الباب الثاني في تقليد الوزارة
 


والوزارة على ضربين: وزارة تفويض ووزارة تنفيذ فأما وزارة التفويض فهو أن يستوزر الإمام من يفوض إليه تدبير الأمور برأيه وإمضاءها على اجتهاده، وليس يمتنع جواز هذه الوزارة، قال الله تعالى حكاية عن نبيه موسى عليه الصلاة والسلام: "واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي أشدد به أزري وأشركه في أمري".
فإذا جاز ذلك في النبوة كان في الإمامة أجوز، ولأن ما وكل إلى الإمام من تدبير الأمة لا يقدر على مباشرة جميعه إلا بالاستنابة، ونيابة الوزير المشارك له في التدبير أصلح في تنفيذ الأمور من تفرده بها ليستظهر به على نفسه وبها يكون أبعد من الزلل وأمنع من الخلل، ويعتبر في تقليد هذه الوزارة شروط الإمامة إلا النسب وحدة لأنه ممضى الآراء ومنفذ الاجتهاد فاقتضى أن يكون على صفات المجتهدين، ويحتاج فيها إلى شرط زائد على شروط الإمامة وهو أن يكون من أهل الكفاية فيما وكل إليه من أمر الحرب والخراج خبرة بهما ومعرفة بتفصيلهما فإنه مباشر لهما تارة ومستنيب فيهما أخرى، فلا يصل إلى استنابة الكفاة إلا أن يكون منهم، كما لا يقدر على المباشرة إذا قصر عنهم، وعلى هذا الشرط مدار الوزارة وبه تنتظم السياسة، حكى أن المأمون رحمه الله كتب في اختيار وزير: إني التمست لأموري رجلاً جامعاً لخصال الخير ذا عفة في خلائقه واستقامة في طرائقه، قد هذبته الآداب وأحكمته التجارب، إن اؤتمن على الأسرار قام بها وإن قلد مهمات الأمور نهض فيها، يسكته الحلم وينطقه العلم وتكفيه اللحظة وتغنيه اللحمة، له صولة الأمراء وأناة الحكماء وتواضع العلماء وفهم الفقهاء، إن أحسن إليه شكر، وإن ابتلى بالإساءة صبر، لا يبيع نصيب يومه بحرمان غده، يسترق قلوب الرجال بخلابة لسانه وحسن بيانه، وقد جمع بعض الشعراء هذه الأوصاف فأوجزها ووصف بعض وزراء الدولة العباسية بها فقال من الوافر:

بديهتـه وفـكـرتـه سـواء
***
إذا اشتبهت على الناس الأمور
وأحزم ما يكون الدهـر يومـاً
***
إذا أعي المشاور والمـشـير
وصدر فيه للـهـم اتـسـاع
***
إذا ضاقت من الهم الصـدور

فهذه الأوصاف إذا كملت في الزعيم المدبر - وقل ما تكمل - فالصلاح بنظره عام وما يناط برأيه وتدبيره تام، وإن اختلت فالصلاح بحسبها يختل والتدبير على قدرها يعتل ولئن لم يكن هذا من الشروط الدينية المحضة فهو من شروط السياسة الممازجة لشروط الدين لما يتعلق بها من مصالح الأمة واستقامة الملة. فإذا كملت شروط هذه الوزارة فيمن هو أهل لها فصحة التقليد فيها معتبرة بلفظ الخليفة المستوزر لأنها ولاية تفتقر إلى عقد والعقود لا تصح إلا بالقول الصريح، فإن وقع له بالنظر وأذن له لم يتم التقليد حكماً، وإن إمضاء الولاية عرفاً حتى يعقد له الوزارة بلفظ يشتمل على شرطين أحدهما عموم النظر، والثاني النيابة، فإن اقتصر به على النيابة فقط أبهم ما استنابه فيه من عموم وخصوص أو تنفيذ وتفويض فلم تنعقد به الوزارة، وإذا جمع بينهما انعقدت وتمت، والجمع بينهما يكون من وجهين: أحدهما وهو باحكام العقود أخص أن يقول قد قلدتك ما إلى نيابة عني فتنعقد به الوزارة لأنه قد جمع له بين عموم النظر والاستنابة في النظر، فإن قال له نب عني فيما إلى احتمل أن تنعقد به الوزارة؛ لأنه قد جمع له في هذا اللفظ بين الوجهين عموم النظر والاستنابة واحتمل أن لا تنعقد به الوزارة لأنه إذن يحتاج إلى أن يتقدمه عقد والإذن في أحكام العقود لا تصح به العقود، ولكن لو قال قد استنبتك فيما إلي انعقدت به الوزارة لأنه عدل عن مجرد الإذن إلى ألفاظ العقود، ولو قال فيما إلى لم تنعقد به الوزارة لاحتماله أن ينظر في تصفحه أو تنفيذه أو في القيام به، والعقد لا ينبرم بلفظ محتمل حتى يصله بما ينفي عنه الاحتمال وليس يراعي فيما يباشره الخلفاء وملوك الأمم من العقود العامة لا يراعي في الخاصة من الشروط المؤكدة لأمرين: أحدهما أن من عادتهم الاكتفاء بيسير القول عن كثيره فصار ذلك فيهم عرفاً مخصوصاً، وربما استثقلوا الكلام فاقتصروا على الإشارة غير أنه ليس يتعلق بها في الشرع حكم لناطق سليم فكلك خرجت بالشرع من عرفهم، والثاني أنهم لقلة ما يباشرونه من العقود بجعل نمو لهذا لحل في تأهبهم لها موجباً لحمل لفظهم المجعل على الغرض المقصود دون الاحتمال المجرد، فهذا وجه. والوجه الثاني وهو يعرف المنصب أشبه أن يقول قد استوزرتك تعويلاً على نيابتك فتنعقد به هذه الوزارة لأنه قد جمع بين عموم النظر فيما إليه بقوله استوزرتك، لأن نظر الوزارة عام وبين النيابة بقوله تعويلا على نيابتك فخرجت عن وزارة التنفيذ إلى وزارة التفويض، ولو قال قد فوضت إليك وزارتي احتمل أن تنعقد به هذه الوزارة أو ذكر التفويض فيها يخرجها عن وزارة التنفيذ إلى وزارة التفويض، ويحتمل أن لا تنعقد لأن التفويض من أحكام هذه الوزارة فافتقر إلى عقد يتقدمه، والأول من الاحتمالين أشبه بالصواب، فعلى هذا لو قال قد فوضنا إليك الوزارة صح لأن ولاة الأمور يكنون عن أنفسهم بلفظ الجمع ويعظمون عن إفاضة الشيء إليهم فيرسلونه فيقوم قوله قد فوضنا إليك مقام قوله فوضت إليك وقوله الوزارة مقام قوله وزارتي، وهذا أفخم قول عقدت به وزارة التفويض وأوجزه، ولو كني غير الملوك عن أنفسهم بالجمع وترك الإضافة لما تعلق به حكم التفرد والإضافة لخروجه عن العرف المعهود، فأما إذا قال قد قلدناك الوزارة لم يصر بهذا القول من وزراء التفويض حتى يبينه بما يستحق به التفويض لأن الله تعالى يقول عن نبيه موسى صلوات الله عليه: "واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي أشدد به أزري وأشركه في أمري".
فلم يقتصر على مجرد الوزارة حتى قرنها بشدة أزره وإشراكه في أمره، لأن اسم الوزارة مختلف في اشتقاقه على ثلاثة أوجه: أحدها أنه مأخوذ من الوزر وهو الثقل لأنه يحمل عن الملك أثقاله. الثاني أنه مأخوذ من الوزر وهو الملجأ ومنه قوله تعالى "كلا لا وزر" أي لا ملجأ فسمي بذلك، لأن الملك يلجأ إلى رأيه ومعونته. والثالث أنه مأخوذ من الأزر وهو الظهر، لأن الملك يقوى بوزيره كقوة البدن بالظهر ولأي هذه المعاني كان مشتقاً فليس في واحد منها ما يوجب الاستبداد بالأمور.
وإذا تقرر ما تنعقد به وزارة التفويض فالنظر فيها وإن كان على العموم معتبر بشرطين يقع الفرق بهما بين الإمامة والوزارة. أحدهما يختص بالوزير وهو مطالعة الإمام لما أمضاه من تدبير وأنفذه من ولاية وتقليد لئلا يصير بالاستبداد كالإمام. والثاني مختص بالإمام وهو أن يتصفح أفعال الوزير وتدبيره الأمور ليقر منها ما وافق الصواب ويستدرك ما خالفه لأن تدبير الأمة إليه موكول على اجتهاد محمول، ويجوز لهذا الوزير أن يحكم بنفسه وأن يقلد الحكام كما يجري ذلك الإمام لأن شروط الحكم فيه معتبرة. ويجوز أن ينظر في المظالم ويستنيب فيها لأن شروط المظالم فيه معتبرة. ويجوز أن يتولى الجهاد بنفسه، وأن يقلد من يتولاه لأن شروط الحرب فيه معتبرة. ويجوز أن يباشر تنفيذ الأمور التي دبرها، وأن يستنيب في تنفيذها، لأن شروط الرأي والتدبير فيه معتبرة. وكل ما صح من الإمام صح من الوزير إلا ثلاثة أشياء، أحدها ولاية العهد، فإن للإمام أن يعهد إلى من يرى وليس ذلك للوزير. والثاني أن للإمام أن يستعفي الأمة من الإمامة وليس ذلك للوزير. وللثالث أن للإمام أن يعزل من قلده الوزير، وليس للوزير أن يعزل من قلده الإمام، وما سوى هذه الثلاثة فحكم التفويض إليه يقتضي جواز فعله وصحة نفوذه منه، فإن عارضه الإمام في رد ما أمضاه، فإن كان في حكم نفذ عن وجهه أوفى الوضع في حقه لم يجز نقض ما نفذ باجتهاده من حكم ولا استرجاع ما فرق برأيه من مال، فإن كان في تقليد وال أو تجهيز جيش وتدبير حرب جاز للإمام معارضته بعزل المولى والعدول بالجيش إلى حيث يرى، وتدبير الحرب بما هو أولى لأن للإمام أن يستدرك ذلك من أفعال نفسه فكان أولى أن يستدركه من أفعال وزيره.
فلو قلد الإمام والياً على عمل وقلد الوزير غيره على ذلك العمل نظر في أسبقهما بالتقليد فإن كان الإمام أسبق تقليداً فتقليده أثبت ولا ولاية لمن قلده الوزير، وإن كان تقليد الوزير أسبق فإن علم الإمام بما تقدم من تقليد الوزير كان في تقليده الإمام لغيره عزل الأول واستئناف تقليد الثاني فصح الثاني دون الأول، وإن لم يعلم الإمام بما تقدم من تقليد الوزير فتقليد الوزير أثبت وتصح ولاية الأول دون الثاني، لأن تقليد الثاني الجهل بتقليد الأول لا يكون عزلاً ولو علم بتقليده. وقال بعض أصحاب الشافعي رضي الله عنه: لا ينعزل الأول مع علم الإمام بحاله إذا قلد غيره حتى يعزله قولاً فيصير بالقول معزولاً لا بتقليد غيره، فعلى هذا إن كان النظر مما لا يصح فيه الاشتراك صح تقليدهما فكانا مشتركين في النظر، فإن كان ممالاً يصح فيه الاشتراك كان تقليدهما موقوفاً على عزل أحدهما وإقرار الآخر؛ فإن تولى ذلك الإمام جاز أن يعزل أيهما شاء ويقر الآخر، وإن تولاه الوزير جاز أن يعزل من اختص بتقليده ولم يجز أن يعزل من قلده الإمام.
وأما وزارة التنفيذ فحكمها أضعف وشروطها أقل، لأن النظر فيها مقصور على رأي الإمام وتدبيره، وهذا الوزير وسط بينه وبين الرعايا والولاة يؤدي عنه ما أمر وينفذ عنه ما ذكر ويمضي ما حكم ويخبر بتقليد الولاة وتجهيز الجيوش ويعرض عليه ما ورد من مهم وتجدد من حدث ملم، ليعمل فيه ما يؤمر به، فهو معين في تنفيذ الأمور وليس بوال عليها ولا متقلداً لها، فإن شورك في الرأي كان باسم الوزارة أخص، وإن لم يشارك فيه كان باسم الواسطة والسفارة أشبه، وليس تفتقر هذه الوزارة إلى تقليد وإنما يراعى فيها مجرد الإذن ولا تعتبر في المؤهل لها الحرية ولا العلم، لأنه ليس له أن ينفرد بولاية ولا تقليد فتعتبر فيه الحرية، ولا يجوز له أن يحكم فيعتبر فيه العلم وإنما هو مقصور النظر على أمرين: أحدهما أن يؤدي إلى الخليفة، والثاني أن يؤدي عنه فيراعي فيه سبعة أوصاف: أحدها الأمانة حتى لا يخون فيما قد أؤتمن عليه ولا يغش فيما قد استنصح فيه، والثاني صدق اللهجة حتى يوثق بخبره فيما يؤديه ويعمل على قوله فيما ينهيه. والثالث قلة الطمع حتى لا يرتشي فيما يلي ولا ينخدع فيتساهل. والرابع أن يسلم فيما بينه وبين الناس من عداوة وشحناء، فإن العداوة تصد عن التناصف وتمنع من التعاطف. والخامس أن يكون ذكوراً لما يؤديه إلى الخليفة عنه لأنه شاهد له وعليه. والسادس الذكاء والفطنة حتى لا تدلس عليه الأمور فتشتبه، ولا تموه عليه فتلتبس، فلا يصح مع اشتباهها عزم ولا يصلح مع التباسها حزم، وقد أفصح بهذا الوصف وزير المأمون محمد بن يزداد حيث يقول من الطويل:

إصابة معنى المرء روح كلامـه
***
فإن أخطأ المعنى فـذاك مـوات
إذا غاب قلب المرء عن حفظ لفظه
***
فيقظته للـعـالـمـين سـبـات

والسابع أن لا يكون من أهل الأهواء فيخرجه الهوى من الحق إلى الباطل ويتدلس عليه المحق من المبطل، فإن الهوى خادع الألباب وصارف له عن الصواب. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "حبك الشيء يعمي ويصم".
قال الشاعر من السريع:

إنا إذا قلت دواعي الهوى
***
وأنصت السامع للقـائل
واصطرع القوم بألبابهـم
***
نقضي بحكم عادل فاضل
لا نجعل الباطل حقـاً ولا
***
نلفظ دون الحق بالباطل
تخاف أن تسفه أحلامنـا
***
فنحمل الدهر مع الحامل

فإن كان هذا الوزير مشاركاً في الرأي احتاج إلى وصف ثامن وهو الحنكة والتجربة التي تؤديه إلى صحة الرأي وصواب التدبير فإن في التجارب خبرة بعواقب الأمور، وإن لم يشارك في الرأي لم يحتج إلى هذا الوصف وإن كان ينتهي إليه مع كثرة الممارسة، ولا يجوز أن تقوم بذلك امرأة وإن كان خبرها مقبولاً لما تضمنه معنى الولايات المصروفة عن النساء لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة".
ولأن فيها من طلب الرأي وثبات العزم ما تضعف عنه النساء، ومن الظهور في مباشرة الأمور ما هو عليهم محظور، ويجوز أن يكون هذا الوزير من أهل الذمة وإن لم يجز أن يكون وزير التفويض منهم، ويكون الفرق بين هاتين الوزارتين بحسب الفرق بينهما في النظرين، وذلك من أربعة أوجه: أحدها أنه يجوز لوزير التفويض مباشرة الحكم والنظر في المظالم، وليس ذلك لوزير التنفيذ. والثاني أنه يجوز لوزير التفويض أن يستبد بتقليد الولاة وليس ذلك لوزير التنفيذ. والثالث أنه يجوز لوزير التفويض أن ينفرد بتسيير الجيوش وتدبير الحروب وليس ذلك لوزير التنفيذ. والرابع أنه يجوز لوزير التفويض أن يتصرف في أموال بيت المال بقبض ما يستحق له ويدفع ما يجب فيه وليس ذلك لوزير التنفيذ، وليس فيما عدا هذه الأربعة ما يمنع أهل الذمة منها إلا أن يستطيلوا فيكونوا ممنوعين من الاستطالة؛ ولهذه الفروق الأربعة بين النظيرين افترق في أربعة من شروط الوزارتين: أحدها أن الحرية معتبرة في وزارة التفويض وغير معتبرة في وزارة التنفيذ. والثاني أن الإسلام معتبر في وزارة التفويض وغير معتبر في وزارة التنفيذ والثالث أن العلم بالأحكام الشرعية معتبر في وزارة التفويض وغير معتبر في وزارة التنفيذ. والرابع أن المعرفة بأمري الحرب والخراج معتبرة في وزارة التفويض وغير معتبرة في وزارة التنفيذ، فافترقا في شروط التقليد من أربعة أوجه كما افترقا في حقوق النظر من أربعة أوجه واستويا فيما عداها من حقوق وشروط.
ويجوز للخليفة أن يقلد وزيري تنفيذ على اجتماع وانفراد، ولا يجوز أن يقلد وزيري تفويض على الاجتماع لعموم ولايتهما، كما لا يجوز تقليد إمامين لأنهما ربما تعارضا في العقد والحل والتقليد والعزل وقد قال الله تعالى: "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا".
فإن قلد وزيري تفويض لم يخل حال تقليده لهما من ثلاثة أقسام: أحدها أن يفوض إلى كل واحد منهما عموم النظر، فلا يصح لما قدمناه من دليل وتعليل وينظر في تقليدهما، فإن كان في وقت واحد بطل تقليدهما معاً، وإن سبق أحدهما الآخر صح تقليد السابق وبطل تقليد المسبوق. والفرق بين فساد التقليد والعزل أن فساد التقليد يمنع من نفوذ ما تقدم من نظره، والعزل لا يمنع من نفوذ ما تقدم من نظره. والقسم الثاني أن يشرك بينهما في النظر على اجتماعهما فيه ولا يجعل إلى واحد منهما أن ينفرد به فهذا يصح وتكون الوزارة بينهما لا في واحد منهما، ولهما تنفيذ ما اتفق رأيهما عليه، وليس لهما تنفيذ ما اختلفا فيه ويكون موقوفاً على رأي الخليفة وخارجاً عن نظر هذين، وتكون هذه الوزارة قاصرة على وزارة التفويض المطلقة من وجهين: أحدهما اجتماعهما على تنفيذ ما اتفقا عليه، والثاني زوال نظرهما عما اختلفا فيه، فإن اتفقا بعد الاختلاف نظر، فإن كان عن رأي اجتمعا على صوابه بعد اختلافهما فيه دخل في نظرهما وصح تنفيذه منهما، لأن ما تقدم من الاختلاف لا يمنع من جواز الاتفاق، وإن كان من متابعة أحدهما لصاحبه مع بقائهما على الرأي المختلف فيه فهو على خروجه من نظرهما لأنه لا يصح من النزير تنفيذ ما لا يراه صواباً.
والقسم الثالث أن لا يشرك بينهما في النظر ويفرد كل واحد منهما بما ليس فيه للأخر نظر، وهذا يكون على أحد وجهين: إما أن يخص كل واحد منهما بعمل يكون فيه عام النظر خاص العمل مثل أن يرد إلى أحدهما وزارة بلاد المشرق وإلى الآخر وزارة بلاد المغرب، وإما أن يخص كل واحد منهما بنظر يكون فيه عام العمل خاص النظر مثل أن يستوزر أحدهما على الحرب والآخر على الخراج فيصح التقليد على كلا الوجهين، غير أنهما لا يكونان وزيري تفويض ويكونان واليين على عملين مختلفين، لأن وزارة التفويض ما عمت ونفذ أمر الوزيرين بها في كل عمل وكل نظر، ويكون تقليد كل واحد منهما مقصوراً على ما خص به، وليس له معارضة الآخر في نظره وعمله ويجوز للخليفة أن يقلد وزيرين وزير تفويض ووزير تنفيذ فيكون وزير التفويض مطلق التصرف ووزير التنفيذ مقصوراً على تنفيذ ما وردت به أوامر الخليفة، ولا يجوز لوزير التنفيذ أن يولي معزولاً ولا يعزل من ولاه الخليفة، وليس لوزير التنفيذ أن يوقع عن نفسه ولا عن الخليفة إلا بأمره، ويجوز لوزير التفويض أن يوقع عن نفسه إلى عماله وعمال الخليفة ويلزمهم قبول توقيعاته، ولا يجوز أن يوقع عن الخليفة إلا بأمره في عموم أو مخصوص، وإذا عزل الخليفة وزير التنفيذ لم يعزل به أحد من الولاة، وإذا عزل وزير التفويض انعزل به عمال التنفيذ ولم ينعزل به عمال التفويض لأن عمال التنفيذ نياب وعمال التفويض ولاة، ويجوز لوزير التفويض أن يستخلف نائباً عنه، ولا يجوز لوزير التنفيذ أن يستخلف من ينوب عنه، لأن الاستخلاف تقليد فصح من وزير التفويض ولم يصح من وزير التنفيذ، وإذا نهى الخليفة وزير التفويض عن الاستخلاف لم يكن له أن يستخلف، وإذا أذن لوزير التنفيذ في الاستخلاف جاز له أن يستخلف لأن كل واحد من الوزيرين يتصرف عن أمر الخليفة ونهيه وإن افترق حكمهما مع إطلاق التقليد، وإذا فوض الخليفة تدبير الأقاليم إلى ولاتها ووكل النظر فيها إلى المسئولين عليها كالذي عليه أهل زمامنا جاز لمالك كل إقليم أن يستوزر، وكان حكم وزيره معه كحكم وزير الخليفة مع الخليفة في اعتبار الوزارتين وأحكام النظرين.