فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الصلاة 3
 
وكان صلى الله عليه وسلم لا يعين سورة في الصلاة بعينها لا يقرأ إلا بها إلا في الجمعة والعيدين، وأمّا في سائر الصلوات، فقد ذكر أبو داود من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه أنه قال: مَا منَ المفصَّلِ سورةٌ صغيرةٌ ولا كبيرةٌ إلا وقد سمِعتُ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم يَؤمُّ الناسَ بها في اَلصَّلاةِ المَكْتُوبةِ.
وكان من هديه قراءةَ السورة كاملة، وربما قرأها في الركعتين، وربما قرأ أول السورة. وأما قراءة أواخر السور وأوساطِها، فلم يُحفظ عنه. وأما قراءةُ السورتين في ركعة، فكان يفعله في النافلة، وأما في الفرض، فلم يُحفظ عنه. وأما حديثُ ابن مسعود رضي اللّه عنه: إني لأعرف النظائِرَ التي كان رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم يقرُن بينهن السورتين في الركعة (الرحمن) و (النجم) في ركعة و (اقتربت) و (الحاقة) في ركعة و (الطور) و (الذاريات) في ركعة و (إذا وقعت) و (ن) في ركعة الحديث فهذا حكاية فعل لم يُعين محلَّه هل كان في الفرض أو في النفل؟ وهو محتمِل. وأما قراءةُ سورة واحدة في ركعتين معاً، فقلما كان يفعله. وقد ذكر أبو داود عن رجل من جُهينة أنه سمع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصبح (إذا زلزلت) في الركعتين كلتيهما، قال: فلا أدري أنسيَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم، أم قرأ ذلك عمداً.
فصل
وكان صلى الله عليه وسلم يُطيلُ الركعة الأولى على الثانية مِن صلاة الصُّبح ومِن كل صلاة، وربما كان يُطيلها حتى لا يسمَعَ وقْعَ قدمٍ، وكان يُطيل صلاة الصبح أكثرَ مِن سائر الصلوات، وهذا لأن قرآن الفجر مشهود، يشهده اللَّهُ تعالى وملائكتُه، وقيل: يشهدُه ملائكةُ الليلِ والنهارِ، والقولان مبنيان على أن النزولَ الإِلهي هل يدومُ إلى انقضاء صلاة الصبح، أو إلى طلوع الفجر؟ وقد ورد فيه هذا وهذا.
وأيضاً فإنها لما نقص عددُ ركعاتها، جُعِلَ تطويلُها عوضاً عما نقصته من العدد.
وأيضاً فإنها تكون عقيبَ النوم، والناس مستريحون.
وأيضاً فإنهم لم يأخذوا بَعْدُ في استقبال المعاش، وأسباب الدنيا.
وأيضاً فإنها تكون في وقت تواطأ فيه السمعُ واللِّسان والقلبُ لفراغه وعدمِ تمكن الاشتغال فيه، فَيفهمُ القُرآنَ ويتدبره.
وأيضاً فإنها أساس العمل وأولُه، فأُعطيت فضلاً من الاهتمام بها وتطويلها، وهذه أسرار إنما يعرفها من له التفات إلى أسرار الشريعة ومقاصدها وَحِكَمِهَا، واللّه المستعان.
فصل
وكان صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من القراءة، سكت بقدر ما يترادُّ إليه نفسُه، ثم رفع يديه كما تقدَّم، وكبَّر راكعاً، ووضع كفَّيه على رُكبتيه كالقابض عليهما، ووتَر يديه، فنحاهما عن جنبيه، وبسط ظهره ومدَّه، واعتدل، ولم يَنْصِبْ رأسه، ولم يَخفِضْه، بل يجعلُه حيالَ ظهره معادِلاً له.
وكان يقول: ((سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ))وتارة يقول مع ذلك، أو مقتصِراً عليه: ((سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي)) وكان ركوعُه المعتادُ مقدارَ عشرِ تسبيحات، وسجودُه كذلك. وأما حديث البراء بن عازب رضي اللّه عنه: رَمَقْتُ الصلاةَ خَلْفَ النبي صلى الله عليه وسلم، فكان قيامُه فركوعُه فاعتدالُه فسجدتُه، فجلستُه ما بين السجدتين قريباً من السواء. فهذا قد فَهِمَ منه بعضُهم أنه كان يركع بقدر قيامه، ويسجُد بقدره، ويعتدِل كذلك. وفي هذا الفهم شيء، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصبح بالمائة آية أو نحوها، وقد تقدم أنه قرأ في المغرب بـ (الأعراف) و (الطور) و (المرسلات) ومعلوم أن ركوعه وسجوده لم يكن قدر هذه القراءة، ويدل عليه حديثُ أنس الذي رواه أهل السنن أنه قال: ما صليتُ وراءَ أحد بعدَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أشبهَ صلاة برسول اللّه صلى الله عليه وسلم. إلا هذا الفتى يعني عمرَ بن عبد العزيز، قال: فحزرْنَا في ركوعه عشرَ تسبيحات، وفي سجوده عشر تسبيحات هذا مع قول أنس أنه كان يؤمهم بـ (الصافات) فمرادُ البراء - واللّه أعلم - أن صلاته صلى الله عليه وسلم كانت معتدِلة، فكان إذا أطال القيام، أطال الركوع والسجود، وإذا خفف القيام، خفف الركوعَ والسجود، وتارة يجعلُ الركوع والسجود بقدر القيام، ولكن كان يفعَلُ ذلك أحياناً في صلاة الليل وحدها، وفعله أيضاً قريباً من ذلك في صلاة الكسوف، وهديه الغالبُ صلى الله عليه وسلم تعديلُ الصلاة وتناسبها.
وكان يقول أيضاً في ركوعه ((سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ المَلاَئِكَةِ والرُّوح)). وتارة يقول: ((اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ، وَبِك آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِى وَمُخِّي وَعَظْمِي وَعَصَبِي)). وهذا إنما حُفظ عنه في قيام الليل.
ثم كان يرفع رأسه بعد ذلك قائلاً: ((سَمعَ اللَّهُ لِمنْ حَمِدَه)) وَيَرْفَع يديه كما تقدم، وروى رفعَ اليدين عنه في هذه المواطن الثلاثة نحوٌ من ثلاثين نفساً، واتفق على روايتها العشرةُ، ولم يثبت عنه خِلافُ ذلك البتة، بل كان ذلك هديَه دائماً إلى أن فارق الدنيا، ولم يصح عنه حديثُ البراء: ثم لا يعود بل هي من زيادة يزيد بن زياد. فليس تركُ ابنِ مسعود الرفعَ ممّا يُقدَّم على هديه المعلوم، فقد تُركَ من فعل ابن مسعود في الصلاة أشياء ليس مُعَارِضُها مقارباً ولا مدانياً للرفع، فقد ترك مِنْ فعله التطبيق والافتراش في السجود، ووقوفه إماماً بين الاثنين في وسطهما دون التقدُّم عليهما، وصلاته الفرض في البيت بأصحابه بغير أذان ولا إقامة لأجل تأخير الأمراء، وأين الأحاديثُ في خلاف ذلك من الأحاديث التي في الرفع كثرةً وصحة وصراحةً وعملاً، وباللّه التوفيق.
وكان دائماً يُقيم صُلبه إذا رفع من الركوع، وبينَ السجدتين، ويقول ((لاَ تُجْزِىء صلاةٌ لاَ يُقِيمُ فِيهَا الرَّجُلُ صُلْبَهُ في الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ)) ذكره ابن خزيمة في ((صحيحه)).
وكان إذا استوى قائماً، قال: ((رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ)) وربما قال: ((رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ))وربما قال: ((اللَّهُمَّ رَبَّنَا لك الْحَمْد))صح ذلك عنه. وأما الجمع بين ((اللَّهُمَّ)) و ((الواو)) فلم يصح.
وكان من هديه إطالةُ هذا الركن بقدر الركوعِ والسجود، فصح عنه أنه كان يقول: ((سَمعَ اللَّهُ لِمن حَمِدَهُ، اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، مِلْءَ السَّمَاوَاتِ، وَمِلْءَ الأَرْض، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ وَكُلُنَا لَكَ عَبْدٌ لاَ مَانعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ)).
وصح عنه أنه كان يقول فيه: ((اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالبَرَدِ، وَنَقِّنِي مِنَ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، وَبَاعِد بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ)).
وصح عنه أنه كرر فيه قوله: ((لِرَبِّيَ الْحَمْدُ، لِرَبِّيَ الْحَمْدُ)) حتى كان بقدر الركوع.
وصحَّ عنه أنه كان إذا رفع رأسه من الركوع يمكُث حتى يقول القائل: قد نسِيَ من إطَالَتِه لهذا الرُّكن. وذكر مسلم عن أنس رضيَ اللَّهُ عنه: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا قال سَمعَ اللَّهُ لِمنْ حَمِدَه، قام حتى نقول: قَدْ أَوهَمَ، ُثمَّ يسجُدُ، ثم يَقْعُدُ بين السجدتين حتى نقولَ: قد أوهم.
وصح عنه في صلاة الكُسوف أنه أطال هذا الركنَ بعد الركوع حتى كان قريباً من ركوعه، وكان ركوعُه قريباً من قيامه.
فهدا هديُه المعلوم الذي لا مُعارِض له بوجه.
وأما حديثُ البراء بن عازب: كان ركوعُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وسجودُه وبينَ السجدتين، وإذا رَفَعَ رأسه من الركوع - ما خلا القيامَ والقعُودَ - قريباً مِنَ السواء. رواه البخاري فقد تشبَّث به مَن ظن تقصيرَ هذين الركنين، ولا متعلق له، فإن الحديث مصرّح فيه بالتسوية بين هذين الركنين وبين سائر الأركان، فلو كان القيامُ والقعود المستَثْنَيَيْنِ هو القيامَ بعد الركوع والقعودَ بين السجدتين، لناقض الحديثُ الواحد بعضَه بعضاً، فتعيَّن قطعاً أن يكون المرادُ بالقيام والقعود قيامَ القراءة، وقعود التشهد، ولهذا كان هديُه صلى الله عليه وسلم، فيهما إطالَتهما على سائر الأركان كما تقدم بيانُه، وهذا بحمد اللّه واضح، وهُو مما خفي من هدي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم صلاته على من شاء اللّه أن يخفى عليه.
قال شيخنا: وتقصيرُ هذين الركنين مما تصرَّف فيه أمراءُ بني أمية في الصلاة، وأحدثُوه فيها، كما أحدثوا فيها تركَ إتمام التكبير، وكما أحدثوا التأخيرَ الشديد، وكما أحدثوا غيرَ ذلك مما يُخالف هديَه صلى الله عليه وسلم ورُبِّيَ في ذلك مَنْ رُبَيّ حتى ظن أنه من السنة.