فصل في دعوى اختصاص ذلك بالصحابة : متعة الحج
 
العذر الثانى : دعوى اختصاصِ ذلك بالصحابة ، واحتجوا بوجوه :
أحدها : ما رواه عبدُ اللَّهِ بنُ الزبير الحُميدى ، حدثنا سُفيان ، عن يحيى بن سعيد ، عن المُرَقِّعِ ، عن أبى ذر أنه قال : كان فسخُ الحجِّ مِن رسولِ اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم لنَا خاصة .
وقال وكيع : حدثنا موسى بن عُبيدة ، حدثنا يعقوب بنُ زيد ، عن أبى ذر قال : لم يَكُنْ لأَحَدٍ بَعْدَنَا أَنْ يَجْعَلَ حَجَّتَهُ عُمْرَةً ، إنَّها كَانَتْ رُخْصَةً لَنَا أَصْحَابَ مَحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم .
وقال البزار : حدّثنا يوسف بن موسى ، حدثنا سلمةُ بنُ الفضل ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن عبد الرحمن الأسدى ، عن يزيد بن شريك ، قُلنا لأبى ذر : كيف تمتَّع رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأنتُم معه ؟ فقال : ما أَنْتُمْ وَذَاكَ ، إنَّما ذَاكَ شَئٌ رُخِّصَ لَنَا فيه ، يعنى المتعة .
وقال البزار : حدثنا يوسف بن موسى ، حدثنا عُبيد اللَّه بن موسى ، حدثنا إسرائيل ، عن إبراهيم بن المهاجر ، عن أبى بكر التيمى ، عن أبيه والحارث بن سويد قالا : قال أبو ذر فى الحجِّ والمتعةِ : رخصةٌ أعطاناها رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم .
وقال أبو داود : حدثنا هنّاد بن السِّرِى ، عن ابن أبى زائدة ، أخبرنا محمد ابن إسحاق عن عبد الرحمن بن الأسود ، عن سليمان أو سليم بن الأسود أن أبا ذر كان يقولُ فيمن حَجَّ ثُمَّ فَسَخَها إلى عُمْرَةٍ ، لم يَكُنْ ذَلِكَ إلاَّ لِلرَّكْبِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم .
وفى (( صحيح مسلم )) : عن أبى ذر . قال : كانَتِ المُتْعَةُ فى الحَجِّ لأَصْحَابِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم خَاصَّةً . وفى لفظ : (( كَانَتْ لَنَا رُخْصَةً )) ، يَعْنى المُتْعَةَ فى الحَجِّ ، وفى لفظ آخر : (( لا تَصِحُّ المُتْعَتَانِ إلاَّ لَنَا خَاصةً )) ، يَعنِى مُتْعَةَ النِّسَاءِ ومُتْعَةَ الحَجِّ . وفى لفظ آخر : (( إنَّمَا كَانَتْ لَنَا خَاصّةً دُونَكُم )) ، يَعْنِى مُتْعَةَ الحَجِّ .
وفى (( سنن النسائى )) بإسناد صحيح : عن إبراهيم التيمى ، عن أبيه ، عن أبى ذر ، فى مُتعِة الحجِّ : لَيْسَتْ لَكُمْ ، ولَسْتُم مِنْهَا فى شَئٍ ، إنَّمَا كَانَتْ رُخْصَةً لَنَا أصحابَ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم .
وفى (( سنن أبى داود والنسائى )) ، من حديث بلال بن الحارث قال : قلت : يا رسول اللَّه ؛ أرأيتَ فسخَ الحجِّ إلى العُمرة لنا خاصَّة ، أم للناس عامة ؟ فقال رسولُ اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم : (( بَلْ لَنَا خًاصَّة )) ، ورواه الإمام أحمد .
وفى مسند أبى عوانة بإسناد صحيح : عن إبراهيم التيمى ، عن أبيه ، قال: سُئِلَ عُثْمَانُ عن مُتْعَةِ الحَجِّ فَقَال : كَانَتْ لَنَا ، لَيْسَتْ لَكُمْ .
هذا مجموعُ ما استدلوا به على التخصيص بالصحابة .
قال المجوِّزون للفسخ ، والموجِبُون له : لا حُجة لكم فى شئ من ذلك ، فإنَّ هذه الآثار بين باطل لا يَصِحُّ عمن نُسِب إليه البتة ، وبين صحيح عن قائل غيرِ معصوم لا تُعارَض به نصوصُ المعصوم .
أما الأول : فإن المُرَقِّع ليس ممن تقوم بروايته حُجة ، فضلاً عن أن يُقدَّم على النصوص الصحيحة غيرِ المدفوعة . وقد قال أحمد بن حنبل وقد عُورِضَ بحديثه : ومَن المُرقِّع الأسدى ؟ وقد روى أبو ذر عن النبى صلى اللَّه عليه وآله وسلم ، الأمر بفسخ الحَجّ إلى العُمْرة . وغاية ما نقل عنه إنْ صح : أنّ ذلك مختصٌّ بالصحابة ، فهو رأيه . وقد قال ابن عباس ، وأبو موسى الأشعرى : إنَّ ذلك عام للأُمة ، فرأى أبى ذر معارَض برأيهما ، وسلمت النصوصُ الصحيحةُ الصريحة ، ثم من المعلوم أن دعوى الاختصاص باطلةٌ بنص النبى صلى اللَّه عليه وآله وسلم أن تلك العُمْرة التى وقع السؤال عنها وكانت عُمْرة فسخ لأبد الأبد ، لا تَختصُّ بقَرن دونَ قرن ، وهذا أصح سنداً من المروى عن أبى ذر ، وأولى أن يُؤخذ به منه لو صحَّ عنه .
وأيضاً .. فإذا رأينا أصحابَ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم قد اختلفوا فى أمر قد صحَّ عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أنه فعله وأمر به ، فقال بعضُهم : إنه منسوخ أو خاص ، وقال بعضهم : هو باقٍ إلى الأبد ، فقولُ مَن ادَّعى نسخَه أو اختصاصَه مخالف للأصل ، فلا يُقبَلُ إلا ببرهان ، وإنَّ أقلَّ ما فى الباب معارضتُه مَن ادَّعى بقاءه وعمومه ، والحجةُ تفصِل بين المتنازعين ، والواجبُ الردُّ عند التنازع إلى اللَّه ورسوله . فإذا قال أبو ذر وعثمان : إن الفسخ منسوخ أو خاص ، وقال أبو موسى وعبد اللَّه بن عباس : إنه باقٍ وحكمُه عام ، فعلى مَن ادَّعى النسخ والاختصاص الدليل .
وأما حديثه المرفوع حديث بلال بن الحارث فحديث لا يـُكْتَبُ ، ولا يُعارَض بمثله تلك الأساطين الثابتة .
قال عبد اللَّه بن أحمد : كان أبى يرى للمُهِلِّ بالحج أن يفسخَ حجَّه إن طاف بالبيت وبين الصفا والمروة . وقال فى المتعة : هى آخِرُ الأمرين من رسول الله صلى اللَّه عليه وآله وسلم . وقال صلى اللَّه عليه وآله وسلم .: (( اجْعَلُوا حَجَّكُم عُمْرَةً )) . قال عبد اللَّه : فقلت لأبى : فحديث بلال بن الحارث فى فسخ الحج، يعنى قوله : (( لنا خاصة )) ؟ قال : لا أقول به ، لا يُعرف هذا الرجل ، هذا حديث ليس إسناده بالمعروف ، ليس حديثُ بلال بن الحارث عندى يثبتُ . هذا لفظه .
قلت : ومما يدل على صحة قول الإمام أحمد ، وأن هذا الحديث لا يَصِحُّ أن النبى صلى اللَّه عليه وآله وسلم أخبر عن تلك المُتعة التى أمرهم أن يفسخوا حَجَّهم إليها أنها لأَبَدِ الأبدِ ، فكيف يثبُت عنه بعد هذا أنها لهم خاصة ؟ هذا من أمحل المحال . وكيف يأمرهم بالفسخ ويقول : (( دَخَلَتِ العُمْرَةُ فى الحَجِّ إلى يَوْمِ القِيَامَة )) ، ثم يثبت عنه أن ذلك مختص بالصحابة دون مَن بعدهم : فنحن نَشْهَدُ باللَّهِ ، أن حديث بلال بن الحارث هذا ، لا يصح عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو غلط عليه ، وكيف تُقدَّم روايةُ بلال بن الحارث ، على روايات الثقات الأثبات ، حملةِ العلم الذين رووا عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم خلافَ روايته ، ثم كيف يكون هذا ثابتاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وابنُ عباس رضى اللَّه عنه يُفتى بخلافه ، ويناظر عليه طول عمره بمشهد من الخاص والعام ، وأصحابُ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم متوافِرون ، ولا يقول له رجلٌ واحد منهم : هذا كان مختصاً بنا ، ليس لغيرنا حتى يظهر بعد موت الصحابة ، أن أبا ذر كان يرى اختصاص ذلك بهم ؟
وأما قول عثمان رضى اللَّه عنه فى متعة الحج : إنها كانت لهم ليست لغيرهم ، فحكمه حكم قول أبى ذر سواء ، على أن المروى عن أبى ذر وعثمان يحتمل ثلاثة أُمور :
أحدها : اختصاص جواز ذلك بالصحابة ، وهو الذى فهمه مَنْ حرَّم الفسخ .
الثانى : اختصاصُ وجوبه بالصحابة ، وهو الذى كان يراه شيخنا قدَّس اللَّهُ روحه يقول : إنهم كانوا قد فُرِض عليهم الفسخ لأمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم لهم به ، وحتمه عليهم ، وغضبه عندما توقفوا فى المبادرة إلى امتثاله . وأما الجواز والاستحباب ، فللأُمة إلى يوم القيامة ، لكنْ أبَى ذلك البحرُ ابنُ عباس ، وجعل الوجوب للأُمة إلى يوم القيامة ، وأن فرضاً على كل مفرد وقارن لم يسق الهَدْى ، أن يحلَّ ولا بد ، بل قد حَلَّ وإن لم يشأ ، وأنا إلى قوله أميلُ منى إلى قول شيخنا .
الاحتمال الثالث : أنه ليس لأحد من بعد الصحابة أن يبتدئ حجاً قارِناً أو مفرداً بلا هَدْى ، بل هذا يحتاج معه إلى الفسخ ، لكن فرض عليه أن يفعل ما أَمَرَ به النبىُّ صلى اللَّه عليه وآله وسلم أصحابه فى آخر الأمر من التمتع لمن لم يَسُقِ الهَدْىَ ، والقِران لمن ساق ، كما صح عنه ذلك . وأمّا أن يَحرم بحج مفرد ، ثم يفسخه عند الطواف إلى عُمرة مُفردةٍ ، ويجعله متعة ، فليس له ذلك ، بل هذا إنما كان للصحابة ، فإنهم ابتدؤوا الإحرام بالحج المفرد قبل أمر النبىِّ صلى اللَّه عليه وآله وسلم بالتمتع والفسخ إليه ، فلما استقر أمره بالتمتع والفسخ إليه ، لم يكن لأحد أن يُخالفه ويُفرد ، ثم يفسخه .
وإذا تأملتَ هذين الاحتمالين الأخيرين ، رأيتهما إما راجحين على الاحتمال الأول ، أو مساويين له ، وتسقط معارضةُ الأحاديث الثابتة الصريحة به جملة ، وباللَّه التوفيق .
وأما ما رواه مسلم فى (( صحيحه )) عن أبى ذر : أن المتعة فى الحج كانت لهم خاصَّة . فهذا ، إن أريد به أصل المتعة ، فهذا لا يقول به أحد من المسلمين ، بل المسلمون متفقون على جوازها إلى يوم القيامة . وإن أريد به متعة الفسخ ، احتمل الوجوه الثلاثة المتقدِّمة . وقال الأثرم فى (( سننه )) : وذكر لنا أحمد بن حنبل ، أن عبد الرحمن بن مهدى حدَّثه عن سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم التيمى ، عن أبى ذر ، فى متعة الحج ، كانت لنا خاصة . فقال أحمد بن حنبل: رحم اللَّه أبا ذر ، هى فى كتاب اللَّه عَزَّ وجَلَّ : {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196].
قال المانعون من الفسخ : قول أبى ذر وعثمان : إن ذلك منسوخ أو خاص بالصحابة ، لا يُقال مثلُه بالرأى ، فمع قائله زيادة علم خفيت على مَن ادَّعى بقاءه وعمومه ، فإنه مستصحِب لحال النص بقاءً وعموماً ، فهو بمنزلة صاحب اليد فى العَيْن المدَّعاة ، ومدَّعى فسخه واختصاصه بمنزلة صاحب البيِّنة التى تُقدَّم على صاحب اليد .
قال المجوِّزون للفسخ : هذا قول فاسد لا شك فيه ، بل هذا رأى لا شك فيه ، وقد صرَّح بأنه رأى مَنْ هو أعظمُ من عثمان وأبى ذر عِمرانُ بن حصينْ ، ففى (( الصحيحين )) واللفظ للبخارى : تمتعنا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ونزل القُرآنُ ، فقال رجل برأيه ما شاء . ولفظ مسلم : نزلت آيةُ المتعة فى كتاب اللَّه عَزَّ وجَلَّ : يعنى مُتعة الحج ، وأمرنا بها رسولُ اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ، ثم لم تنزل آية تنسخ مُتعة الحج ، ولم ينه عنها رسولُ اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم حتى مات ، قال رجلٌ برأيه ما شاء . وفى لفظ : يريد عمر .
وقال عبد اللَّه بن عمر لمن سأله عنها ، وقال له : إن أباك نهى عنها : أَأَمْرُ رَسُولِ اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أحقُّ أن يُتَّبَعَ أو أَمْرُ أَبى ؟، .
وقال ابن عباس لمن كان يُعارِضه فيها بأبى بكر وعمر : يُوشِكُ أن تَنْزِلَ عليكم حِجَارَةٌ من السماء ، أقولُ : قالَ رسولُ اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ، وتقولُون : قال أبو بكر وعمر ؟ فهذا جوابُ العلماء ، لا جوابُ مَن يقول : عثمانُ وأبو ذر أعلمُ برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم منكم ، فهلاَّ قال ابنُ عباس ، وعبدُ اللَّه بن عمر : أبو بكر وعمرُ أعلمُ برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم منا ، ولم يكن أحدٌ مِن الصحابة ، ولا أحدٌ من التابعين يرضى بهذا الجواب فى دفع نصٍ عن رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وهم كانوا أعلمَ باللَّهِ ورسوله ، وأتقى له من أن يُقَدِّمُوا على قول المعصوم رأىَ غيرِ المعصوم ، ثم قد ثبت النصُّ عن المعصوم ، بأنها باقية إلى يوم القيامة . وقد قال ببقائها : علىُّ بن أبى طالب رضى اللَّه عنه ، وسعدُ بن أبى وقَّاص ، وابن عمر ، وابن عباس ، وأبو موسى ، وسعيد بن المسيِّب ، وجمهور التابعين ، ويدل على أن ذلك رأى محض لا يُنسب إلى أنه مرفوع إلى النبىَّ صلى الله عليه وسلم ، أن عمرَ بن الخطَّاب رضى اللَّه عنه لما نهى عنها قال له أبو موسى الأشعرى : يا أمير المؤمنين ؛ ما أحدثتَ فى شأنِ النُّسُك ؟ فقال : إن نَأخُذْ بِكِتَاب رَبِّنَا ، فإنَّ اللَّه يقُول : {وَأَتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، وإنْ نَأْخُذْ بِسُّـنَّةِ رَسُولِ اللَّه صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم ، فإنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وآله وسلم لم يَحِلَّ حَتَّى نَحَرَ ، فَهَذَا اتِّفَاقٌ من أبى موسى وعمر ، على أن منع الفسخ إلى المتعة والإحرام بها ابتداءً ، إنما هو رأى مِنه أحدثه فى النُّسُك ، ليس عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم . وإن استدل له بما استدل ، وأبو موسى كان يُفتى الناسَ بالفسخ فى خلافة أبى بكر رضى اللَّه عنه كُلِّها ، وصدراً من خلافة عمر حتى فاوض عمرُ رضى اللَّه عنه فى نهيه عن ذلك ، واتفقا على أنه رأى أحدثه عمر رضى اللَّه عنه فى النُسُك ، ثم صحَّ عنه الرجوعُ عنه .