باب ما جاء في المدينة و مكة و خرابهما
 
مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : تبلغ المساكن أهاب أو يهاب قال زهير : قلت لسهيل فكم ذاك من المدينة ؟ قال كذا و كذا ميلاً .
أبو داود عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يوشك المسلمون أن يحاصروا إلى المدينة حتى يكون أبعد مسالحهم سلاح قال الزهري : و سلاح قريب من خيبر .
قلت : المسالح : المطالع و يقال القوم مستعد بهم في المراصد و يرتبون لذلك ، و سموا بذلك لحملهم السلاح ، و قال الجوهري : و المسلحة كالثغر و المرقب . و في الحديث كان أدنى مسالح فارس إلى العرب العذيب قال بشر :
بكل قياد مسنفة عنود أضر بها المسالح و الفرار
القياد : حبل تقاد به الدابة . و المسنف : المتقدم . يقال : أسنف الفرس أي تقدم الخيل ، فإذا سمعت في الشعر مسنفة بكسر النون ، فهي من هذا و هي الفرس التي تتقدم الخيل في سيرها ، و العنود : من عند الطريق يعند بالضم عنوداً أي عدل فهم عنود ، و العنود أيضاً من النوق التي ترعى ناحية ، و الجمع عند . و منه قوله تعالى : إنه كان لآياتنا عنيداً أي مجانياً للحق معانداً له معرضاً عنه . يقال عند الرجل إذا عتا و جاوز قدره .
مسلم عن أبي هريرة سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : تتركون المدينة على خير ما كانت لا يغشاها إلا العوافي يريد عوافي السباع و الطير ، ثم يخرج راعيان من مزينة يريدان المدينة ينعقان بغنمهما فيجدان و حشاً حتى إذا بلغ ثانية الوداع خرا على و جهيهما
و عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم للمدينة : ليتركنها أهلها على خير ما كانت مذللة للعوافي يعني السباع و الطير و عن حذيفة قال : أخبرني رسول الله صلى الله عليه و سلم بما هو كائن إلى يوم القيامة فما منه شيء إلا قد سألته إلا أني لم أسأله ما يخرج أهل المدينة من المدينة .
و ذكر أبو زيد عمر بن شبه في كتاب المدينة على ساكنها الصلاة و السلام عن أبي هريرة قال : ليخرجن أهل المدينة خير ما كانت . نصفها زهو و نصفها رطب قيل و من يخرجهم منها يا أبا هريرة ؟ قال : أمراء السوء .
قال أبوزيد ، و حدثنا سليمان بن أحمد قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا ابن لهيعة عن أبي الزبير ، عن جابر أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر يقول إنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : يخرج أهل المدينة منها ثم يعودون إليها إليها فيعمرونها حتى تمتلىء ثم يخرجون منها فلا يعودون إليها أبداً .
و خرج عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ليخرجن أهل المدينة ثم ليعودون إليها ، ثم ليخرجن منها ثم لا يعودون إليها أبداً ، و ليدعنها و هي خير ما تكون مونقة . قبل فمن يأكلها ؟ قال الطير و السباع .
و خرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : و الذي نفسي بيده لتكونن بالمدينة ملحمة يقال لها الحالقة لا أقول حالقة الشعر ، و لكن حالقة الدين فاخرجوا من المدينة و لو على قدر بريد .
و عن الشيباني قال : لتخربن المدينة و البنود قائمة . البنود جمع بند و هو العلم الكبير قاله في النهاية . قال مسلم ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم : يخرب الكعبة ذو السويقتين رجل من الحبشة . البخاري عن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : كأني به أسود أفحج يقلعها حجراً حجراً الفحج : تباعد ما بين الفخذين .
و في حديث حذيفة الطويل عنه صلى الله عليه و سلم : كأني بحبشي أفحج الساقين أزرق العينين أفطس الأنف كبير البطن ، و أصحابه ينقضونها حجراً حجراً و يتناولنها حتى يرموا بها إلى البحر يعني الكعبة ذكره أبو الفرج بن الجوزي و هو حديث فيه طول ، و قال أبو عبيدة القاسم بن سلام في حديث علي عليه السلام استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يحال بينكم و بينه ، فكأني برجل من الحبشة أصعل أصمع أحمش الساقين قاعد عليها و هي تهدم .
قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن هشام بن حسان ، عن حفصة ، عن أبي العالية ، عن علي قال الأصمعي قوله أصعل هكذا يروى ، فأما كلام العرب فهو صعل بغير ألف و هو الصغير الرأس الحبشة كلهم قال ، و الأصمع الصغير الأذن يقال منه رجل أصمع و امرأة صمعاء و كذلك غير الناس .
أبو داود الطيالسي ، عن أبي هريرة ، النبي صلى الله عليه و سلم يبايع لرجل بين الركن و المقام و أول من يستحل هذا البيت أهله فإذا استحلوه فلا تسأل عن هلكة العرب ، ثم تجيء الحبشة فيخربونه خراب لا يعمر بعده أبداً و هم الذين يستخرجون كنزه . ذكر الحليمي فيما ذكر أنه يكون في زمن عيسى عليه السلام ، و أن الصريخ يأتيه بأن ذا السويقتين الحبشي قد سار إلى البيت لهدمه ، فيبعث إليه عيسى عليه السلام طائفة من الناس ما بين الثمان إلى التسع .
و ذكر أبو حامد في كتاب مناسك الحج له و غيره ، و يقال : لا تغرب الشمس يوماً إلا ويطوف بهذا البيت رجل من الأبدل ، و لا يطلع الفجر من ليلة إلا طاف به و احد من الأوتاد ، و إذا انقطع ذلك كان سبب رفعه من الأرض فيصبح الناس و قد رفعت الكعبة ليس فيها أثر ، و هذا إذا أتى عليها سبع سنين لم يحجها أحد ، ثم يرتفع القرآن من المصاحف فيتصبح الناس فإذا الورق أبيض يلوح ليس فيه حرف ، ثم ينسخ القرآن من القلوب فلا يذكر منه كلمة واحدة ، ثم ترجع الناس إلى الأشعار و الأغاني و أخبار الجاهلية ، ثم يخرج الدجال و ينزل عيسى بن مريم عليه السلام فيقتل الدجال و الساعة عند ذلك بمنزلة الحامل المقرب تتوقع ولادتها . و في الخبر استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يرفع فقد هدم مرتين و يرفع في الثالثة .
قال المؤلف رحمه الله و قيل : إن خرابه يكون بعد رفع القرآن من صدور الناس و من المصاحف ، و ذلك بعد موت عيسى عليه السلام و هو الصحيح في ذلك على ما يأتي بيانه .
فصل : ثبت في الصحيح الدعاء للمدينة و الحث على سكناها . فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم يأتي على الناس زمن يدعو الرجل ابن عمه و قريبه هلم إلى الرخاء هلم إلى الرخاء و المدينة خير لهم كانوا يعلمون ، و الذي بيده لا يخرج أحد منهم رغبة عنها إلا أخلف الله فيها خيراً منه إلا أن المدينة كالكير تخرج الخبث . لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد رواه أبو هريرة و خرجه مسلم .
خرج عن سعيد بن أبي وقاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من أراد أهل المدينة بسوء أذابه الله كما يذوب الملح في الماء .
و نحوه عن أبي هريرة رضي الله عنه و مثل هذا كثير و هو خلاف ما تقدم ، و إذا كان هذا فظاهره التعارض و ليس كذلك ، فإن الحض على سكناها ربما كان عند فتح الأمصار و وجود الخيرات بها ، كما جاء في حديث سفيان بن أبي زهير قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : تفتح اليمن فيأتي قوم يعيشون فيتحملون بأهليهم و من أطاعهم و المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ، ثم تفتح الشام فيأتي قوم يعيشون فيتحملون بأهليهم و من أطاعهم و المدينة خير لهم لو كانوا يعملون ، ثم تفتح العراق فيأتي قوم يعيشون فيتحملون بأهليهم و من أطاعهم و المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون رواه الأئمة و اللفظ لمسلم فحض صلى الله عليه و سلم على سكناها حين أخبر بانتقال الناس عنها عند فتح الأمصار ، لأنها مستقر الوحي و فيها مجاورته ، ففي حياته صحبته و رؤية و جهه الكريم و بعد و فاته مجاورة حدثه الشريف و مشاهدة آثاره العظيمة ، و لهذا قال : لا يصبر أحد على لأوائها و شدتها إلا كنت شفيعاً أو شهيداً له يوم القيامة . و قال : من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها فإني أشفع لمن مات بها ثم إذاتغيرت الأحوال و اعتورتها الفتن و الأهوال كان الخروج منها غير قادح و الانتقال منها حسناً غير قادح .
فصل :
و أما قوله : من أراد أهل المدينة بسوء فذلك محمول على زمانه و حياته ، كما في الحديث الآخر لا يخرج أحد منهم رغبة عنها إلا أخلف الله فيها خيراً منه و قد خرج منها بعد موته صلى الله عليه و سلم من الصحابة من لم يعوضها الله خيراً منه ، فدل على أن ذلك محمول على حياته ، فإن الله تعالى كان يعوض أبداً رسوله صلى الله عليه و سلم خيراً ممن رغب عنه و هذا واضح ، و يحتمل أن يكون قوله : أذابه الله كناية عن إهلاكه في الدنيا قبل موته ، و قد فعل الله ذلك بمن غزاها و قاتل أهلها كمسلم بن عقبة إذ أهلكه الله عند مصرفه عنها إلى مكة لقتال عبد الله بن الزبير . بلاه الله بالماء الأصفر في بطنه فمات بقديد بعد الوقعة بثلاث .
و قال الطبري مات بهرشي و ذلك بعد الوقعةبيثلاث ليال ، و هرشي جبل من بلاد تهامة على طريق الشام و المدينة قريب من الجحفة ، و كإهلاك يزيد بن معاوية إثر إغرائه أهل المدينة حرم النبي المختار و قتله بها بقايا المهاجرين و الأنصار ، فمات بعد هذه الوقعة و إحراق الكعبة بأقل من ثلاثة أشهر ، و لأنه توفي بالذبحة و ذات الجنب في نصف ربيع الأول بحوارين من قرى حمص ، و حمل إلى دمشق و صلى عليه ابنه خالد . و قال المسعودي : صلى عليه ابنه معاوية و دفن في مقبرة باب الصغير ، و قد بلغ سبعاً و ثلاثين سنة فكانت ولايته ثلاث سنين و ثمانية أشهر و اثني عشر يوماً .
فصل :
و أما قوله : تتركون المدينة حدثنا المخاطب فمرداه غير المخاطبين ، لكن نوعهم من أهل المدينة أو نسلهم و على خير ما كانت عليه فيما قبل ، و قد و جد هذا الذي قاله النبي صلى الله عليه و سلم و ذلك أنها صارت بعده صلى الله عليه و سلم معدن الخلافة و موضعها ، و مقصد الناس و ملجأهم معلقهم حتى تنافس الناس فيها و توسعوا في خططها و غرسوا و سكنوا منها ما لم يسكن قبل ، و بنوا فيها و سيدوا حتى بلغت المساكن أهاب ، فلما انتهت حالها كمالاً و حسناً تناقص أمرها إلى أن أقفرت جهاتها بتغلب الأعراب عليها و توالي الفتن فيها ، فخاف أهلها و ارتحلوا عنها و صارت الخلافة بالشام ، و وجه يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة المزي في جيش عظيم من أهل الشام ، فنزل بالمدينة فقاتل أهلها فهزمهم و قتلهم بحرة المدينة قتلاً ذريعاً و استباح المدينة ثلاثة أيام ، فسميت و قعة الحرة لذلك ، و فيه يقول الشاعر :
فإن تقتلونا يوم حرة واقم فإنا على الإسلام أول من قتل
و كانت وقعة الحرة يوم الأربعاء لليلتين بقيتا لذي الحجة سنة ثلاث و ثلاثين و يقال لها حرة زهرة ، و كانت الوقعة بموضع يعرف بواقم على ميل من مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقتل بقايا المهاجرين و الأنصار و خيار التابعين و هم ألف و سبع مائة ، و قتل من أخلاط الناس عشرة آلاف سوى النساء و الصبيان ، و قتل بها من حملة القرآن سبعمائة رجل من قريش ، و سبعة و تسعون قتلوا جهراً ظلماً في الحرب و صبراً .
و قال الإمام الحافظ أبو محمد بن حزم في المرتبة الرابعة و جالت الخيل في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم و بالت وراثت بين القبر و المنبر أدام الله تشريفها ، و أكره الناس على أن يبايعوا ليزيد على أنهم عبيد له إن شاء باع و إن شاء أعتق ، و ذكر له يزيد بن عبد الله بن زمعة البيعة على حكم القرآن و السنة ، فأمر بقتله فضربت عنقه صبراً .
و ذكر الأخباريون أنها خلت من أهلها و بقيت ثمارها لعوافي الطير و السباع كما قال صلى الله عليه و سلم ، ثم تراجع الناس إليها و في حال خلوها غدت الكلاب على سواري المسجد ، و الله أعلم .
و ذكر أبو زيد عمر بن شبة قال : حدثنا صفوان عن شريح بن عبيد أنه قرأ كتاباً بالكعبة : ليغشين أهل المدينة أمر يفزعهم أمر يفزعهم حتى يتركوها و هي مذللة ، و حتى تبول السنانير على قطائف الخز ما يروعها شيء ، و حتى تخرق الثعالب في أسواقها ما يروعها شيء ، و أما قوله في الراعيين حتى إذا بلغا ثنية المداع خرا على وجهيهما فقيل سقطا ميتين .
قال علماؤنا : و هذا إنما يكون في آخر الزمان و عند انقراض الدنيا بدليل ما قال البخاري في هذا الحديث : آخر من يحشر راعيان من مزينة . قيل : معناه آخر من يموت فيحشر ، لأن الحشر بعد الموت ، و يحتمل أن يتأخر حشرها لتأخر موتهما . قال الداودي أبو جعفر أحمد بن نصر في شرح البخاري له : و قوله الراعيين ينعقان بغنمهما يعني يطلبان الكلأ .
و قوله : و حشا يعني خالية ، و قوله ثنية الوداع يعني موضعاً قريباً من المدينة مما يلي مكة .
و قوله : خرا على و جهيهما يعني أخذتهما الصعقة حين النفخة الأولى و هو الموت .
و قوله : آخر من يحشر يعني أنهما بأقصى المدينة فيكونان في أثر من يبعث منها ليس أن بعض الناس يخرج بعد بعض من الأجداث إلا بالشيء المتقارب يقول الله تعالى : إن كانت إلا صيحة واحدةً فإذا هم جميع لدينا محضرون .
و قوله النبي صلى الله عليه و سلم يصعق الناس فأكون أول من تنشق عنه الأرض ، فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش ، فلا أدري أفاق قبلي أو كان من الذين استثنى الله .
و قال شيخنا أبو العباس القرطبي : و يحتمل أن يكون معناه آخر من يحشر إلى المدينة أي يساق إليها ، كما في كتاب مسلم رحمه الله تعالى .
قال المؤلف رحمه الله : و قد ذكر ابن شبة خلاف هذا كله ، فذكر عن حذيفة بن أسيد قال : آخر الناس يحشر رجلان من مزينة يفقدان الناس ، فيقول أحدهما لصاحبه : قد فقدنا الناس منذ حين انطلق بنا إلى شخص بني فلان ، فينطلقان فلا يجدان بها أحداً ، ثم يقول : انطلق بنا إلى المدينة فينطلقان فلا يجدان بها أحداً ، ثم يقول : انطلق بنا إلى منازل قريش ببقيع الغرقد فينطلقان فلا يريان إلا السباع و الثعالب فيوجهان نحو البيت الحرام .
و قد ذكر عن أبي هريرة قال : [ آخر من يحشر رجلان رجل من جهينة و آخر من مزينة فيقولان : أين الناس فيأتيان المدينة فلا يريان إلا الثعلب ، فينزل إليهما ملكان فيسحبانهما على وجهيهما حتى يلحقاهما بالناس ] .
فصل :
و أما قوله في حديث أبي هريرة : يبايع لرجل بين الركن و المقام فهو المهدي الذي يخرج في آخر الزمان على مانذكره أيضاً يملك الدنيا كلها . و الله أعلم .
فروي أن جميع ملوك الدنيا كلها أربعة : مؤمنان و كافران . فالمؤمنان سليمان بن داود و الإسكندر ، و الكافران نمروذ و بخت نصر ، و سيملكها من هذه الأمة خامس و هو المهدي .