مثل الثعلب و الطبل
 
قال دمنة: زعموا أن ثعلباً أتى أجمةً فيها طبل معلق على شجرةٍ، وكلما هبت الريح على قضبان تلك الشجرية حركتها، فضربت الطبل فسمع له صوتٌ عظيمٌ؛ فتوجه الثعلب نحوه لأجل ما سمع من عظم صوته؛ فلما أتاه وجده ضخماً، فأيقن في نفسه بكثرة الشحم واللحم. فعالجه حتى شقه. فلما رآه أجوف لا شيء فيه، قال: لا أدري لعل أفشل الأشياء أجهرها صوتاً وأعظمها جثةً. وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أن هذا الصوت الذي راعنا، لو وصلنا إليه، لوجدناه ايسر مما في أنفسنا. فإن شاء الملك بعثني وأقام بمكانه حتى آتيه ببيان هذا الصوت. فوافق الأسد قوله، فأذن له بالذهاب نحو الصوت. فانطلق دمنة إلى المكان الذي فيه شتربة. فلما فصل دمنة من عند الأسد، فكر الأسد في أمره، وندم على إرسال دمنة حيث أرسله، وقال في نفسه: وأصبت في ائتماني دمنة، وقد كان ببابي مطروحاً، فإن الرجل إذا كان يحضر باب الملك، وقد أبطلت حقوقه من غير جرمٍ كان منه، أو كان مبغياً عليه عند سلطانه؛ أو كان عنده معروفاً بالشره والحرص، أو كان قد أصابه ضرٌ وضيقٌ فلم ينعشه، أو كان قد اجترم جرماً فهو يخاف العقوبة منه، أو كان يرجو شيئاً يضر الملك وله منه نفع؛ أو يخاف في شيءٍ مما ينفعه ضراً، أو كان لعدو الملك مسالماً، ولمسالمه محارباً، فليس السلطان بحقيقٍ أن يعجل بالاسترسال إليه، والثقة به، والائتمان له: فإن دمنة داهيةٌ أريبٌ. وقد كان ببابي مطروحاً مجفواً. ولعله قد احتمل علي بذلك ضغناً، ولعل ذلك يحمله على خيانتي وإعانة عدوي ونقيصتي عنده؛ ولعله صادف صاحب الصوت أقوى سلطاناً مني فيرغب به عني ويميل مع عليّ. ثم قام من مكانه فمشى غير بعيدٍ، فبصر بدمنة مقبلاً نحوه فطابت نفسه بذلك، ورجع إلى مكانه، ودخل دمنة على الأسد فقال له: ماذا صنعت? وماذا رأيت? قال: رأيت ثوراً هو صاحب الخوار والصوت الذي سمعته. قال: فما قوته? قال: لا شوكة له. وقد دنوت منه وحاورته محاورة الأكفاء ولا يصغرن عندك أمره: فإن الريح الشديدة لا تعبأ بضعيف الحشيش، لكنها تحطم طوال النخل وعظيم الشجر. قال دمنة: لا تهابن أيها الملك منه شيئاً؛ ولا يكبرن عليك أمره: فأنا آتيك به ليكون لك عبداً سامعاً مطيعاً. قال الأسد: دونك وما بدا لك.
فانطلق دمنة إلى الثور، فقال له غير هائب ولا مكترث: إن الأسد أرسلني إليك لآتيه بك. وأمرني، إن أنت عجلت إليه طائعاً، أو أؤمنك على ما سلف من ذنبك في التأخر عنه وتركك لقاءه؛ وإن أنت تأخرت عنه وأحجمت، أن أعجل الجرعة إليه فأخبره. قال له شتربة: ومن هو هذا الأسد الذي أرسلك إلي? وأين هو? وما حاله? قال دمنة: هو ملك السباع، وهو بمكان كذا، ومعه جندٌ كثيرٌ من جنسه فرعب شتربة من ذكر الأسد والسباع. وقال: إن أنت جعلت لي الأمان على نفسي أقبلت معك إليه. فأعطاه دمنة من الأمان ما وثق به. ثم أقبل والثور معه، حتى دخلا على الأسد فأحسن الأسد إلى الثور وقرّبه؛ وقال له: متى قدمت هذه البلاد? وما أقدمكها? فقص شتربة عليه قصته. فقال له الأسد اصحبني والزمني: فإني مكرمك. فدعا الثور وأثنى عليه.
ثم إن الأسد قرب شتربة وأكرمه وأنس به وأتمنه على أسراره وشاوره في أمره، ولم تزده الأيام إلا عجباً به ورغبةً فيه وتقريباً منه؛ حتى صار أخص أصحابه عنده منزلةً. فلما رأى دمنة أن الثور قد اختص بالأسد دونه ودون أصحابه، وأنه قد صاد صاحب رأيه وخلواته ولهوه، حسده حسداً عظيماً، وبلغ منه غيظه كل مبلغ: فشكا ذلك إلى أخيه كليلة، وقال له: ألا تعجب يا أخي من عجز رأيي، وصنعي بنفسي? ونظري فيما ينفع الأسد، وأغفلت نفع نفسي حتى جلبت إلى الأسد ثوراً غلبني على منزلتي.
قال كليلة: أخبرني عن رأيك وما تريد أن تعرم عليه في ذلك. قال دمنة: أما أنا فلست اليوم أرجو أن تزداد منزلتي عند الأسد فوق ما كانت عليه؛ ولكن ألتمس أن أعود إلى ما كنت عليه: فإن أموراً ثلاثةً العاقل جدير بالنظر فيها، والاحتيال لها بجهده: منها النظر فيما مضى من الضر والنفع، فيحترس من الضر الذي أصابه فيما سلف لئلا يعود إلى ذلك الضر، ويلتمس النفع الذي مضى ويحتال لمعاودته؛ ومنها النظر فيما هو مقيم فيه من المنافع والمضاء، والاستيثاق بما ينفع والهرب مما يضر؛ ومنها النظر في مستقبل ما يرجو من قبل النفع، وما يخاف من قبل الضر، فيستتم ما يرجو ويتوقى ما يخاف بجهده. وإني لما نظرت في الأمر الذي به أرجو أن تعود منزلتي، وما غلبت عليه مما كنت فيه، لم أجد حيلةً ولا وجهاً إلا الاحتيال لآكل العشب هذا، حتى أفرق بينه وبين الحياة: فإنه إن فارق الأسد عادت لي منزلتي. ولعل ذلك يكون خيراً للأسد: فإن إفراطه في تقريب الثور خليقٌ أن يشينه ويضره في أمره. قال كليلة: ما أرى على الأسد في رأيه في الثور ومكانه منه ومنزلته عنده شيناً ولا شراً. قال دمنة: إنما يؤتى السلطان ويفسد أمره من قبل ستة أشياء: الحرمان والفتنة والهوى والفظاظة والزمان والخرق.
فأما الحرمان فأن يحرم صالح الأعوان والنصحاء والساسة من أهل الرأي والنجدة والأمانة، وترك التفقد لمن هو كذلك. وأما الفتنة فهي تحارب الناس ووقوع الحرب بينهم. وأما الهوى فالغرام بالحدث واللهو والشراب والصيد وما أشبه ذلك. وأما الفظاظة فهي إفراط الشدة حتى يجمح اللسان بالشتم واليد بالبطش في غير موضعهما. وأما الزمان فهو ما يصيب الناس من السنين والموت ونقص الثمرات والغزوات وأشباه ذلك. وأما الخرق فإعمال الشدة في موضع اللين، واللين في موضع الشدة. وإن الأسد قد أغرم بالثور إغراماً شديداً هو الذي ذكرت لك أنه خليق لأن يشينه ويضره في أمره. قال كليلة: وكيف تطيق الثور وهو أشد منك وأكرم على الأسد وأكثر أعواناً? قال دمنة: لا تنظر إلى صغري وضعفي: فإن الأمور ليست بالضعف ولا القوة ولا الصغر ولا الكبر في الجثة: فرب صغيرٍ ضعيفٍ قد بلغ حيلته ودهائه ورأيه ما يعجز عنه كثير من الأقوياء. أولم يبلغك أن غراباً ضعيفاً احتال لأسود حتى قتله?

الموضوع التالي


مثل الغراب و الأسود

الموضوع السابق


مثل القرد و النجار