باب الأمر بالصبر عند الفتن و تسليم النفس للقتل عندها و السعيد من جنبها
 
أبو داود عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يا أبا ذر قلت : لبيك رسول الله و سعديك ، و ذكر الحديث قال : كيف أنت إذا أصاب الناس موت يكون البيت بالوصيف يعني القبر ، قلت الله و رسوله أعلم ، أو قال ما خار الله لي و رسوله ، قال عليك بالصبر أو قال تصبر ، ثم قال يا أبا ذر قلت لبيك و سعديك ؟ قال : كيف أنت إذا رأيت أحجار الزيت أحجار قد غرقت بالدم قلت : ما خار الله لي و رسوله . قال عليك بمن أنت منه قال : قلت يا رسول الله أفلا آخذ سيفي فأضعه على عاتقي ؟ قال : شاركت القوم إذا قال : قلت : فما تأمرني ؟ قال تلزم بيتك ، قال قلت فإن دخل على بيتي ؟ قال : فإن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فألق ثوبك على وجهك بيوء بإثمه و إثمك خرجه ابن ماجه و قال تصبر من غير شك ، و زاد بعده قال : كيف أنت وجوع يصيب الناس حتى تأتي مسجدك فلا تستطيع أن ترجع إلى فراشك أو لا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك .
قال : قلت الله و رسوله أعلم ما خار الله لي و رسوزله ، قال : عليك بالعفة ، ثم قال : كيف أنت و قتل يصيب الناس حتى تغرق حجارة الزيت بالدم الحديث .
و قال : فألق طرف ردائك على وجهك فيبوء بإثمه و إثمك فيكون من أصحاب النار .
و في حديث عبد الله بن مسعود حين ذكر الفتنة قال : الزم بيتك . قيل : فإن دخل على بيتي ؟ قال : فكن مثل الجمل الأورق الثقال الذي لا ينبعث إلا كرهاً و لا يمشي إلا كرهاً . ذكره أبو عبيدة قال : حدثنيه أبو النضر عن المسعودي ، عن علي بن مدرك عن أبي الرواع ، عن عبد الله ، قال أبو عبيدة سمعت بعض الرواة يقول : الرواع و الوجه الرواع بضم الراء .
أبو داود قال عن المقداد بن الأسود قال : وايم الله لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن السعيد لمن جنب الفتن و لمن ابتلى فصبر فواها .
الترمذي عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يأتي على الناس زمان الصابر فيه على دينه : كالقابض على الجمر قال : حديث غريب .
فصل
قوله بالوصيف الوصيف الخادم يريد أن الناس يشتغلون عن دفن موتاهم ، حتى لا يوجد فيهم من يحفر قبر الميت و يدفنه إلا أن يعطى وصيفاً أو قيمته ، و قد يكون معناه أن مواضع القبور تضيق عليهم فيبتاعون لموتاهم القبور كل قبر بوصيف ، و قوله : غرقت بالدم أي لزمت و الغروق اللزوم فيه ، و يروى غرقت و أحجار الزيت موضع المدينة .
روى الترمذي عن عمير مولى بن أبي اللحم عن أبي اللحم أنه رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم يستسقي و هو مقنع بكفيه يدعو .
و ذكر عمر بن أبي شيبة في كتاب المدينة على ساكنها الصلاة و السلام قال : حدثنا محمد بن يحيى عن ابن أبي فديك قال : أدركت أحجار الزيت ثلاثة أحجار مواجهة بيت أم كلاب و هو اليوم يعرف ببيت بني أسد فعلاً الكنيس الحجارة فاندفنت قال : و حدثنا محمد بن يحيى قال : و حدثنا محمد يحيى ، قال أخبرني أبو ضمرة الليثي عن عنان عن ابن الحارث بن عبيد ، عن هلال بن طلحة الفهري أن حبيب بن سلمة الفهري كتب إليه أن كعباً سألنسي أن أكتب له إلى رجل من قومي عالم بالأرض . قال : فلما قدم كعب المدينة جاءني بكتابه ذلك ، فقال : أعالم أنت بالأرض ؟ قلت : نعم و كانت بالزوراء حجارة يضعون عليها الزياتون رواياهم فأقبلت حتى جئتها فقلت هذه أحجار الزيت ، فقال كعب لا و الله ما هذه صفتها في كتاب الله ، انطلق أمامي فإنك أهدى بالطريق مني فانطلقنا حتى جئنا بني عبد الأشهل ، فقال يا أبا هلال : إني أجد أحجار الزيت في كتاب الله تعالى ، فسأل القوم عنها و هم يومئذ متوافرون فسألهم عن أحجار الزيت ، و قال إنها ستكون بالمدبنة ملحمة عندها .
فصل
و أما حديث ابن مسعود : كن مثل الجمل الأورق ، فقال الأصمعي الأورق و هو الذي في لونه بياض إلى سواد . و منه قيل للرماد أورق و الحمامة ورقاء . ذكره الأصمعي قال : و هو أطيب الإبل لحماً و ليس بمحمود عند العرب في عمله و سيره ، و أما الثقال فهو البطيء . قال عبيد : إنما خص عبد الله الأورق من الإبل لما ذكر من ضعفه عن العمل ، ثم اشترط الثقاتل أيضاً فزاده إبطاء و ثقلاً ، فقال : كن في الفتنة مثل ذلك ، و هذا إذا دخل عليك و إنما أراد عبد الله بهذا التبثط عن الفتنة و الحركة فيها .
فصل
و أما أمره صلى الله عليه و سلم أبا ذر بلزوم البيت و تسليم النفس للقتل ، فقالت طائفة : ذلك عند جميع الفتن و غير جائز لمسلم النهوض في شيء منها . قالوا : و عليه أن يستسلم للقتل إذا أريدت نفسه و لا يدفع عنها ، و حملوا الأحاديث على ظاهرها ، و ربما احتجوا من جهة النظر بأن قالوا : إن كل فريق من المقتتلين في الفتنة فإنه يقاتل على تأويل ، و إن كان في الحقيقة خطأ فهو عند نفسه محق و غير جائز لأحد قتله و سبيله سبيل حاكم من المسلمين يقضي بقضاء مما اختلف فيه العلماء على ما يراه صواباً ، فغير جائز لغيره من الحكام نقضه إذا لم يخالف بقضائه ذلك كتاباً و لا سنة و لا جماعة ، و كذلك المقتتلون في الفتنة كل حزب منهم عند نفسه محق دون غيره مما يدعون من التأويل فغير جائز لأحد قتالهم ، و إن هم قصدوا القتلى فغير جائز دفعهم ، و قد ذكرنا من تخلف عن الفتنة و قعدوا منهم عمران بن الحصين و ابن عمر ، و قد روي عنهما و عن غيرهما منهم عبيدة السلماني أن من اعتزل الفريقين فدخل بيته فأتى يريد نفسه فعليه دفعه عن نفسه ، و إن أبى الدفع عن نفسه فغير مصيب كقوله عليه الصلاة و السلام من أريدت نفسه و ماله فقتل فهو شهيد قالوا فالواجب على كل من أريدت نفسه و ماله فقتل ظلماً دفع ذلك ما وجد إليه السبيل متأولاً كان المريد أو معتمداً للظلم .
قلت : هذا هو الصحيح من القولين إن شاء الله تعالى . و في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي ، قال : فلا تعطه مالك ، قال : أرأيت إن قاتلني ، قال : قاتله قال : أرأيت إن قتلني ، قال : فأنت شهيد، قال : أرأيت إن قتلته ، قال : هو في النار .
و قال ابن المنذر : ثبتت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : من قتل دون ماله فهو شهيد و قد روينا عن جماعة من أهل العلم أنهم رأوا قتال اللصوص و دفعهم عن أنفسهم و أموالهم ، و هذا مذهب ابن عمر ، و الحسن البصري ، و قتادة و مالك ، و الشافعي ، و أحمد ، و إسحاق ، و النعمان ، و قال أبو بكر : و بهذا يقول عوام أهل العلم أن للرجل أن يقاتل عن نفسه و ماله إذا أريد ظلماً للأخبار التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يخص وقتاً من وقت و لا حالاً دون إلا السلطان ، فإن جماعة من أهل العلم كالمجتمعين على أن من لم يمكنه أن يمنع نفسه و ماله إلا بالخروج على السلطان و محاربته أنه لايحاربه و لا يخرج عليه للأخبار الواردة الدالة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بالصبر على ما يكون منهم من الجور و الظلم ، و قد تقدم ذلك في بابه و الحمد لله .