الباب الرابع : في تقليد الإمارة على الجهاد : أ
 


والإمارة على الجهاد مختصة بقتال المشركين. وهي على ضربين: أحدهما أن تكون مصورة على سياسة الجيش وتدبير الحرب؛ فيعتبر فيه شروط الإمارة الخاصة. والضرب الثاني أن يفوض إلى الأمير فيها جميع أحكامها من قسم الغنائم وعقد الصلح، فيعتبر فيها شروط الإمارة العامة، وهي أكبر الولايات الخاصة أحكاماً وأوفرها فصولاً وأقساماً وحكمها إذا خصت داخل في حكمها إذا عمت، فاقتصرنا عليه إيجازاً.
والذي يتعلق بها من الأحكام إذا عمت ستة أقسام: القسم الأول في تسيير الجيش، وعليه في السير بهم سبعة حقوق: أحدها الرفق بهم في السير الذي يقدر عليه أضعفهم وتحفظ به قوة أقواهم، ولا يجد السير فيهلك الضعيف ويستفرع جلد القوي، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى وشر السير الحقحقة".
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المضعف أمير الرفقة". يريد أن من ضعفت دابته كان على القوم أن يسيروا بسيره، والثاني أن يتفقد خيلهم التي يجاهدون عليها وظهورهم التي يمتطونها، فلا يدخل في خيل الجهاد ضخماً كبيراً ولا ضرعاً صغيراً ولا حطماً كسيراً ولا أعجف زارحاً هزيلاً، لأنها لا تقي وربما كان ضعفها وهناً، ويتفقد ظهور الامتطاء والركوب، فيخرج منها ما لا يقدر على السير ويمنع من حمل زيادة على طاقتها، قال الله تعالى: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل".
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ارتبطوا الخيل، فإن ظهورها لكم عز، وبطونها لكم كنز".
والثالث أن يراعي من معه من المقاتلة وهم صنفان: مسترزقة ومتطوعة، فأما المسترزقة فهم أصحاب الديوان من أهل الفيء والجهاد، يفرض لهم العطاء من بيت المال من الفيء بحسب الغني والحاجة. وأما المتطوعة فهم الخارجون عن الديوان من البوادي والأعراب وسكان القرى والأمصار الذين خرجوا في النفير الذي ندب الله تعالى إليه بقوله: "انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله".
وفي قوله تعالى: "خفافاً وثقالاً". أربعة تأويلات: أحدهما شباناً وشيوخاً قاله الحسن وعكرمة. والثاني أغنياء وفقراء قاله أبو صالح. والثالث ركباناً ومشاة قاله أبو عمر. الرابع ذا عيال وغير ذي عيال قاله الفراء وهؤلاء يعطون من الصدقات دون الفيء من سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم المذكور في آية الصدقات، ولا يجوز أن يعطوا من الفيء لأن حقهم في الصدقات ولا يعطى أهل الفيء المسترزقة من الديوان من مال الصدقات، لأن حقهم في الفيء ولكل واحد من الفريقين مال لا يجوز أن يشارك غيره فيه، وجوز أبو حنيفة صرف كل واحد من المالين إلى كل واحد من الفريقين بحسب الحاجة، وقد ميز الله تعالى بين الفريقين فلم يجز الجمع بين ما فرق: والرابع أن يعرف على الفريقين العرفاء. وينقل عليهما النقباء ليعرف من عرفائهم ونقبائهم أحوالهم ويقربون عليه إذا دعاهم، فقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك في مغازيه وقال الله تعالى: "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا".
وفيها ثلاثة تأويلات: أحدها أن للشعوب النسب الأقرب، والقبائل النسب الأبعد قاله مجاهد، والثاني أن الشعوب. عرب قحطان، والقبائل عرب عدنان والثالث أن الشعوب بطون العجم، والقبائل بطون العرب. والخامس أن يجعل لكل طائفة شعاراً يتداعون به ليصيروا متميزين وبالاجتماع متظافرين، روى عروة بن الزبير عن أبيه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل شعار المهاجرين يا بني عبد الرحمن وشعار الخزرج يا بن عبد الله، وشعار الأوس يا بني عبيد الله، وسمى خيله خيل الله".
والسادس أن يتصفح الجيش ومن فيه ليخرج منهم من كان فيه تخذيل للمجاهدين وإرجاف للمسلمين أو عيناً عليهم للمشركين. فقد رد رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي سلول في بعض غزواته لتخذيله المسلمين، وقال تعالى: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله". أي لا يفتن بعضكم بعضاً. والسابع أن لا يمالئ من ناسبه أو وافق رأيه ومذهبه على من باينه في نسب أو خالفه في رأي ومذهب، فيظهر من أحوال المباينة ما تفرق به الكلمة الجامعة تشاغلاً بالتقاطع والاختلاف، وقد أغضى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين وهم أضداد في الدين، وأجرى عليهم حكم الظاهر حتى قويت بهم الشوكة وكثر بهم العدد وتكاملت بهم القوة، ووكلهم فيما أضمرته قلوبهم من النفاق إلى علام العيوب المؤاخذ بضمائر القلوب. قال الله تعالى: "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم".
وفيه تأويلان: أحدهما أن المراد بالريح الدولة قاله أبو عبيدة، والثاني أن المراد بها القوة فضرب الريح بها مثلاً لقوتها.
والقسم الثاني من أحكام هذه الإمارة في تدبير الحرب، والمشركون في دار الحرب صنفان: صنف منهم بلغتهم دعوة الإسلام فامتنعوا منها وتابوا عليها، فأمير الجيش مخير في قتالهم بين أمرين يفعل منهما ما علم أنه الأصلح للمسلمين وأنكاً للمشركين من بياتهم ليلاً ونهاراً بالقتال والتحريق، وأن ينذرهم بالحرب ويصافهم بالقتال. والصنف الثاني: لم تبلغهم دعوة الإسلام، وقل أن يكونوا اليوم لما قد أظهر الله من دعوة رسوله، إلا أن يكون قوم من وراء من يقابلنا من الترك والروم في مبادي المشرق وأقاصي المغرب لا نعرفهم فيحرم علينا الإقدام على قتالهم غرة وبياتاً بالقتل والتحريق وأن نبدأهم بالقتل قبل إظهار دعوة الإسلام لهم وإعلامهم من معجزات النبوة وإظهار الحجة بما يقودهم إلى الإجابة، فإن قاموا على الكفر بعد ظهورها لهم حاربهم وصاروا فيه كمن بلغتهم الدعوة، قال الله تعالى: "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن". يعني ادع إلى دين ربك بالحكمة، وفبها تأويلان: أحدهما بالنبوة، والثاني بالقرآن قال الكابي: وفي الموعظة الحسنة تأويلان: أحدهما القرآن في لين من القول قاله الكابي، والثاني ما فيه من الأمر والنهي. "وجادلهم بالتي هي أحسن". أي يبين لهم الحق ويوضح لهم الحجة، فإن بدأ بقتالهم قبل دعائهم إلى الإسلام وإنذارهم بالحجة وقتلهم غرة وبياتاً ضمن ديات نفوسهم وكانت على الأصح من مذهب الشافعي كديات المسلمين، وقيل بل كديات الكفار على اختلافها اختلاف معتقدهم: وقال أبو حنيفة: لا دية على قتلهم ونفوسهم هدر، وإذا تقاتلت الصفوف في الحرب جاز لمن قاتل من المسلمين أن يعلمهم بما يشتهر به بين الصفين ويتميز به من جميع الجيش بأن يركب الأبلق وإن كانت خيول الناس دهماً وشقراً، ومنع أبو حنيفة من الإعلام بركوب الأبلق وليس لمنعه من ذلك وجه، روى عبد بن عون الله عن عمير عن أبي إسحق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: "تسوموا فإن الملائكة قد تسومت".
ويجوز أن يجيب إلى البراز إذا دعي إليه. فقد دعا أبي بن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البراز يوم أحد فبرز إليه فتله، وأول حرب شهدها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، فبرز إليهم من الأنصار عرف ومسعود ابنا عفراء وعبد الله بن رواحة فقالوا ليبرز أكفاؤنا إلينا فما نعرفكم، فبرز إليهم ثلاثة من بني هاشم، برز علي بن أبي طالب إلى الوليد فقتله، وبرز حمزة بن عبد المطلب إلى عتبة فقتله وبرز عبيدة بن الحارث إلى شيبة فاختلفا بضربتين أثبت كل واحد منهما صاحبه ومات شيبة لوقته واحتمل عبيدة حياً قد قدت رجله فمات بالصفراء فقال فيه كعب بن مالك من المتقارب:
أيا عين جودي ولا تبخلي
****
بدمعك وكفا ولا تنـزري
على سيد هدنا هـلـكـه
****
كريم المشاهد والعنصري
عبيدة أمسى ولا نرتجـي
****
ه لعرف غدا ولا منكـر
وقد كان يحمي عداة القتا
****
ل حامية الجيش بالمبتـر

ثم نذرت هند بنت عتبة لوحشي نذوراً إن قتل حمزة بأبيها يوم أحد فلما قتله بقرت بطنه ولاكت كبده رضوان الله عليه وأنشأت تقول من السريع:

نحن جـزينـاكـم بـيوم بـدر
***
والحرب بعد الحرب ذات سعر
ما كان عن عتبة لي من صبـر
***
ولا أخـي وعـمـه وبـكـر
سفيت نفسي وقضـيت نـذري
***
شفيت وحشي غليل صـدري
فشكر وحشي على عـمـري
***
حتى تضم أعظمي في قبـري

وهذا أقر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرب أهله إليه من بني هاشم وبني عبد المطلب من مبارزة يوم بدر مع ضنه بهم وإشفاقه عليهم، وبارز أبياً بنفسه يوم أحد وأذن لعلي عليه السلام في حرب الخندق والخطب أصعب، وإشفاقه صلى الله عليه وسلم على علي أكثر بارز عمرو بن عبد ود لما دعا إلى البراز أول يوم فلم يجبه أحد ثم دعا إلى البراز في اليوم الثاني فلم يجبه أحد ثم دعا إلى البراز في اليوم الثالث وقال حين رأى الإحجام عنه والحذر منه: يا محمد ألستم تزعمون أن قتلاكم في الجنة أحياء عند ربهم يرزقون وقتلانا في النار يعذبون؟ فما يبالي أحدكم ليقدم على كرامة من ربه أو يقدم عدواً إلى النار وأنشأ يقول من الكامل:

ولقد دنوت إلـى الـنـدا
****
ء لجمعهم هل من مبارز
وقفت إذا جبن المشجـع
****
موقف القرن المناجـز
إنـي كـذلـك لـم أزل
****
متسرعاً نحو الهزاهـز
إن الشجاعة في الفـتـى
****
والجود من خير الغرائز

فقام علي عليه السلام، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المبارزة فأذن له وقال اخرج يا علي في حفظ الله وعياذه، فخرج وهو يقول من الكامل:


أبشر أتـاك يجـيب صـو
***
تك في الهزاهز غير عاجز
ذو نـية وبــصـــيرة
***
برجو الغداة نـجـاة فـائز
إنــي لأرجـــو أن أق
***
يم عليك نائعة الـجـنـائز
من طـعـنة نـجـلاء يب
***
هر ذكرها عند الـهـزائز

وتجاولا وثارت عجاجة أخفتهما عن الأبصار، ثم انجلت عنهما وعلي رضي الله عنه يمسح سيفه بثوب عمرو وهو قتيل، حكاه محمد بن إسحق في مغازيه، فدل هذان الخبران على جواز البراز مع التغرير بالنفس. فأما إذا أراد المقاتل أن يدعو إلى البراز مبتدئاً فقد منعه أبو حنيفة لأن الدعاء إلى البراز والابتداء بالتطاول بغي، وجوزه الشافعي لأنه إظهار قوة في دين الله تعالى ونصرة رسوله، فقد ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مثله وحث عليه وتخير له مع استظهاره بنفسه من أقدم عليه وبدأ به.
حكى محمد بن إسحق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهر يوم أحد بين درعين وأخذ سيفاً فهزه وقال. من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فقام إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال أنا آخذه بحقه، فأعرض عنه، ثم هزه الثانية وقال من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فقام إليه الزبير بن العوام وقال أنا آخذه بحقه فأعرض عنه فوجدا في أنفسهما، ثم عرضه الثالثة وقال من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فقام إليه أبو دجانة سماك بن خراشة فقال وما حقه يا رسول الله؟ قال أن تضرب في العدو حتى ينحني، فأخذه منه وأعلم بعصابة حمراء كان إذا أعلم بها علم الناس أنه سيقاتل ويبلي، ومشى إلى الحرب وهو يقول من السريع:

أنا الذي أخذته فـي رقـه
***
إذ قال من يأخذه بحـقـه
قبلته بعـدلـه وصـدقـه
***
للقادر الرحمن بين خلقـه
المدرك الفاض فضل رزقه
***
من كان في مغربه وشرقه

ثم جعل يتبختر بين الصفين فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن".
ودخل في الحرب مبتدئاً بالقتال فأبلى وأنكى وهو يقول من السريع:

أنا الذي عاهدني خـلـيل
****
ونحن بالسفح من النخيل
لا أقو أم الدهر في الكبول
****
أخذت سيف الله والرسول
وإذا جازت المبارزة بما استشهدنا من حال المبتدئ بها وأجيب إليها كان لتمكين المبارزة شرطان: أحدهما أن يكون ذا نجدة وشجاعة يعلم من نفسه أنه لن يعجز عن مقاومة عدوه، فإن كان بخلافه منع، والثاني أن لا يكون زعيماً للجيش يؤثر فقده فيهم فإن الزعيم المدبر مفض إلى الهزيمة ورسول الله صلى الله عليه وسلم أقدم على البراز ثقة بنصر الله سبحانه وإنجاز وعده وليس ذلك لغيره؛ ويجوز لأمير الجيش إذا حض على الجهاد أن يحرض للشهادة من الراغبين فيها من يعلم أن مثله في المعركة يؤثر أحد أمرين إما تحريض المسلمين على القتال حمية له، وإما تخذيل المشركين بجراءة عليهم في نصرة الله.
حكى محمد بن إسحق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من العريش يوم بدر فحرض الناس على الجهاد وقال: لكل امرئ ما أصاب؟ وقال والذي نفسي بيده لا يقاتلهم اليوم رجل، فيقتل صابراً محتسباً، مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة فقال عمير بن حمام من بني مسلمة وفي يده تمرات يأكلهن: بخ بخ، ما بقي بيني وبين الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء القوم ثم قذف بالتمرات من يده وأخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل رحمه الله، وهو يقول من السريع:

ركضاً إلى الله بغـير زاد
***
إلا التقى وعمل المـعـاد
والصبر في الله على الجهاد
***
وكل زاد عرضه النـفـاد
غير التقى والبر والرشـاد
***


ويجوز للمسلم أن يقتل من ظفر به من مقاتلة المشركين محارباً وغير محارب.
واختلف في قتل شيوخهم ورهبانهم من سكان الصوامع والأديرة، فأحد القولين فيهم أنهم لا يقتلون حتى يقاتلوا لأنهم موادعون كالذراري. والثاني يقتلون وإن لم يقاتلوا لأنهم ربما أشاروا برأي هو أنكى للمسلمين من القتال، وقد قتل دريد بن الصمة في حرب هوازن وهو يوم حنين وقد جاوز مائة سنة من عمره ورسول الله صلى الله عليه وسلم يراه فلم ينكر قتله، وكان يقول حيث قتل من الطويل:

أمرتهم أمري بمتعرج الـلـوى
***
فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
فلما عصوني كنت منهم وقد أرى
***
غوايتهم وأني غـير مـهـتــد

ولا يجوز قتل النساء والولدان في حرب ولا في غيرها ما لم يقاتلوا لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلهم، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل العسفاء والوصفاء، والعسفاء: المستخدمون. والوصفاء: المماليك، فإن قاتل النساء والولدان قوتلوا وقتلوا مقبلين ولا يقتلوا مدبرين. وإذا تترسوا في الحرب بنسائهم وأطفالهم عند قتلهم يتوقى قتل النساء والأطفال، فإن لم يوصل إلى قتلهم إلا بقتل النساء والأطفال جاز، ولو تترسوا بأسارى المسلمين ولم يوصل إلى قتلهم إلا بقتل الأسارى لم يجز قتلهم فإن أفضى الكف عنهم إلى الإحاطة بالمسلمين توصلوا إلى الخلاص منهم كيف أمكنهم وتحرزوا أن يعمدوا إلى قتل مسلم في أيديهم، فإن قتل ضمنه قاتله بالدية والكفارة إن عرف أنه مسلم وضمن الكفارة وحدها إن لم يعرفه. ويجوز عقر خيلهم من تحتهم إذا قاتلوا عليها ومنع بعض الفقهاء من عقرها، وقد عقر حنظلة بن الراهب فرس أبي سفيان بن حرب يوم أحد واستعلى عليه ليقتله فرآه ابن شعوب فبرز إلى حنظلة وهو يقول من السريع:

لأحمين صاحبي ونفسـي
***
بطعنة مثل شعاع الشمـس

ثم طعن حنظلة فقتله واستنقذ أبا سفيان منه فخلص أبو سفيان وهو يقول من الطويل:

وما زال مهري مزجر الكلب منهم
***
لدن غدوة حتى دنـت لـغـروب
أقاتلهم طـرا وأدعـو لـغـالـب
***
وأدفعهم عني بركـن صـلـيب
ولو شئت نجاني حصان طـمـرة
***
ولم أحمل النعماء لابن شـعـوب

فبلغ ذلك ابن شعوب فقال مجيباً له حين لم يشكره من الطويل:

لو لا دفاعي يا ابن حرب ومشهدي
***
لألفيت يوم النعف غير مـجـيب
ولو لا مكر المهر بالعنف قرقرت
***
ضياع على أوصالـه وكـلـيب

فأما إذا أراد المسلم أن يعقر فرس نفسه. فقد روى أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه اقتحم يوم مؤتة بفرس له شقراء حتى التحم القتال ثم نزل عنها وعقرها وقاتل حتى قتل رضي الله عنه فكان أول رجل من المسلمين عقر فرسه في الإسلام وليس لأحد من المسلمين أن يعقر فرسه لأنها قوة أمر الله تعالى بإعدادها في جهاد عدوه حيث يقول: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم".
وجعفر إنما عقر فرسه بعد أن أحيط به فيجوز أن يكون عقره لها لئلا يتقوى بها المشركون على المسلمين فصار عقرها مباحاً كعقر خيلهم وإلا فجعفر أحفظ لدينه من أن يفعل ما يمنع منه الشرع، ولما عاد جيشه تلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه فجعل الناس يحثون على الجيش التراب ويقولون يا فرار لم فررتم في سبيل الله؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ليس بفرار، ولكنه الكرار إن شاء الله.
والقسم الثالث من أحكام هذه الإمارة ما يلزم من أمير الجيش في سياستهم والذي يلزمهم فيهم عشرة أشياء: أحدها حراستهم من غرة يظفر بها العدو منهم، وذلك بأن يتتبع المكامن ويحوط سوادهم بحرس آمنون به على نفوسهم ورحالهم، ليسكنوا في وقت الدعة ويأمنوا ما وراءهم في وقت المحاربة. والثاني: أن يتخير لهم موضع نزولهم لمحاربة عدوهم، وذلك أن يكونوا أوطأ الأرض مكاناً وأكثر مرعى وماء وأحرسها أكنافاً وأطرافاً ليكون أعون لهم على المنازلة وأقوى لهم على المرابطة. والثالث: إعداد ما يحتاج الجيش إليه من زاد وعلوفة تفرق عليهم في وقت الحاجة حتى تسكن نفوسهم إلى مادة يستغنون عن طلبها، ليكونوا على الحرب أوفر وعلى منازلة العدو أقدر. والرابع: أن يعرف أخبار عدوه حتى يقف عليها ويتصفح أحواله حتى يخبرها فتسلم من مكره ويلتمس الغرة في الهجوم عليه. والخامس: ترتيب الجيش في مصاف الحرب والتعويل في كل جهة يميل العدو عليها بمدد يكون عوناً لها. والسادس أن يقوي نفوسهم بما يشعرهم من الظفر ويخيل إليهم من أسباب النصر ليقل العد في أعينهم فيكون عليه أجرأ وبالجراءة يتسهل للظفر، قال الله تعالى: "إذ يريكهم الله في منامك قليلاً ولو أراكهم كثيراً لفشلتم ولتنازعتم في الأمر".
والسابع: أن يعد أهل الصبر والبلاء منهم بثواب الله لو كانوا من أهل الآخرة وبالجزاء والثقل من الغنيمة إن كانوا من أهل الدنيا، قال الله تعالى: "ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها".
وثواب الدنيا الغنيمة وثواب الآخرة الجنة، فجمع الله تعالى في ترغيبه بين أمرين ليكون أرغب الفريقين. والثامن: أن يشاور ذوي الرأي فيما أعضل ويرجع إلى أهل الحزم فيما أشكل ليأمن الخطأ ويسلم من الزلل فيكون من الظفر أقرب، قال الله تعالى لنبيه: "وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله".
واختلف أهل التأويل في أمره لنبيه صلى الله عليه وسلم بالمشاورة مع ما أمده به من التوفيق وأعانه من التأييد على أربعة أوجه. أحدها أنه أمره بمشاورتهم في الحرب ليستقر له الرأي الصحيح فيه فيعمل عليه وهذا قول الحسن، وقال: "ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم".
والثاني أنه أمره بمشاورتهم تأليفاً وتطييباً لنفوسهم، وهذا قول قتادة. والثالث أنه أمره بمشاورتهم لما علم فيها من الفضل وعاد بها من النفع وهذا قول الضحاك، والرابع أنه أمره بمشاورتهم ليستن به المسلمون ويتبعه فيها المؤمنون وإن كان عن مشورتهم غنياً وهذا قول سفيان. والتاسع أن يأخذ جيشه بما أوجبه الله تعالى من حقوقه ومر به من حدوده حتى لا يكون بينهم تجوز في دين ولا تحيف في حق، فإن من جاهد عن الدين كان أحق الناس بالتام أحكامه والفصل بين حلاله وحرامه.
وقال روى حارث بن نبهان عن أبان بن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "انهوا جيوشكم عن الفساد، فإنه ما فسد جيش قط إلا قذف الله في قلوبهم الرعب وانهوا جيوشكم عن الغلول فإنه ما غل جيش قط إلا سلط الله عليهم الرجلة، وانهوا جيوشكم عن الزنا، فإنه ما زنا جيش قط إلا سلط الله عليهم المؤتان".
وقال أبو الدرداء. أيها الناس اعملوا صالحاً قبل الغزوة فإنما تقاتلون بأعمالكم والعاشر أن لا يمكن أحداً من جيشه أن يتشاغل بتجارة أو زراعة لصرفه الاهتمام بها عن مصايرة العدو، وصدق الجهاد، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بعثت مرغمة ومرحمة ولم أبعث تاجراً ولا زارعاً وإن شر هذه الأمة التجار والزراع إلا من شح على دينه، وغزا نبي من أنبياء الله تعالى فقال: "لا يغزون معي رجل بنى بناء لم يكمله، ولا رجل تزوج بامرأة ولم يدخل بها ولا رجل زرع زرعاً لم يحصده".
والقسم الرابع من أحكام هذه الإمارة ما يلزم المجاهدين معه من حقوق الجهاد وهو ضربان: أحدهما ما يلزمهم في حق الله تعالى، والثاني ما يلزمهم في حق الأمير عليهم، فأما اللازم لهم في حق الله تعالى فأربعة أشياء: أحدها مصابرة العدو عند التقاء الجمعين بأن لا ينهزم عنه من مثليه فما دونه، وقد كان الله تعالى فرض في أول الإسلام على كل مسلم أن يقاتل عشرة من المشركين، فقال: "يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون".
ثم خفف الله عز وجل عنهم عند قوة الإسلام وكثرة أهله، فأوجب على كل مسلم لاقى العدو أن يقاتل رجلين منهم، فقال: "الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً، فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين".
وحرم على كل مسلم أن ينهزم من مثليه إلا لإحدى حالتين: إما أن يتحرف لقتال فيولي لاستراحة أو لمكيدة ويعود إلى قتالهم، وإما أن يتحيز إلى فئة أخرى يجتمع معها على قتالهم لقول الله تعالى: "ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله".
وسواء قربت الفئة التي يتحيز إليها أو بعدت فقد قال عمر رضي الله عنه لأهل القادسية حين انهزموا إليه أنا فئة لكل مسلم، ويجوز إذا زادوا على مثليه ولم يجد إلى المصابرة سبيلاً أن يولى عنهم غير متحرف لقتال ولا متحيز إلى فئة، هذا مذهب الشافعي. واختلف أصحابه فيمن عجز عن مقاومة مثليه وأشرف على القتل في جواز انهزامه، فقالت طائفة: لا يجوز أن يولي عنهم منهزماً وإن قتل للنص فيه وقالت طائفة: يجوز أن يولي ناوياً أن يتحرف لقتال أو بتحيز إلى فئة ليسلم من القتل وما ثم خلاف، فإنه وإن عجز على المصابرة فليس يعجز عن هذه النية. وقال أبو حنيفة لا اعتبار بهذا التفصيل والنص فيه منسوخ وعليه أن يقاتل ما أمكنه ونهزم إذا عجز وخاف القتل. والثاني أن يقصد بقتاله نصره دين الله تعالى وإبطال ما خالفه من الأديان: "ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون".
فيكون بهذا الاعتقاد حائزاً لثواب الله تعالى ومطيعاً له في أوامره ونصرة دينه ومستنصراً به على عدوه ليستسهل ما لاقى، فيكون أكثر ثباتاً وأبلغ نكاية، ولا يقصد بجهاده استفادة المغنم فيصير من المكتسبين لا من المجاهدين، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جمع أسرى بدر وكانوا أربعة وأربعين رجلاً بعد أن قتل في المعركة من أشراف قريش مثلهم شاور أصحابه فيهم. فقال عمر: يا رسول الله اقتل أعداء الله أئمة الكفر ورؤوس الضلالة فإنهم كذبوك وأخرجوك، وقال أبو بكر: هم عشيرتك وأهلك تجاوز عنهم يستنقذهم الله بك من النار، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قبل الأسرى بيوم. فمن قائل القول ما قال عمر ومن قائل القول ما قال أبو بكر ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وقال: "ما قولكم في هذين الرجلين؟ إن مثلهما كمثل إخوة لهما كانوا من قبلهما قال نوح" رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً" وقال موسى. "ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم " وقال عيسى: "إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم" وقال إبراهيم: "فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم" إن الله سبحانه ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، ويلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن وإن يكن منكم عيله فلا ينقلب أحد منكم إلا بفداء أو ضربة عنق".
وفاداه كل أسير بأربعة آلاف درهم وكان في الأسرى العباس بن عبد المطلب أسره أبو اليسر وكان العباس رجلاً جسماً وأبو اليسر رجلاً مجتمعاً فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي اليسر: "كيف أسرت العباس يا أبا اليسر؟ قال: يا رسول الله لقد أعانني عليه رجل ما رأيته قط، هيئته كذا وكذا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أعانك عليه ملك كريم وقال للعباس: أفد نفسك وابني أخيك عقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحارث وحليفك عتبة بن عمر. فقال يا رسول الله إني كنت مسلماً ولكن القوم استكرهوني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اعلم بإسلامك. فإن كان ما قلت فإن الله سبحانه يجزيك. ففدي العباس نفسه بمائة أوقية وفدى كل واحد من ابني أخيه وحليفه بأربعين أوقية. ونزل في العباس قوله تعالى: " يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم".
فلما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم فداء أسرى بدر لفقراء المهاجرين وحاجتهم عاتب الله تعالى نبيه على ما فعل فقال: "ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض" يعني به القتل "تريدون عرض الدنيا" يعني مال الفداء "والله يريد الآخرة" يعني العمل بما يوجب ثواب الآخرة "والله عزيز حكيم" يعني عزيز فيما كان من نصركم. حكيم فيما أراه لكم، "لو لا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم".
يعني به مال الفداء المأخوذ من الأسرى. وفيه ثلاثة تأويلات: أحدها لو لا كتاب من الله سبق في أهل بدر أن لا يعذبهم لمسكم فيما أخذتم من فداء أسرى بدر عذاب عظيم، وهذا قول مجاهد. والثاني لو لا كتاب من الله سبق في أنه تستحل الغنائم لمسكم في تعجيلها من أهل بدر عذاب عظيم، وهذا قول ابن عباس رضوان الله عليه. والثالث لو لا كتاب من الله سبق أن لا يؤاخذ أحداً بعمل أتاه على جهالة لمسكم فيما أخذتموه عذاب عظيم، وهذا قول ابن إسحاق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية: "لو عذبنا الله في هذه الآية يا عمر ما نجا غيرك".