فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الصلاة 5
 
وقد اختلف الناس في القيام والسجود أيُهُمَا أفضلُ؟ فرجحت طائفة القيام لوجوه.
أحدُها: أن ذِكْره أفضلُ الأذكار، فكان ركنُه أفضلَ الأركان.
والثاني: قوله تعالى: {قُومُوا للهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]. الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: ((أَفْضَلُ الصَّلاَةِ طُولُ القُنُوتِ)).
وقالت طائفة: السجودُ أفضلُ، واحتجت بقولِه صلى الله عليه وسلم: ((أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجدٌ)) وبحديث مَعدان بنِ أبي طلحة قال: لقيتُ ثوبانَ مولى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: حدّثني بحديثٍ عسى اللَّهُ أن ينفعَني به؟ فقال: ((عَلَيْكَ بِالسُّجُودِ)) فإني سَمِعْتُ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْجُدُ للَّهِ سَجْدَةً إِلاَّ رَفَعَ اللَّهُ لَهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً)) قال معدان: ثم لقِيتُ أبا الدرداء، فسألتُه، فقال لِي مثلَ ذلك.وقال رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم لِربيعة بنِ كعبٍ الأسلمي وقد سأله مرافقتَه في الجنَّة ((أَعنِيِّ عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ)).
وأولُ سورة أُنزِلت على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سورةُ (اقْرَأْ) على الأصح، وختمها بقوله: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19].
وبأن السجود للّه يقع مِن المخلوقات كلِّها علويِّها وسُفليِّها، وبأن الساجد أذلُّ ما يكون لربه وأخضعُ له، وذلك أشرفُ حالات العبد، فلهذا كان أقرب ما يكون من ربِّه في هذه الحالة، وبأن السجودَ هو سرُّ العبودية، فإن العبودية هي الذُّلُّ والخُضوعُ، يقال: طريق معبَّد، أي ذللته الأقدام، ووطأته، وأذلُّ ما يكون العبد وأخضع إذا كان ساجداً.
وقالت طائفة: طولُ القيامِ بالليل أفضلُ، وكثرةُ الركوع والسجود بالنهار أفضلُ، واحتجت هذه الطائفةُ بأن صلاة الليل قد خُصَّت باسم القيام، لقوله تعالى: {قُمِ اللَيْلَ} [المزمل: ا] وقوله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ قَامَ رَمَضانَ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً))، ولهذا يُقال: قيامُ الليل، ولا يقال: قيامُ النهار، قالوا: وهذا كان هديَ النبي صلى الله عليه وسلم،فإنه ما زاد في الليل على إحدى عشرة ركعة، أو ثلاثَ عشرة ركعة.
وكان يُصلي الركعة في بعض الليالي بالبقرة وآل عمران والنساء وأما بالنهار، فلم يُحفظ عنه شيء من ذلك، بل كان يخفف السنن.
وقال شيخنا: الصواب أنهما سواء، والقيامُ أفضلُ بذكره وهو القراءة، والسجودُ أفضلُ بهيئَته، فهيئَةُ السجود أفضلُ مِن هيئَة القيام، وذكرُ القيام أفضلُ من ذكر السجود، وهكذا كان هَدْيُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فإنه كان إذا أطال القيام، أطال الركوعَ والسجود، كما فعل في صلاة الكسوف، وفي صلاة الليل، وكان إذا خَفَفَ القيام، خَفَّفَ الركوعَ والسجود، وكذلك كان يفعلُ في الفرض، كما قاله البراء بن عازب: كان قيامُه وركوعُه وسجُودُه واعتدالُه قريباً من السواء. واللّه أعلم.
فصل
ثم كان صلى الله عليه وسلم يرفع رأسه مكبِّراً غيرَ رافعٍ يديه، ويرفع من السجود رأسه قبل يديه، ثم يجلِس مفترِشاً، يفرِشُ رجلَه اليُسرى، ويجلس عليها، وَيَنْصِبُ اليمنى. وذكر النَّسائي عن ابن عمر قال: مِن سنة الصلاة أن ينصِب القدم اليمنى، واستقبالُه بأصابعها القبلة، والجلوسُ على اليسرى ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع جلسة غير هذه.
وكان يضع يديه على فخذيه، ويجعل مِرفقه على فخذه، وطرف يده على رُكبته، ويقبض ثنتين من أصابعه، ويحلِّق حلقة، ثم يرفع أصبعه يدعو بها ويُحرِّكها، هكذا قال وائل بن حُجر عنه.
وأما حديث أبي داود عَنْ عبد اللّه بن الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُشير بأصبعه إذا دعا ولا يُحركها فهذه الزيادة في صحتها نظر، وقد ذكر مسلم الحديث بطوله في ((صحيحه))عنه، ولم يذكر هذه الزيادة، بل قال: كان رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم إذا قَعَدَ في الصلاة، جعل قدمَه اليسرى بين فخذه وساقه، وفرش قدمه اليُمْنى، ووضع يَدَه اليُسرى على رُكبته اليسرى، ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، وأشار بأصبعه.
وأيضاً فليس في حديث أبي داود عنه أن هذا كان في الصلاة.
وأيضاً لو كان في الصلاة، لكان نافياً، وحديث وائل بن حُجر مثبتاً،وهو مقدَّم، وهو حديث صحيح، ذكره أبو حاتم في ((صحيحه)).
ثم كان يقول: [بين السجدتين]: ((اللَّهُمَّ اغفِرْ لِي وَارْحَمْنِي واجْبُرني وَاهْدِني، وَارْزُقْنِي)) هكذا ذكره ابن عباس رضي اللّه عنهما عنه صلى الله عليه وسلم وذكر حذيفة أنه كان يقول: ((رَبِّ اغْفِرْ لي، رَبِّ اغفِرْ لِي)).
وكان هديه صلى الله عليه وسلم إطالةَ هذا الركن بقدر السجود، وهكذا الثابتُ عنه في جميع الأحاديث، وفي ((الصحيح)) عن أنس رضي اللّه عنه: كانَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم يقعُد بين السجدتين حتى نقول: قَدْ أَوْهَمَ وهذه السنةُ تركها أكثرُ الناس مِن بعد انقراض عصر الصحابة، ولهذا قال ثابت: وكان أنس يصنع شيئاً لا أراكم تصنعونه، يمكُث بين السجدتين حتى نقول: قد نسي، أوقد أوهم.
وأما من حكَّم السنة ولم يلتفت إلى ما خالفها، فإنه لا يعبأ بما خالف هذا الهديَ.