار و حصر عثمان قيل له ألا نقاتل عنك قال : لا . إن رسول الله صلى الله عليه و سلم عهد إلي عهداً و أنا صابر عليه .
و في الترمذي عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : يا عثمان لعل الله يقمصك قميصاً فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه لهم قال : هذا حديث حسن غريب .
و فيه عن ابن عمر قال : ذكر النبي صلى الله عليه و سلم فتنة فقال : يقتل فيها هذا مظلوماً لعثمان و قال حديث حسن غريب . و يروى أنه دخل عليه عبد الله بن عمر بن الخطاب قال انظر ما يقول هؤلاء يقولون اخلع نفسك أو نقتلك قال له : أمخلد أنت في الدنيا ؟ قال : لا فهل يزيدون على أن يقتلوك ؟ قال : لا . قال : هل يملكون لك جنة أو ناراً . قال : لا . قال : فلا تخلع قميص الله عليك فيكون سنة كلما كره قوم خليفة خلعوه و قتلوه .
و اختلف في سنه رضي الله عنه حين قتله من قتله من الفجار ـ أدخلهم الله بحبوحة النار ـ فقيل : قتل و هو ابن ثمان و ثمانين و قيل ابن تسعين سنة ، و قال قتادة : قتل عثمان و هو ابن ست و ثمانين و قيل غير هذا . و قتل مظلوماً كما شهد له بذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم و جماعة أهل السنة و ألقي على مزبلة ، فأقام فيها ثلاثة أيام لم يقدر أحد على دفنه ، حتى جاء جماعة بالليل خفية فحملوه على لوح وصلوا عليه و دفن في موضع من البقيع يسمى حوش كوكب ، و كان مما حبسه عثمان رضي الله عنه و زاده في البقيع ، و كان إذا مر به يقول يدفن فيك رجل صالح . و كان هو المدفون فيه و عمي قبره لئلا يعرف ، و قتل يوم الجمعة لثماني ليال خلون من ذي الحجة يوم التروية سنة خمس و ثلاثين قاله الواقدي . و قيل ليلتين بقيتا من ذي الحجة ، و كانت خلافته إحدى عشر سنة إلا أياماً اختلف فيها رضي الله عنه . و قيل إن المتعصبين على عثمان رضي الله عنه من المصريين و من تابعهم من البلدان كانوا أربعة آلاف ، و بالمدينة يومئذ أربعون ألفاً .
و قد اختلف العلماء فيمن نزل به مثل نازلة عثمان ألحقه الله جناح المغفرة و الرضوان هل يلقى بيده أو يستنصر ، فأجاز جماعة من الصحابة و التابعين و فقهاء المسلمين أن يستسلم و هو أحد قولي الشافعي ، و قال بعض العلماء : لا يسلم بيده بل يستنصر و يقاتل و لكل من القولين وجه و دليل ، و سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى . و قال بعض العلماء : و لو اجتمع أهل المشرق و المغرب على نصرة عثمان لم يقدروا على نصرته ، لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنذره في حياته فأعلمه بالبلوى التي تصيبه ، فكان ذلك من المعجزات التي أخبر بوقوعها بعد موته صلى الله عليه و سلم و ما قال رسول الله شيئاً قط إلا كان .
و قال حسان بن ثابت :
قتلتم ولي الله في جوف داره و جئتم بأمر جائر غير مهتد
فلا ظفرت إيمان قوم تعاونوا على قتل عثمان الرشيد المسدد
و خرج مسلم في صحيحه قال : و حدثنا محمد بن المثنى و محمد بن حاتم قالا : حدثنا معاذ بن جبل قال : حدثنا ابن عوف عن محمد قال : قال جندب جئت يوم الجرعة ، فإذا رجل جالس فقلت له ليهراقن اليوم ههنا دم . فقال ذلك الرجل : كلا و الله . قلت : بلى و الله . قال : كلا و الله . قلت : بلى و الله . قال ثلاثاً كلا إنه لحديث رسول الله صلى الله عليه و سلم حدثنيه قلت : بئس الجليس لي أنت منذ اليوم تسمعني أخالفك ، و قد سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم فلا تنهني ثم قلت : ما هذا الغضب فأقبلت عليه أسائله فإذا الرجل حذيفة .
و الجرعة : موضع بجهة الكوفة على طريق الحيرة قيده الحفاظ بفتح الجيم والراء ، و قيده بعض رواة الحفاظ بإسكان الراء و هو يوم خرج فيه أهل الكوفة متألبين متعصبين ليردوا إلى عثمان بن عفان ، و هو سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس ، و كتبوا إلى عثمان لا حاجة لنا في سعيدك و لا وليدك ، و كان رده سنة أربع و ثلاثين ، و كتبوا إلى عثمان ان يولي عليهم أبا موسى الأشعري ، فلم يزل والياً عليهم إلى أن قتل عثمان و لما سمع بقتله يعلى بن أمية التميمي الحنظلي أبو صفوان ، أبي هريرة يقال له خالد أسلم يوم الفتح و شهد مع رسول الله صلى الله عليه و سلم حنيناً و الطائف و تبوك و كان صاحب الجند و صنعاء أقبل لينصره ، فسقط عن بعيره في الطريق فانكسرت فخذه فقدم مكة بعد انقضاء الحج فخرج إلى المسجد و هو كسير على سرير ، و استشرف إليه الناس و اجنمعوا فقال : من خرج يطلب بدم عثمان فعلي جهازه فأعان الزبير بأربعمائة ألف و حمل سبعين رجلاً من قريش ، و حمل رضي الله عنها على جمل أذب و يقال أذب لكثرة و بره اشتراه ابن أمية الحنظلي بمائتي دينار . قاله ابن عبد البر في الاستيعاب ، و قال ابن شبة في كتاب الجمل له : اشتراه بثمانين ديناراً و الأول أصح و اسمه عسكر .
و ذكر ابن سعد قال : أخبرنا محمد بن عمر قال : حدثني اسماعيل بن إبراهيم عن أبيه قال : كان عبد الله بن أبي ربيعة عاملاً لعثمان على صنعاء ، فلما بلغه خبر عثمان أقبل سريعاً لينصره ، فلقيه صفوان بن أمية و صفوان على فرس ، و عبد الله بن أبي ربيعة على بغلة ، فدنا منها الفرس فحادت فطرحت ابن أبي ربيعة فكسرت فخذه ، فقدم مكة بعد الضرر و عائشة بمكة يومئذ تدعو إلى الخروج تطلب دم عثمان ، فأمر بسرير فوضع له سرير في المسجد ثم حمل فوضع على سريره ، فقال : أيها الناس من خرج في طلب دم عثمان فعلي جهازه . قال : فجهز ناساً كثيراً و حملهم و لم يستطع إلى الجمل لما كان برجله .
أخبرنا محمد بن عمر قال : حدثني محمد بن عبد الله ابن عبيد عن أبي مليكة ، عن عبد الله بن أبي السائب قال : رأيت عبد الله بن أبي ربيعة على سرير في المسجد الحرام يحض الناس على الخروج في طلب دم عثمان و يحمل ما جاء . انتهى كلام ابن سعد في الطبقات و لا تعارض و الحمد لله ، فإنه يحتمل أن يكون خرجا جميعاً في نصرة عثمان فكسروا أو اجتمعا بمكة و جعلا يجهزان من يخرج ، و الله أعلم .
و كانت عائشة رضي الله عنها حاجة في السنة التي قتل فيها عثمان ، و كانت مهاجرة له ، فاجتمع طلحة و الزبير و يعلى و قالوا لها بمكة : عسى أن تخرجي رجاء أن يرجع الناس إلى أمهم و يراعوا نبيهم و هي تمتنع عليهم ، فاحتجوا عليها بقوله تعالى لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس و قالوا لها : إن المتألبين على عثمان بالبصرة كثير فبلغت الأقضية مقاديرها . فاصطف الناي للقتال و رموا علياً و أصحابه بالنبال ، فقال علي : لا ترموا بسهم و لا تضربوا بسيف و لا تطعنوا برمح ، فرمى رجل من عسكر القوم بسهم فقتل رجلاً من أصحاب علي فأتى به إلى علي فقال : اللهم أشهد ثم رمي آخر ، فقتل رجلاً من أصحاب علي ، فقال علي : اللهم أشهد ثم رمي آخر ، فقال علي اللهم اشهد ، و قد كان علي نادى الزبير يا أبا عبد الله : ادن إلي اذكرك كلاماً سمعته أنا و أنت من رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقال : علي الأمان . فقال : على الأمان فبرز فأذكره أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال له و قد و جدهما يضحكان بعضهما إلى بعض أما أنك ستقاتل علياً و أنت له ظالم فقال الزبير : اللهم إني ما ذكرت هذا إلا في هذه الساعة و ثنى عنان فرسه لينصرف ، فقال له ابنه عبد الله : إلى أين ؟ قال : أذكرني علي كلاماً قاله له رسول الله صلى الله عليه و سلم . قال : كلا و لكنك رأيت سيوف بني هاشم حداداً و يحملها حداداً و يحملها رجال شداد . قال : و يلك و مثلي يعير بالجبن هلم الرمح ، فأخذ الرمح و حمل في أصحاب علي ، فقال علي : افرجو للشيخ فإنه محرج ، فشق الميمنة و الميسرة و القلب ثم رجع و قال لابنه : لا أم لك أبفعل هذا جبان و انصرف . و قامت الحرب على ساق ، و بلغت النفوس إلى التراق ، فأفرجت عن ثلاثة و ثلاثين ألف قتيل ، و قيل عن سبعة عشر ألفاً و فيه اختلاف فيهم . من الأزد أربعة آلاف ، و من ضبة ألف و مائة و باقيهم من سائر الناس كلهم من أصحاب عائشة . و قتل فيها من أصحاب علي نحو من ألف رجل و قيل أقل ، و قطع على خطام الجمل سبعون يداً من بني ضبة كلما قطعت يد رجل أخذ الزمام آخر و هم ينشدون :
نحن بنو ضبة أصحاب الجمل ننازل الموت إذا الموت نزل
والموت أشهى عندنا من العسل
و كان الجمل للراية إلى أن عقر الجمل ، و كانوا قد ألبسوه الأدراع ، و قال جملة من أهل العلم : إن الوقعة بالبصرة بينهم كانت على غير عزيمة منهم على الحرب ، بل فجأة و على سبيل دفع كل واحد من الفريقين عن أنفسهم لظنه أن الفريق الآخر قد غدر به ، لأن الأمر كان انتظم بينهم على الصلح و التفريق على الرضا ، فخاف قتلة عثمان من التمكن منهم والإحاطة بهم ، فاجتمعوا وتشاوروا واختلفوا ثم اتفقت آراؤهم على أن يفترقوا فريقين و يبدوا في الحرب شجرة في العسكرين و تختلف السهام بينهم و يصيح الفريق الذي في عسكر علي غدر طلحة و الزبير ، و الذي في عسكر طلحة و الزبير غدر علي ، فتم لهم ما أرادوا و دبروه و نشبت الحرب ، فكان كل فريق دافعاً لمكرته عند نفسه و مانعاً من الإشاطة بدمه و هذا صواب من الفريقين و طاعة الله إذ وقع القتال و الامتناع منهما على هذا السبيل ، و هذا هو الصحيح المشهور ، و كان قتالهم من ارتفاع النهار يوم الخميس إلى قريب العصر لعشر ليال خلون من جمادي الآخرة سنة ست و ثلاثين .
و في صحيح مسلم من كتاب الفتن عن ابن عمر قال : خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم من بيت عائشة فقال : رأس الكفر من ها هنا من حيث يطلع قرنا الشيطان يعني المشرق و قيل : هذا بنصف ورقة بأسانيد منها عن عبد الله بن عمر القواريري و محمد بن المثنى باضطراب في بيت حفصة ، ثم قال و قال عبد الله بن سعيد في روايته قام رسول الله صلى الله عليه و سلم عند باب عائشة فقال بيده نحو المشرق الفتنة ها هنا من حيث يطلع قرنا الشيطان قالها مرتين أو ثلاثاً .
و ذكر الإمام أحمد بن حنبل في مسنده في الخامس عشر من مسند عائشة رضي الله عنها قال : حدثني محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن إسماعيل بن ابي خالد عن قيس بن أبي حازم أن عائشة رضي الله عنها لما أتت الحوبة سمعت نباح الكلاب فقالت : ما أظنني ألا راجعة إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لنا : أيتكن تنبح كلاب الحوأب فقال لها الزبير : ترجعين عسى الله أن يصلح لك بين الناس .
و روى أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا وكيع بن الجراح ، عن عصام بن قدامة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أيتكن صاحبة الجمل الأذيب يقتل حولها قتلى كثيرة و تنجو بعد ماكادت و هذا حديث ثابت صحيح رواه الإمام المجمع على عدالته و قبول روايته الإمام أبو بكر عبد الله بن أبي شيبة ، و كذلك وكيع مجمع على عدالته و حفظه و فقهه عن عصام و هو ثقة عدل فيما ذكر أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب له ، عن عكرمة و هو عند أكثر العلماء ثقة عالم و هذا الحديث من أعلام نبوته صلى الله عليه و سلم و هو إخباره بالشيء قبل كونه .
و قوله [ الأذيب ] أراد الأذب ، فأظهر التضعيف و العجب من القاضي أبي بكر بن العربي كيف أنكر هذا الحديث في كتبه . منها في كتاب العواصم من القواصم ، و ذكر أنه لا يوجد أصلاً و أظهر لعلماء المحدثين بإنكاره غباوة و جهلاً ، و شهرة هذا الحديث أوضح من فلق الصبح و أجلى ، و قد رواه أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب فقال حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة ، فذكره بسنده المتقدم .
و روى أبو جعفر الطبري قال : لما خرجت عائشة رضي الله عنها من البصرة طالبة المدينة بعد انقضاء الحرب جهزها علي رضي الله عنه جهازاً حسناً ، و أخرج معها من أراد الخروج و اختار عليها أربعين امرأة معروفات من نساء البصرة ، و جهز معها أخاها محمداً و كان خروجها من البصرة يوم السبت غرة رجب سنة ست و ثلاثين و شيعها علي رضي الله عنه على أميال و سرح معها بنيه يوماً .
فصل :
فإن قيل : فلم ترك علي القصاص من قتلة عثمان ؟ فالجواب إنه لم يكن ولي دم ، و إنما كان أولياء الدم أولاد عثمان و هم جماعة : عمرو و كان أسن و لد عثمان و أبان و كان محدثاً فقيهاً و شهد الجمل مع عائشة و الوليد بن عثمان ، و كان عنده مصحف عثمان الذي كان في حجره حين قتل ، و منهم الوليد بن عثمان . ذكر ابن قتيبة في المعارف أنه كان صاحب شارب و فتوة و منهم سعيد بن عثمان و كان والياً لمعاوية على خرسان ، فهؤلاء بنو عثمان الحاضرون في ذلك الوقت ، و هم أولياء الدم غيرهم و لم يتحاكم إلى علي أحد منهم و لا نقل ذلك عنهم ، فلو تحاكموا إليه لحكم بينهم إذكان أقضى الصحابة للحديث المروي فيه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم .
و جواب ثان : أنه لم يكن في الدار عدلان يشهدان على قاتل عثمان بعينه ، فلم يكن له أن يقتل بمجرد دعوى في قاتل بعينه ، و لا إلى الحاكم في سبيل ذلك مع سكوت أولياء الدم عن طلب حقهم ، ففي تركهم له أوضح دليل ، و كذلك فعل معاوية حين تمت له الخلافة و ملك مصر و غيرها بعد أن قتل علي رضي الله عنه لم يحكم على واحد من المتهمين بقتل عثمان بإقامة قصاص ، و أكثر المتهمين من أهل مصر و الكوفة و البصرة و كلهم تحت حكمه و أمره و نهيه و غلبته و قهره ، و كان يدعي المطالبة بذلك قبل ملكه و يقول : لا نبايع من يؤوي قتلة عثمان و لا يقتص منهم و الذي كان يجب عليه شرعاً أن يدخل في طاعة علي رضي الله عنه حين انعقدت خلافته في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم و مهبط و حية و مقر النبوة و موضع الخلافة بجميع من كان فيها من المهاجرين و الأنصار يطوع منهم وارتضاء و اختيار ، و هم أمم لا يحصون و أهل عقد و حل ، و البيعة تنعقد بطائفة من أهل الحل و العقد ، فلما بويع له رضي الله عنه طلب أهل الشام في شرط البيعة التمكن من قتلة عثمان ، و أخذ القود منهم ، فقال لهم علي عليه السلام : ادخلوا في البيعة و اطلبوا الحق تصلوا إليه فقالوا لا تستحق بيعة و قتلة عثمان معك نراهم صباحاً و مساء، و كان علي في ذلك أسد رأياً و اصوب قيلاً ، لأن علياً لو تعاطى القود معهم لتعصب لهم قبائل و صارت حرباً ثالثة ، فانتظر بهم إلى أن يستوثق الأمر و تنعقد عليه البيعة و يقع الطلب من الأولياء في مجلس الحكم فيجري القضاء بالحق .
قال ابن العربي أبو بكر و لا خلاف بين الأمة أنه يجوز للإمام تأخير القصاص إذا أدى إلى إثارة فتنة أو تشتيت الكلمة ، و كذلك جرى لطلحة و الزبير فإنهما ماخلعا علياً من ولاية و لا اعتراضاً عليه في ديانة ، و إنما رأوا أن البداية بقتل أصحاب عثمان أولى .
و ذكر ابن وهب قال : حدثني حرملة بن عمران عن يزيد بن أبي حبيب أنه سمعه يحدث محمد بن أبي زياد الثقفي قال : اصطحب قيس بن خرشة و كعب الكناني حتى إذا بلغا صفين وقف كعب ثم نظر ساعة فقال : لا إله إلا الله ليهراقن في هذه البقعة من دماء المسلمين ما لم يهرق ببقعة من الأرض ، فغضب قيس ثم قال : و ما يدريك يا أبا إسحاق ما هذا ، فإن هذا من الغيب الذي استأثر الله تعالى به ، فقال كعب : ما من سبر من الأرض إلا هو مكتوب في التواراة التي أنزل الله على موسى بن عمران ما يكون عليه إلى يوم القيامة .
أخبرنا شيخنا القاضي لسان المتكلمين أبو عامر بن الشيخ الفقيه الإمام أبي الحسين بن عبد الرحمن بن ربيع الأشعري إجازة عن شيخه المحدث الثقة المؤرخ أبي القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال قال : حدثنا جماعة من شيوخنا رحمهم الله . منهم الفقيه المفتي أبو محمد بن عنان قال : أنبأنا الإمام أبو عمر بن عبد البر فيما أجازه لنا بخطه قال : حدثنا خلف بن القاسم قال : حدثنا عبد الله بن عبد البر قال : حدثنا أحمد بن يحيى قال : حدثنا أحمد بن محمد بن الحجاج قال : حدثني خالد أبو الربيع و أحمد بن صالح و أحمد بن عمر و ابن السرح و يحيى بن سليمان قال : حدثني ابن وهب فذكره . و أحمد بن محمد بن الحجاج هو ابن رشيد بن سعد أبو جعفر مصري قال أبو أحمد بن عدي : كذبوه و أنكرت عليه أشياء و محمد بن يزيد بن أبي زياد مجهول . قاله الدار قطني و باقي السند ثقات معرفون .
و أما و قعة صفين فإن معاوية لما بلغه مسير أمير المؤمنين علي كرم الله و جهه إليه من العراق خرج من دمشق حتى ورد صفين في النصف من المحرم ، فسبق إلى سهولة المنزل و سعة المناخ و قريب الماء من الفرات و بنى قصراً لبيت ماله . و صفين صحراء ذات كدى و أكمأت ، و كان أهل الشام قد سبقوا إلى المشرعة من سائر الجهات و لم يكن ثم مشرعة سواها للواردين و الواردات ، فمنعت علياً رضي الله عنه إياها و حمتها تلك الكماة ، فذكرهم بالمواعظ الحسنة و الآيات ، و حذرهم بقول النبي صلى الله عليه و سلم فيمن منع فضل الماء بالفلاة ، فردوا قوله و أجابوا بألسنة الطغاة إلى أن قاتلهم بالقواضب و السمهريات ، فلما غلبهم عليها رضي الله عنه أباحها للشاربين و الشاربات ، ثم بنى مسجداً على تل بأعلى الفرات ليقيم فيه مدة مقامه فرائض الصلوات لفضل صلاة الجماعة على صلاة الفرد بسبع و عشرين من الدرحات على ما ثبت في الصحيح من رواية ابن عمر و غيره من الصحابة العدول الثقاة ، و حضرها مع علي جماعة من البدريين ، و من بايع تحت الشجرة من الصحابة المرضيين ، و كان مع علي رايات كانت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في قتل المشركين ، و كان مقام علي رضي الله عنه و معاوية بصفين سبعة أشهر ، و قيل تسعة ، و قيل ثلاثة أشهر ، و كان بينهم قبل القتال نحو من سبعين زحفاً و قتل في ثلاثة أيام من أيام البيض و هي ثلاث عشرة و أربعة عشرة و خمسة عشرة ثلاثة و سبعون ألفاً من الفريقين .
و ذكره الثقة العدل أبو إسحاق و إبراهيم بن الحسين الكساي الهمداني المعروف بابن ديزيل و هو الملقب بسفينة ، و سفينة طائر إذا وقع على الشجرة لم يقم عنها و يترك فيها شيئاً ، وهو في تلك الليالي هي ليله الهرير جعل يهر بعضهم على بعض . و الهرير : الصوت يشبه النباح لأنهم تراموا بالنبل حتى فنيت ، و تطاعنوا الرماح حتى اندقت و تضاربوا بالسيوف حتى انقضت ، ثم نزل القوم يمشي بعضهم إلى بعض قد كسروا جفون سيوفهم و اضطربوا بما بقي من السيوف و عمد الحديد ، فلا تسمع إلا غمغمة القوم و الحديد في الهام ، و لما صارت السيوف كالمناجل بالحجارة ، ثم جثوا على الركب فتحاثوا بالتراب ، ثم تكادموا بالأفواه و كسفت الشمس و ثار القتام و ارتفع الغبار و ضلت الألوية و الرايات و مرت أوقات أربع صلوات ، لأن القتال كان بعد صلاة الصبح و اقتتلوا إلى نصف الليل ، و ذلك في شهر ربيع الأول سنة تسع و ثلاثين . قال الإمام أحمد بن حنبل في تاريخه و قال غيره في شهر ربيع الأول .
و كان أهل الشام يوم صفين خمسة و ثلاثين و مائة و ألفاً ، و كان أهل العراق عشرين أو ثلاثين و مائة و ألفاً . ذكره الزبير بن بكار أبو عبد الله القاضي العدل قال : حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي ، عن زكريا بن عيسى ، عن ابن شهاب ، عن محمد بن عمرو بن العاص و كان من شهد صفين و أبلى فيه و فيه يقول :
فلو شهدت جمل مقامي و مشهدي بصفين يوماً شاب منها الذوائب
غداة أتى أهل العراق كأنهم من البحر لج موجه متراكب
و جئناهم نمشي كأن صفوفنا سحائب غيث رفعتها الجنائب
و يروى : شهاب حريق رفعته الجنائب .
و قالوا لنا إنا نرى أن تبايعوا علياً فقلنا بل نرى أن نضارب
و طارت إلينا بالرماح كماتهم و طرنا إليهم بالأكف قواضب
إذا نحن قنا استهزموا عرضت لنا كتائب منهم واشمأزت كتائب
فلا هم يولون الظهور فيدبروا فراراً كفعل الخادرات الدرائب
قال ابن شهاب : فأنشدت عائشة رضي الله عنها أبياته هذه ، فقالت ما سمعت بشاعر أصدق شعراً منه.
قال الحافظ ابن دحية : قوله : بل نرى أن نضارب أن هنا مخففة من الثقيلة محذوفة الاسم تقديره أننا نضارب ، و قوله [ كفعل الخادرات الدرائب ] الخادرات : الأسود يقال أسود خادر ، كأن الأجمة له خدر ، فمعناه أنهم لا يدبرون كالأسود التي لا تدبر عن فرائسها ، لأنها قد ضربت بها و دربت عليها و الدربة الضراوة . يقال : درب يدرب و رفع الدرائب لأنها بدل من الضمير في يدبروا .
قال : و الإجماع منعقد على أن طائفة الإمام طائفة عدل ، والأخرى طائفة بغي و معلوم أن علياً رضي الله عنه كان الإمام .
و روى مسلم في صحيحه قال : حدثنا محمد بن المثنى و ابن بشار و اللفظ لابن مثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر : حدثنا شعبة عن أبي سلمة قال : سمعت أبا نضرة يحدث عن أبي سعيد الخدري قال : أخبرني من هو خير مني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لعمار حين جعل يحفر الخندق جعل يمسح راسه و يقول : بوس بن سمية تقتلك فئة باغية .
و خرجه أيضاً من حديث إسحاق بن إبراهيم ، و إسحاق بن منصور ، و محمد بن غيلان ، و محمد بن قدامة قالوا : أخبرنا النضر بن شميل ، عن شعبة ، عن أبي سلمة بهذا الإسناد نحوه غير أن في حديث النضر قال أخبرني من هو خير مني أبو قتادة و له طرق غير هذا في صحيح مسلم .
و قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب له في ترجمة عمار و تواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : يقتل عمار الفئة الباغية و هو من أصح الأحاديث .
و قال فقهاء الإسلام فيما حكاه الإمام عبد القاهر في كتاب الإمامة من تأليفه ، و أجمع فقهاء الحجاز و العراق من فريقي الحديث و الرأي منهم مالك و الشافعي و أبو حنيفة و الأوزاعي ، و الجمهور الأعظم من المتكلمين إلى أن علياً مصيب في قتاله لأهل صفين كما فالوا بإصابته في قتل أصحاب الجمل ، و قالوا أيضاً بأن الذين قاتلوه بغاة ظالمون له ، ولكن لا يجوز تكفيرهم ببغيهم .
و قال الإمام أبو منصور التيمي البغدادي في كتابه الفرق من تأليفه في شان القصة عقيدة أهل السنة و أجمعوا أن علياً كان مصيباً في قتاله لأهل صفين كما قالوا بإصابته في قتل أصحاب الجمل ، و قالوا أيضاً : بأن الذين قاتلوه بغاة ظالمون له و لكن لا يجوز تكفيرهم ببغيهم .
و قال الإمام أبو منصور التيمي البغدادي في كتاب الفرق في بيان عقيدة أهل السنة : و أجمعوا أن علياً كان كصيباً في قتال أهل الجمل : أعني طلحة و الزبير و عائشة بالبصرة ، و أهل صفين : أعني معاوية و عسكره .
و قال الإمام أبو المعالي في كتاب الإرشاد فصل : علي رضي الله عنه كان إماماً حقاً في توليته ، و مقاتلوه بغاة و حسن الظن بهم يقتضي أن يظن بهم قصد الخير و إن أخطأوه ، فهو آخر فصل ختم به كتابه ، و حسبك يقول سيد المرسلين و إمام المتقين لعمار رضي الله عنه تقتلك الفئة الباغية . و هو من أثبت الأحاديث كما تقدم و لما لم يقدر معاوية على إنكاره لثبوته عنده قال : إنما قتله من أخرجه ، و لو كان حديثاً فيه شك لرده معاوية و امكره و أكذب ناقله و زوره .
و قد أجاب علي رضي الله عنه عن قول معاوية بان قال : فرسول الله صلى الله عليه و سلم اذن قتل حمزة حين أخرجه ، و هذا من علي رضي الله عنه إلزام لا جواب عنه و حجة لا اعتراض عليها . قاله الإمام الحافظ أبو الخطاب بن دحية .